مجلة الرسالة/العدد 169/قصة المكروب كيف كشفه رجاله
→ في الأدب المقارن | مجلة الرسالة - العدد 169 قصة المكروب كيف كشفه رجاله [[مؤلف:|]] |
ميلاد. . .! ← |
بتاريخ: 28 - 09 - 1936 |
ترجمة الدكتور أحمد زكي
مدير مصلحة الكيمياء
صلة الحديث
أراد متشنيكوف أن يفسر حصانة الإنسان من الأمراض فنسبها إلى كريات دمه البيضاء، وأسمى هذه الكريات بالفاجوسات ومعناها (الملتهمة) لأنها تلتهم المكروب الداخل في الدم فتهضمه وتعدمه. فالحصين من الناس من قويت فاجوساته على المكروب الغازي، والقابل للعدوى منهم هو الذي تضعف فاجوساته من المكروب فتنهزم أمامه. وقاد متشنيكوف الدفاع عن النظرية الفاجوسية في باريس، وقاد الألمان مدفوعين بالعداء السياسي للفرنسيين حركة منظمة ضد هذه النظرية. وعزوا حصانة الناس إلى بعض خصال في مصل دمائهم. وبالغ متشنيكوف في كراهة الألمان فلم يطق أن يسمع من أحد أن لمصل الدم شأناً في حصانه الإنسان أصلا.
الحَصانة واليهودي الأفَّاق
ولم يكن المعمل الذي استقله متشنيكوف في معهد بستور مملا فحسب، فقد كان فيه من الألوان ومقتضيات الفن ما في مَشغَل رسام وكان فيه من أسباب التفريج والتسلي ما في مِهرجان لهوٍ منصوب بقرية، وكان فيه من الحمية والحرارة واللذة القوية ما يجده المشاهد في سِرْك كثير الشِّعاب رحب الجناب، فلا تعجب بعد ذلك إذا علمت أن الشباب من أطباء أوربا قصدوه من كل ركن فيها يطلبون صيادة المكروب عنده؛ أما عقولهم فانطاعت عفوا لهذا الباحث الكبير، وقد كان كذلك منوّماً مغناطيسياً خطيراً، وأم أصابعهم فقد سبقتهم إلى إجراء عشرات الألوف من التجارب التي انطلقت من رأس أستاذهم حثيثة كما تنطلق الصواريخ في الألعاب النارية من أصولها المتفرقعة.
كأني بك تسمعه ينادي: (يا سيد سَلْتيكوف! هذا تلميذ للأستاذ بفيفار الألماني يقول إن مصل الخنزير الغيني يستطيع أن يحيي خنازير أخرى غينية من الموت بكوليرا الخنازير. فهل لك أن تتفضل بإجراء تجربة تمتحن بها هذه الدعوى؟) فلا يكاد يتلقى هذا العابد لسيّد مشيئة متشنيكوف حتى يهرع إلى تحقيقها، وهو يعلم حق العلم أي تحقيق يُراد - تحقيق أن هذا الأستاذ الألماني إنما ادعى باطلاً وقال خَرَفا. وكانت تعرض لمتشنيكوف مئات من تجارب دقيقة لا تصبر عليها أصابعه الملولة فيدفع بها إلى بلاجو فستشنسكي أو إلى هوجنشمت أو إلى فجنر أو إلى غرجيفسكي أو إلى سفتشنكو الذي نسيه الناس الآن، أو إذا كان هؤلاء مشغولين إذن فإلى زوجته أُلجا فقد كان يغريها بترك ما هي فيه من رسم الزيت أو تشكيل الصلصال لتقوم ببعض هذه التجارب؛ وكانت جديرة بحل أعقد العُقد. ففي هذا المعمل كان مائة قلب ولكنها دقت معا؛ وكان به مائة رأس ولكن بها فكرة واحدة ولها غاية واحدة: أن تكتب أنشودة شعرية حماسية كبرى عن تلك لكرات الصغيرة المكوّرة الشفّافة الأفاقة التي تدور في دمائنا تتشمم عن مكروبة عادية قاتلة، فإذا وجدتها سبحت نحوها واخترقت جدران الأوعية الدموية إليها حيثما كانت؛ فإذا لقيتها فالحرب العوان بينهما حتى يذهب السوء المنذر عن الجسم أو هي تموت دونه.
