مجلة الرسالة/العدد 168/ترجمة وتلخيص
→ الجاحظ | مجلة الرسالة - العدد 168 ترجمة وتلخيص [[مؤلف:|]] |
فلسطين ← |
بتاريخ: 21 - 09 - 1936 |
خطاب أندريه جيد في تأبين مكسيم جوركي
للسيد ماجد شيخ الأرض
ألقى كاتب فرنسا العظيم خطابه التأبيني في ساحة موسكو الحمراء حيث شيع جثمان كاتب روسيا العالمي مكسيم جوركي إلى مقره الأخير قال:
ليست المصيبة بموت الكاتب الكبير مكسيم جوركي بمصيبة الاتحاد السوفييتي وحده، إنما رزء العالم كله، مادت لهوله الأرض من أقصاها لأقصاها. ولقد كان يسمع هذا الصوت الجبار الناطق بلسان الشعب الروسي العظيم في كل قطر، وينفذ صداه إلى كل قلب. ولست أعبر في هذا الموقف عن شعوري وحدي، فهو شعور الآداب الفرنسية، بل هو شعور الأدب في أوربا، بل هو شعور الثقافة في العالم كله.
بقيت الثقافة زمناً طويلاً وقفاً على الطبقات الرفيعة، فلا يرد منهلها إلا فئة من الناس توفرت لهم أسباب الفراغ، وما أخالكم تجهلون كيف تتوفر أسباب هذا الفراغ الذي تكدح من أجله الأغلبية الساحقة من البشر، لتدع وقتاً تتلهى فيه تلك الطبقة الرفيعة القليلة بالثقافة والفنون الجميلة. وما أظنكم تجهلون أيضاً أن ورود منهل الثقافة ليس بمستطاع لكل من آنس في نفسه ميلا أو ذكاء أو مقدرة. لقد ظهر في ميدان الثقافة رجال كبار من عامة الشعب أمثال موليير وديدرو وروسو، لكنهم كتبوا لغير طبقتهم وما قرأهم إلا الذين توفر لهم الفراغ.
تشاءم الناس لثورة أكتوبر العظمى التي حررت الأغلبية الساحقة من النير المستحكم على رقابها، فقالوا وكرروا القول بأن الثقافة أساس مدنية الإنسان مهددة بالتأخر والانقراض، لكن الأمور برهنت على عكس ما توهموه، فأن النظام الجديد رحب بالثقافة وعمل على ازدهارها.
ودلت التجارب على أن الخطر آتٍ من نظام الرجعة الذي ارتأته الطبقة السائدة. وقد اجتمع الكتاب لحفظ الثقافة في مؤتمر وجدوا فيه أن الخطر عليها كان في العناصر الفاشستية التي تبغي الهيمنة على الفكر وجعله أداة تسخره في سبيل أغراضها، وفي العناصر الوطنية المتطرفة البعيدة عن محبة الوطن الصحيحة، وأخيراً وجدوه في الحرب التي تسعى إليها تلك العناصر القائمة على البغضاء وحب الذات.
لقد كان عليّ أن أرأس مؤتمر الكتاب المنوي عقده في لندن، لكن النبأ باشتداد مرض جوركي اضطرني أن أشخص مسرعاً إلى موسكو. ففي هذه الساحة الحمراء التي شهدت أحداثا كثيرة سجل بها التاريخ صحائف بعضها في الشرف والمجد، وبعضها في الخزي والعار، وإلى جانب ضريح لينين العظيم الذي تصوب إليه أعين لا يحصى لها عد، أعلن بالنيابة عن الكتاب المجتمعين في لندن وبالأصالة عن نفسي أن حفظ الثقافة وتقدمها معلق بأهداب الرجال القائمين بالحركات الثورية التقدمية، ومصيرها منوط بمصير الاتحاد السوفيتي الذي نحميه نحن الثوريين بكل ما أوتينا من قوة.
إن فوق كل مصلحة لأي شعب على هذه البسيطة مصلحة تجمع بين الطبقات العاملة المشتغلة الموزعة بين هذه الشعوب، وإن فوق كل أدب ناطق بلسان من الألسن، أدبا إنسانياً يعمل على نشر ما في كل أدب خاص من الفضائل؛ وقد وصفها ستالين بقوله: (وطنية في الشكل، اشتراكية في الأصل).
لقد قلت مراراً بأن الكاتب بقدر ما يكون ذاتياً مخلصاً لذاتيته، تكون غاياته سامية وعامة. وليس من كاتب روسي شديد الميل لروسيته مثل مكسيم جوركي، لذلك فأنا لا نجد كاتباً روسياً ذاع صيته وكثر قراؤه مثل مكسيم جوركي.
شاهدت أمس الجماهير الغفيرة التي جاءت تلقي التحية الأخيرة على جثمان جوركي المسجى على فراش الموت، واسمحوا لي إذا صارحتكم، بأني ظللت أسرح النظر في هذا الموج المتدفق من الأطفال والنساء والعمال الذين كان جوركي صديقهم وترجمانهم، بنشوة وإعجاب؛ لكن نشوتي لا تلبث أن تنقلب إلى ألم يحز في قلبي كلما تذكرت بأن كل هؤلاء في غير الاتحاد السوفيتي، من الذين لا يسمح لهم بالدخول إلى مثل هذه القاعة، وهم من الطبقة التي كتب لها الشقاء، وحرمت عليها لذة العلم والتثقيف، كأنما ألصق على باب حديقة العلوم (ممنوع الدخول، هنا حديقة خاصة) ولكن إعجابي لا يلبث أيضاً أن يصبح كمداً يقطع في أحشائي كلما شعرت بأن ما يبدو لهم طبيعياً ما زال عندي شيئاً خارقاً يدهش له حسي وبصري، فلا أتمالك كلما ذكرت أو شعرت بذلك عن إرسال عبرة.
ماجد شيخ الأرض