مجلة الرسالة/العدد 168/عمر بن الخطاب
→ في الأدب المقارن | مجلة الرسالة - العدد 168 عمر بن الخطاب [[مؤلف:|]] |
جامعة الإسكندرية ← |
بتاريخ: 21 - 09 - 1936 |
للأستاذ علي الطنطاوي
(أهدي هذا الفصل إلى. . . . . . صاحب (الرسالة)، اعترافاً بفضله وفضل رسالته علي، فأنه لولا التشجيع الذي تفضل علي به يوم صدر كتابي (أبو بكر الصديق) لم يؤلف هذا الكتاب)
(علي).
- 1 -
. . . في يوم وَهِج من أيام الصيف، قد خَدِر واشتدّ حرّه، في الهاجرة الملتهبة، كان يسير على رَمْضاء مكة - وقد تسعَّرت الأرض وتوقدت، واستحالت جمرة مشتعلة - رجل ضخم الجثة مفرط الطول، شديد الأسر، قد توشح سيفه، وأقبل مسرعاً يطأ الأرض وطأ عنيفاً، فتحس كأن قد تقلقلت تحت أقدامه، ويرمي كل شيء حوله بنظرات حادة ينبعث منها الغضب، ويتطاير منها الشرر، لا يبالي بالشمس المتقدة، ولا الحصى المتسعّرة، ولا يحفل السموم الذي هب سخناً يلفح الوجوه، كأنه فيح جهنم. . . لأن له غاية فهو يسعى إليها، إنه يريد أن يقتل (سيّد العالم)!
ذاك هو (عمر) الجاهليّةِ. . . رجل يعيش في الظلام، وراء سور التاريخ، لم يَدْنُ منه، ولم يلجْ حماه، ولم يُلْقَ عليه نوره؛ رجل يمشي في هذه القافلة الجاهلية، التي تبدأ من وسط الرمال، في قلب الصحراء، ثم تسير على الرمال، رمال الصحراء، ثم تنتهي في الرمال، في الصحراء. . . تبدأ من العدم، وتنتهي إلى العدم، قبل أن تبلغ أرض المدنية، أو تصل إلى حدود العمران، أو تدنو من مهاد العلم والحضارة والحياة. . .
رجل يعيش بغير أسم، ويموت بلا ذكر!
- 2 -
قف أيها الرّجل! تودع من جاهليتك، إن عرشك في التاريخ قد أُعِد لك لتستوي عليه، إن محمداً (ﷺ) سيضع في يدك المفتاح الذي يفتح لك أبواب (التاريخ) الذي جهلك وأنكرك، ولم يَدْرِ بك. . . لتدخل حرمه، ثم تعلوا في مراقيه، ثم توغل في ساحاته وأبهائه، حتى تصل إلى السدّة العليا، فتجلس عليها، دون الأنبياء وفوق العظماء!
قف أيها الرجل! ألقِ عنك هذا السلاح الذي جئت تحارب به دين الله: إن دين الله لا يحارب!
ارم هذا السيف الذي توشحته لتقتل محمداً، وتقضي على بدعته الجديدة، وتبيد أصحابه التسعة والثلاثين! إن محمداً رسول الله وسيد كل من قال: أنا إنسان، لن يقتل! إن هذه البدعة التي كتب لها أن تغلب على العالم، وتبقى ما بقى الزمان ظافرة منصورة لن يقضى عليها. إن هؤلاء التسعة والثلاثين رجلاً سيملكون الدنيا؛ سيصيرون أربعين ألفاً، أربعين ألف ألف، أربعمائة ألف ألف، سيصيرون هم سكان هذه الكرة. . . إنهم لن يبيدهم سيفُك يا عمر!
بل سيعزّهم الله بك، ويستجيب فيك دعاء نبيّه ومصطفاه، ﷺ. . . فتعال! اغمد هذا السيف. اقبض هذه اليد التي رفعتها لتضرب بها امرأة. تعال اغتسل من شركك وجهالتك وجفائك وقسوتك. إنك ستمشي إلى مشرق النور، إلى دار الأرقم في أصل الصفا، فتشهد فيها أنه لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله!
يا لسرّ الكلمة السماوية: لا إله إلا الله محمد رسول الله! لقد نقلت عمر من ظلمة الجاهلية إلى نور الإسلام، ومن حضيض الخمول إلى قُنّة المجد، ومن مهامِهِ النسيان إلى صدر التاريخ. . لقد ذهب عمر الفظّ القاسي الذي كان مطية لقريش في ظلمها وشركها وجبَروتها الزائف، فينصر الباطل على الحق، والشرك على التوحيد، وجاء الفاروق العادل الرؤوف الرحيم، البطل الخالد العظيم، العبقريّ الذي أدار أربع ممالك، لقد جاء أمير المؤمنين، سيف الإسلام وعزّ الدين!