وكانت المؤتمرات الطبية الكبرى في تلك الأيام مؤتمرات صاخبة ثائرة ملؤها الحجاج في أمر المكروب وأمر الحصانة؛ وكان متشنيكوف يحضرها دائماً؛ فقُبيل اجتماع أحدها بأسابيع كنت ترى معمله لا يهدأ أبداً من كثرة ما تروح الأقدام وتجيء فيه؛ وكنت تسمع متشنيكوف يصيح برجاله: (هيّا، هيّا، فلا مندوحة عن الإسراع حتى تتم كل التجارب التي نريدها لإثبات حجتي). فيقوم الأعوان المخلصون العابدون باقتصاد ساعتين فساعتين من نومهم كل ليلة في سبيل العمل؛ ويشمّر متشنيكوف نفسه عن ساعديه، ويرفع محقنة بيمينه ويضربه في شتيت الحيوانات وعديدها، يحْضرها له مساعدوه حتى يتصبب العرق من جباههم. فمن صغار أنواع كبيرة من الخنافس إلى الضفادع الخضراء إلى التماسيح، إلى سميدرات مكسيكية عجيبة حتى لجرُّوا الشباك في قيعان البرك يطلبون سمك الفرخ والجدجون نعم يقوم بحّاثنا الفيلسوف المجنون على كل هذه الخلائق الهادئة المتطامنة التي لا تشكو ولا تتضرر فيطلق فيها المكروب من محاقنه وقد لمعت عيناه واحمر وجهه العريض فبات كاللهب المتأجج من خلف لحيته، وقد تلوث شاربه بما تناثر عليه من المكروبات بسبب انفعالاته النفسية وتلويحاته الشعرية. وكان يقول: (أنا إنما أكثر تجاربي هذا التكثير لأزيد نظريتي إثباتاً).
كان عقل متشنيكوف لا يفتأ يتخيل الخيالات عن الطبيعة، ويبتدع القصص عن الكون، ولكن من العجيب المدهش أن هذه الخيالات كثيراً ما تحققت عند التجربة، وهذه القصص كثيراً ما ثبتت عند البحث والاستقصاء. صاح ألماني يقول: (ليس في نظرية الفاجوسات التي خلقها متشنيكوف شيء ذو بال أو خطرٌ كبير، فكل الناس يعلم أن المكروبات قد تُرى داخل الفاجوسات، ولكن هذه الفاجوسات الأفّاقة لا تَخْفُر لجسم ولا تدفع عنه سوءا، وإنما هي قَشّاشة تأكل من الفضلات ما تلقَى، فهي إذا أكلت المكروبات فلا تأكل لا الميّت منها). وكان المؤتمر اللندني لعام 1891 يزداد موعده اقتراباً، فصاح متشنيكوف يطلب خنازير غينية، فلما جاءته حقنها فحصّنها ببشلات تشبه بشلات الكوليرا كان اكتشفها صديقه القديم المنكود الدكتور (جماليّه)؛ وبعد أسبوع أو نحو أسبوع قام هذا الفيلسوف اللحيانيّ فحقن زريعة حية شريرة مُخطِرة من هذه البشلات في بطون الحيوانات الحصينة، وأخذ في الساعات التي تلت يمتص من هذه البطون في فترات قصيرة قطرات من سائلها بواسطة أنبوبة دقيقة من الزجاج، ثم يضع هذه القطرات تحت عدسة مجهره القذرة، قَذَرَ قلةٍ أو قذر كثرة، ليرى ما تصنع فاجوسات الحيوانات الحصينة ببشلات الدكتور جماليّه. حدّق في المجهر ليرى، فرأى غاية مُناه! رأى هذه الفاجوسات المكوّرة الزاحفة المتثاقلة قد أكلت من هذه البشلات حتى امتلأت!
قال متشنيكوف: (والآن علي أن أثبت أن هذه المكروبات التي بداخل هذه الفاجوسات مكروبات لا تزال حيّة تُرزق). وقتل الخنزير الغيني وشق بطنه فانفتح، فمصّ منه شيئاً من هلامه الرمادي؛ وما كان هذا الهلام إلا خلاياه الأفاقة اجتمعت في البطن لحرب المكروب الداخل والتهامه. وبعد زمن قليل ماتت تلك الخلايا الأفاقة، تلك الفاجوسات التي لا تحتمل الحياة خارج الجسم طويلاً؛ ماتت فانشقَّت فخرجت منها تلك البشلات الحية التي كانت ابتلعتها وهي في بطن الخنزير. فلم يُلبّث متشنيكوف طويلاً حتى حقن هذه البشلات في خنازير غير حصينة فما أسرع ما قتلتها.
وبهذه التجربة، وبعشرات من تجارب بارعة من أمثالها، أرغم متشنيكوف خصومه فاعترفوا له بأن الفاجوسات تلتقم المكروبات الخبيثة أحياناً. ولكن الذي يؤسف له أن متشنيكوف أضاع حياته وأنفق طاقة عقله الجبار في عمل تجارب قصد بها الدفاع عن فكرة حِواريّةٍ لا كشف أسرار الطبيعة. نعم لقد كنت تجاربه بديعة مألوفة، وكثيراً ما كانت تلذّ الفكر وتُمتع الخيال، ولكنها كانت مصطنعة اصطناعا، وكانت ترمى بعيداً عن الغرض الأهم الأخطر وهو كشف السر في أننا حصينون. كان له رأس يقدر على احتواء الكثير الشتيت من المعارف، فما كان أجدرها أن تتجه بكل حولها وذخيرتها إلى حل عقدة الحصانة، فتفسر لنا كيف أن الطفل قد ينشأ في مباءة من السل ثم هو لا يجيئه، بينما طفلة أخرى تُنَشَّأُ على قواعد الصحة في عناية وحذر فلا تبلغ سن العشرين حتى تموت من السل. هذه هي أُحْجية الحصانة المستغلة، وهي إلى اليوم أحجية مستغلة. فانظر ما كان يصنع تجاهها متشنيكوف؟ كان يقول: لا شك أن الفاجوسات في هذه الحالة لا تعمل عملها، فهي لا شك لأمرٍ ما تعطلت)، ثم هو يهرع إلى المعمل ليُدهش خصيمه بإثبات أن فاجوسات التماسيح تأكل بشلات حمى التيفود. وما للتماسيح وللتيفود وهو لا يصيبها أبداً!
وأخلص له مساعدوه في المعمل إخلاصاً نادراً عجيباً، فأذنوا له فأطعمهم بشلاّت حيّة خبيئة من بشلات الكوليرا ليثبت أن الدم لا دخل له في حصانتنا منها. وبلعَ البشلاتِ فيمن بلع شابةٌ من تلك الأوانس الجميلات اللاتي يسترشد بوجوههن ويستوحى من فتنتهن، ومضت سنوات أُغرم فيها باللعب بأرواح أعوانه البُحّاث وهم عبّاده الطائعون، وأقرّ بأنه إنما كان جنوناً ذلك الاغرام. وليس شيءٌ يعذره من هذا الاغرام ويصفح عنه هذا الإجرام إلا أنه هو نفسه لم يتأخر خطوة عن مسايرتهم بالمخاطرة بحياته، بل لقد بلع هو نفسه من أنابيب البشلات أكثر مما بلعه أيهم منها؛ وفي أثناء هذا التلاعب بالنار مرض أحد أعوانه مرضاً شديداً وظهرت عليه أعراض الكوليرا الأسيوية الصميمة، فندم متشنيكوف ندامة كبرى، وكان يقول في وجيعته وأساه: (أي جوبي! ليس لي بعد موتك حياة)، فلما سمعت أُلجا ذلك منه اتخذت حيطتها فلزمت زوجها الشهير ليل نهار خشية أن يعاوده خاطر انتحاره القديم؛ وكثيراً ما كان جاءه ولكنه لم يثمر ثماره أبداً. وفي ختام هذه التجارب الغريبة، أخذ من دم الناجين من أعوانه فحقنه في دم خنازير غينية، ثم حقن هذه الخنازير بزريعات من بشلات كوليرا حادة، فماتت هذه الخنازير ولم تنفعها دماء هؤلاء الرجال شيئاً. فاغتبط بهذا الفلاح، وكان يكره أشد الكره أن يكون للدم خطر في هذا أبداً، وكتب: (إن كوليرا الإنسان مَثَل آخر من أمثلة الأمراض التي لا يمكن أن يُعزى سبب لشفاء منها لمناعة الدم أصلاً).