يا للعجب العجاب! إن الرجل الذي خرج في الهاجرة المحرقة، في هذا اليوم العصيب، منتضياً سيفه، لا يلوى على شيء حتى يقتل محمداً، قد رجع وهو يحب محمداً (ﷺ) أكثر من أمّه وأبيه والناس أجمعين!
إنها قد تعرض للمرء لحظات تبدل مجرى حياته، ولكنا لا نعرف - ولا يكاد يعرف أحد - مثل هذه اللحظة المباركة، التي قلبت هذا الرجل قلباً، فارتقى مرّة واحدة من بدويّ منكر لا يعرفه إلا قومه، إلى عبقريّ سيعرفه التاريخ بأنه قاهر كسرى وقيصر وباني الكوفة والبصرة، وأنه أقوى وأرق وأعقل وأعدل ملوك الزمان - هذه اللحظة التي أثرت في حياة العالم فأزاحت دولاً وأقامت دولاً، وثلت عروشاً، وبَنت حضارات.
أسلم الفاروق، فليفرق بين الحق والباطل، ولينتقل الإسلام من دين مستتر يفرّ من قريش العاتية الظالمة المستكبرة، مختبئ في حاشية من حواشي مكة التي يصول في بطاحها الشرك ويجول، وتقوم حول كعبتها الأصنام، إلى دين ظاهر مجاهد، يجابه الخصوم، ويصمد للأعداء. لقد كان الإسلام ساكناً تحت الصفا يعمل بهدوء ويتكامل في الخفاء، كما تتكامل البذرة في باطن الأرض؛ فليخرج الغصن ولينمُ في الهواء، وليسمُ إلى العلاء، ليكون منه بعد ثلاثين سنة الدوحة التي تمتد فروعها من صحراء أفريقيا إلى سهول خُراسان، ومن جبال الأناضول، إلى ساحل عُمان. . .
ليعلن الإسلام (بمظاهرة) تسير في شوارع مكة على رأسها (حمزة) أسد الله و (عمر) الفاروق حتى تنتهي إلى المسجد الحرام، فيصلي المسلمون عند الكعبة أول صلاة بجماعة، وإمامهم إمام الأنبياء وسيد المرسلين (ﷺ)، ولتتقطع أفئدة قريش من الحنق، وليموتوا بغيظهم. انهم لا يستطيعون أن يصنعوا شيئاً. لقد أسلم الفاروق، وفرق الله به بين الحق والباطل! إنها (مظاهرة) صغيرة، لم يسر فيها إلا أربعون رجلاً، ولكنّ هؤلاء الأربعين هم الذين صنعوا الأربعمائة مليون مسلمي اليوم، ولا يعلم إلا الله ماذا يصنعون غداً. . . ولكن فيهم حمزة، فيهم عمر العظيم، فيهم خلاصة الإنسانية، وأفضل الأنس والجن والملائكة، محمد رسول الله!
إن هذه (المظاهرة) التي سار فيها أربعون شخصاً مائتي خطوة، من الصفا إلى الكعبة، لهي أعظم (مظاهرة) عرفها التاريخ لأعظم مبدأ قام لتقرير التوحيد، وتأييد الحق ونصرة الفضيلة، وتحقيق المثل العليا في الحق والخير والجمال.
إنها تسير أبداً، تسير في الأدمغة والقلوب، ما بقيت أدمغة وقلوب يحفّ بها الإجلال والإكبار.
- 3 -
ولكن ماذا كان عمر لولا الإسلام؟ هل كانت هذه العبقرية النادرة، وهذه النفس العجيبة التي تظهر لو لم يلمسها (محمد) بيده الكريمة ويهزها ويُفِضْ عليها من نوره؟ هل كان لعمر هذه المكانة في التاريخ وهذه المنزلة في النفوس؟ هل كان يعيش إلى هذا العصر ويؤلف فيه عشرون كتاباً، ويبقى إلى العصر الآتي ويكتب فيه ألف كتاب؟
إن من يدقق في سيرة عمر، ويقابل بين عمر الجاهلية - على قلّة ما لدينا من أخباره - وعمر الإسلام، ويرى كيف استحال عمر من شخص إلى شخص، وتبدلت طبائعه وأفكاره في اللحظة التي وقف فيها أمام النبي ﷺ ونطق بكلمة الشهادة وكيف ولد في تلك اللحظة ولادة جديدة وبدأ يصعد في مدارج العلاء. . . إلى ذروة المجد. . . إلى الجنّة، علم أن عمر مدين للإسلام بكل شيء.