وقد يكون من تلاميذه تلميذ وهبه الله مقداراً غير عادي من استقلال الرأي وحرية الفكر، فيقع في أبحاثه على خاصة عجيبة من خواص الدم، فيأتي إلى أستاذه يهمس في أذنه بالذي اكتشف، فإذا بالأستاذ تطول قامته، وترتفع هامته، وينتفخ صدره زهواً وكبراً كأنه موسى الكليم يهبط جبل الطور إلى الوادي؛ وإذا به يأمر بهذا الخارج الثائر الزنديق الذي لا يؤمن بنظريته أن تُحرق جثته، ثم هو يقوم على الجثة يفرغ ماء عينيه بكاء وقد عزّه العزاء وافتقد فيه الصبر والسلوان. لم يكن معمله بالمكان الهانئ الوادع السعيد للبحّاث الذين يطلبون الحقيقة الصرف. ومع هذا فإلى متشنيكوف يعزى بعض الفضل في اكتشاف طائفة من أعجب خواص الدم، ذلك لكثرة التجارب التي أجريت في معمله ولاختلاف عدد كبير من بحّاث متحمسين عليه فيه. مثال ذلك الباحث الشهير برديه جاء يعمل مع الأستاذ، والأستاذ في أكبر مجده وأذيع صيته. وكان برديه ابن معلم قرية صوني ببلجيكا؛ وكان حيياً لا يُؤبه لمظهره؛ وكانت به عادات من إهمال وقلة مبالاة؛ وكانت له عينان زرقاوان كالماء ذاهلتان لا تبصران شيئاً مما تقعان عليه، ولكنهما أبصرتا ما لم يبصره غيره من البحاث. بدأ عمله في معمل متشنيكوف، وأخذ يبحث في الدم يستجلي خفاياه، فاستجلى أموراً جليلة منه، وذلك في ظل لحية متشنيكوف وعلى صدى صيحته الصارخة بالفاجوسات وللفاجوسات. ووضع هذا البلجيكي أسس تلك الاختبارات العجيبة الدقيقة التي يختبر بها الدم اليوم في جنايات القتل ليُعرَف أهو من إنسان أو حيوان. وفي هذا المعمل قام بأبحاث أدّت بعد سنوات إلى اختبار الدم الشهير الذي به يُكشَف عن وجود الزُّهري في دم الإنسان، ذلك الاختبار المعروف اليوم باختبار فَسَرْمَنْ
على أن برْديه لم يَسلم من غضبات متشنيكوف أحياناً كثيرة، ولكن الأستاذ كان كثير العُجْب بتلميذه، وكان كلما وجد برديه في الدم شيئاً يضر بسمعة المكروبات - ومع هذا قد ينفع في تحصين الناس منها - أغمض متشنيكوف عينه على القذى كارهاً وقام يغري نفسه بإجراء تجارب لا بأس بها تثبت أن هذا الشيء الذي وجده برديه في الدم إنما جاء أصلاً من الفاجوسات. ولم يُقم برديه في معمل منتشنيكوف طويلاً. . . .
واقترب ختام القرن التاسع عشر، وتحوّل بحث المكروبات، فبعد أن كان يَنْفُر إليه كل مخاطر مغامر، أخذت تعالجه طائفة من شباب الأطباء انصرفوا إليه في هدوء وسلام وتؤدة وتبصر واحترفوه احترافاً، فلم يجمحوا فيه بالخيال، ولم يتنبئوا فيه بالغيب. عندئذ تحوّل متشنيكوف كذلك بعض التحوّل عن غضباته المرة وإساءاته المنكرة إلى كل من لم يكن يرى الأمور بعينه. ونال الشارات وحظِيَ بالمكافآت المالية. ودخل يوماً مؤتمراً دخول الملك المستعظم فحظي فيه حتى بتصفيق الألمان واحترامهم. وكان عندئذ آلاف من البحّاث قد لمحوا آلافاً من الفاجوسات تبتلع آلافاً من المكروبات. ولو أن هذه لم تفسر لنا سبب الحصانة - لم تفسر لنا كيف أن رجلاً تصيب صدره النيومونيا فتقتله، بينما رجل آخر تصيبه فتعتريه نوبة من عرق صبيب يشفى عقبها - إلا أنه مع ذلك ثبت يقيناً أن الفاجوسات تأكل مكروب النيومنيا أحياناً وتذهب به وبشره. وهذا الثبوت لا شك يرجع فضله إلى متشنيكوف بصرف النظر عن فساد حججه وضيق صدره وقلة تسامحه وعناده. ولا شك كذلك في أن هذا ثبوت لحقيقة علمية كبرى ليس بمستغربٍ أن تؤدي إلى تخفيف آلام البشرية لو أن القدر ساق إلى هذا العالم البائس عبقرياً حلاّما حذّاقاً للتجربة يفضح لنا السر في أن الفاجوسات تأكل المكروبات أحياناً ثم هي تَعَفّ عنها أحياناً، أو لعله فوق ذلك يغريها بأكلها دائماً أبداً.
(يتبع)
أحمد زكي