نعم، قد تظهر هذه العبقرية ولو لم يتداركها الإسلام، وتبدو آثارها، ويصبح عمر زعيماً من زعماء مكة، يبرز ويعظم أثره في قريش، ثم لا يتجاوز اسمه هذا الوادي الذي يمتد ستة أكيال من جرول إلى الحجون، بعرض كيلين أثنين - أما أن يتخطى أثره الأخشبين إلى البادية، ويقطع البادية إلى الشام والعراق، وينفذ إلى الأجيال الآتية فشيء لم يكن ليناله عمر لولا الإسلام.
وماذا كانت تصنع هذه العبقرية وهي محصورة في هذا الأفق الضيق؟ وما كان يصنع وهو يعيش في بلدة منقطعة عن العالم تائهة في لجٍّ من الرمال ما له آخر لا صلة لها بالبلدان العامرة إلا صلة التجارة الضعيفة، ولا تأتيها أخبار العالم إلا رثة بالية، ولا نبأ عندها من فلسفة يونان، أو حكمة الهند، أو أخبار السياسة الدَّوْلية بين فارس والروم؟
هل يغير مصباح محبوس في صندوق مغلق؟ أم يشتعل وحده لا يدرى به أحد، ثم يفنى زيته، فينطفئ وحده لا يعلم به إنسان؟
أما كانت تمضي عبقرية عمر كما مضت ألوف من العبقريات دفنت حية في بقعة معتزلة من بقاع الأرض، في قوم متأخرين، ولم تتصل بسمع التاريخ؟
أما إن عمر شعاعة من نور الإسلام، ومعجزة من معجزات رسول الله ﷺ!
- 4 -
لما استفاق بنو قريش من الغشية التي أصابتهم عند ما أسلم عمر عادوا يكيدون للدين، ويؤذون النبي والمسلمين، والنبي (ﷺ) ماضٍ في دعوتهم، صابر على أذاهم، ينذرهم بطش الله، ويعدهم إذا أسلموا ملك فارس والروم، ويعدهم جنة عرضها السماوات والأرض، وهم ماضون في إعراضهم، لا يتدبرون القرآن، ولا تخشع له قلوبهم التي هي أشد قسوة من الحجارة (وَإِنَّ مِنَ الحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأنهارُ، وإِنَّ منها لمَا يشَّقَّقُ فيَخرُجُ مِنْهُ المَاءُ، وَإِنَّ مِنْها لمَا يَهبطُ مِنْ خَشْيَةِ الله) يا لهذه القلوب التي هي أغلظ من الجبال! (لَوْ أَنْزَلْنَا هذا القُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ). وهذه القلوب التي أنزل عليها القرآن لا تخشع ولا تلين!
طلعت الشمس على وادي مكة أربعة آلاف وأربعمائة وأربعا وعشرين مرّة والمشهد واحد لم يتغير.
نبي الله يدعو الناس إلى الله، سراً وعلناً، فرادى وجمعاً، ليلاً ونهاراً؛ وبنو قريش يناوئونه ويحاربونه ويؤذونه، يلقون الشوك في طريقه وهو ماشٍ، ويرمون سلى الجزور على رأسه وهو ساجد، ويُغرون به سفهاءهم وأحداثهم، ويفتنون في تعذيب المسلمين، وتخرق لهم أدمغتهم الشيطانية طرقاً في التعذيب تقشعر لهولها الأبدان، ويقاطعون المسلمين لا يكلمونهم ولا يبايعونهم ولا يزوجونهم، ويحصرونهم في الشِّعب سنتين، ثم يعدون عدد الجريمة الكبرى، يأتمرون بالنبي ليقتلوه، ويضيّعوا دمه في القبائل، فلا يقدر عليه بنو عبد مناف.
فختام الصبر على هذا؟ أيقف هؤلاء المشركون الجاهلون من رؤوس قريش وزعماء مكة في وجه الإسلام، الذي ما جاء لقريش ولا للعرب، ولا للقرن السابع الميلادي، ولكن جاء رحمة للعالمين، وهدى للناس أجمعين، في كل عصر وفي كل بادية ومصر؟ أهؤلاء يمحون الإسلام من الأرض محواً؟ يا للسخفاء المغرورين! (يُريدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبى اللهُ إلاّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ) وينصر نبيه، ويظهر دينه (عَلَى الدِّينِ كُلِّه).
لم يعد في قوس الصبر مَنزَع، فليس الإسلام في طريقه - نحو أرض الشام - نحو الظلال والأعناب، فليستقر في الطريق، (في المدينة) حيناً، ثم ليخرج من يثرب، ليعم العالمين.
أيها المسلمون. . . هاجروا إلى المدينة!
أذن النبي ﷺ للمسلمين بالهجرة إلى المدينة، فخرجوا إرسالاً مستخفين مستترين، ينسلّون من مكة انسلالاً، فلا تدري بهم قريش، إلا وهم في المدينة على رأس الجيش الذي يسحق رؤوس الكفر في (بدر)، ثم يمضي إلى (فتح مكة).
لكن عمر؟ عمر القويّ الذي ما لان للمشركين؛ عمر الذي أعلن إسلامه وذهب يضرب المشركين ويضربونه، ويجد في ذلك لذة وراحة؛ عمر الذي حماه خاله أبو جهل، وأجاره من أذى قريش، فضرب وجهه بجواره وأباه، وعاد إلى قريش يَضرب ويُضرب، ثم لا يكون إلا غالباً، يدفع عن نفسه، وعن المستضعفين من المسلمين.
عمر يذهب من مكة مستخفياً؟ معاذ الله يا عمر!
تهيأ عمر للهجرة، فتقلد سيفه، وتنكب قوسه، وانتضى بيده أسهماً، واختصر عنزته وذهب إلى المسجد، فاستقبل قريشاً بالسلاح الكامل، فطاف بالبيت سبعاً، ثم أتى المقام فصلى، ثم وقف على الملأ من قريش، فأعلن وحده الحرب عليهم جميعا. . . . فقال:
(شاهت الوجوه! لا يرغم الله إلا هذه المعاطس! من أراد أن يُثكل أمّه؛ أو يوتِم ولده، أو يُرمل زوجتَه، فليلقني وراء هذا الوادي!).
قال علي رضي الله عنه: فما تبعه إلا قوم من المستضعفين، علمهم ما أرشدهم، ثم مضى لوجهه.
- 5 -
سيقول قائل: ما لعمر يعلن هجرته، ويمشي على رؤوس الأشهاد من صناديد قريش، والنبي ﷺ وصاحبه أبو بكر رضي الله عنه يهاجران مستخفيين؟ أيكون عمر أشجع من النبي ومن أبي بكر؟
لا والله، ما هو بأشجع منهما، ولقد وقف عمر بين يدي النبي ﷺ وهو بعد لم يسلم، ولم يجيء إلا ليقتله، فلما أمسك بتلابيبه ونتره، سقط على الأرض، على قدم النبي، وهو يرتعد من هيبته ﷺ. وكان الصحابة - وفيهم عمر - إذا جد الجد، وحمى الوطيس، ودارت رحى الحرب، استتروا بالنبي ﷺ واحتموا به. ولما كانت الردة ورمت العرب عن قوس واحدة، وخاف الصحابة وخاف عمر، وأرادوا المسالمة والملاينة، قام أبو بكر وحده في وجه العالم وصارعه حتى صرعه. فكان عمر يعرفها له أبداً. . . فعلام إذن هاجر عمر جهاراً نهاراً! وهاجرا مستخفيين؟
إن في الأمر لسراً، هو غير الشجاعة والجبن، ذلك أن القائد العام عندما ينتقل من جبهة من جبهات الحرب إلى جبهة أخرى، لا يقف في الطريق على عدو، ولا يلقى حرباً، وإذا رأى نفراً من الأعداء، يستتر منهم، وينأى عنهم، لأنه إذا سلك سبيل الشجاعة الساذجة، وأقبل عليهم يقاتلهم، ضيع الجيش الذي ينتظره، ولا يعمل إلا به، وخسر المعركة الكبرى لينتصر على نفر من الأعداء في معركة على الهامش، ثم إن فراره لا يعد جبناً ولا عجزاً، وإقدامه لا يعد شجاعة ولا استبسالاً.
ولقد كان النبي ﷺ القائد الأكبر، لا في حرب قريش أو هوازن - فما قريش؟ وما هوازن؟ ولكن في حرب الشرك والجهل والظلم، في الحروب التي تمتد أبداً بين الحق والباطل، فلا يدافع عن الحق قوم إلا كانوا تحت راية محمد، فهل يدع مهمته الكبرى، لينتشر على نفر من قريش؟
ذلك هو سرّ الهجرة.
(لم ينته الفصل)
علي الطنطاوي