مجلة الرسالة/العدد 168/العودة
→ الجانب الصوفي في الفلسفة الإسلامية | مجلة الرسالة - العدد 168 العودة [[مؤلف:|]] |
بين عالمين ← |
بتاريخ: 21 - 09 - 1936 |
للأستاذ محمد عبد الله عنان
هانحن أولاء نعود إلى الوطن بعد طول الغيبة والتجوال؛ نعود إليه بقلوب تخفق ابتهاجاً بالعود، وكما غادرناه بقلوب تخفق ابتهاجاً للسفر واستقبال أسابيع تخالها دائماً تفيض متاعاً للنفس واستجماماً للجسم وانتعاشاً للروح المضني.
ولكن السفر لا يحقق دائماً الأمل؛ ففي كثير من الأحيان يغدو التجوال مشقة وضنى؛ ذلك أن الذهن المضطرم يذكيه الجديد في كل لحظة فلا يفتأ يطلب المزيد من المناظر والصور، والمشاعر الحساسة تجد دائماً ما يثيرها في تلك الآفاق الاجتماعية الجديدة التي تلامسها في كل خطوة؛ وشغف الملاحظة يحفز دائماً إلى المعرفة والبحث؛ وإذا كان في ذلك متاع للعقل والروح، ففيه دائماً للجسم والقوي.
على أن السياحة نزهة العصر؛ ولقد كانت السياحة فيما مضى مشقة ومخاطرة؛ وإنه ليحضرنا ونحن نكتب هذه السطور، ونخترق العباب المتلاطم، في بهو أنيق وثير من أبهاء (الكوثر) وصف المقري مؤرخ الأندلس لرحلته من المغرب إلى الإسكندرية في نفس المياه، وما يصوره لنا من روعة البحر وأهواله، فنذكر كيف استطاعت العبقرية البشرية أن تذلل الموج المروع، وأن تسير فوقه المدن الأنيقة السابحة آمنة مطمئنة، وأن تجعل من اختراق العباب المضطرم آية النزه والمسرات.
ولقد شاد الشعراء والكتاب من قبل بمزايا السياحة ومتاعها على ما كان يحفها في تلك العصور من المشاق والمخاطر؛ ذلك أن للجديد دائماً سحراً لا يقاوم، والنفس البشرية مفطورة على حب الاطلاع واكتشاف المجهول؛ وقد كانت بلاد العالم يومئذ مجاهل بعضها بالنسبة لبعض، فكان السفر اكتشافاً لآفاق ومجتمعات مجهولة؛ أما اليوم فقد اختفى المجهول من العالم المتمدن، ولكن بقى الجديد يجذبنا سحره دائماً إلى عوالم ومجتمعات مختلفة نأنس في اكتشافها ودراستها لذة ومتاعاً للعين والنفس والروح.
وقد يستغرق التجوال في تلك العوالم والمجتمعات الجديدة كل حواسك وأفكارك؛ ولكنه مهما أفاض عليك من البهجة والسحر، لا يستطيع أن يخمد في نفسك نزعة الحنين إلى الوطن وما تزال ذكرى الوطن تمثل في ذهنك في كل خطوة، أحياناً مقرونة بالزهو، وأحياناً بالأسف، وفقاً لمختلف الظروف والأحوال؛ وما يزال شبح العود الذي لا يفارقك منذ اليوم الذي تغادر فيه الوطن يلوح لك، ويقوى كلما ضعف سحر التجوال، حتى يحل دور السأم؛ وعندئذ يجذبك الوطن إليه بكل ما فيه من تأثير وسحر، ويغدو العود سعادة تسارع إلى اجتنائها.
وهانحن نعود إلى الوطن سعداء بالعود.
ولقد غادرنا الوطن في ظروف دقيقة تبحث فيها قضيته، وتعالج مصايره على يد زعمائه الأوفياء، فكنا خلال المرحلة نتطلع إلى أنباء المفاوضات المصرية الإنكليزية ونتلقفها حيث كنا وأنى استطعنا؛ وكانت الصحف والأنباء الأوربية ضنينة بها كل الضن فلا تنشر عنها إلا كلمات يسيرة؛ وكانت الصحف الإنكليزية بالطبع أكثر تحدثاً عنها؛ وكنا كلما شعرنا خلال السطور بأن أزمة تعترض المفاوضات زدنا لهفة وقلقاً؛ فلما جاءت الأنباء بأن الأزمات كلها قد ذللت، وبأن المعاهدة قد وقعت بالحروف الأولى، وبأن وفد مصر سيمثل إلى لندن، هللنا وكبرنا، وفاضت نفوسنا أملاً واستبشاراً؛ ولما جاء يوم الأربعاء السادس والعشرين من أغسطس، وهو اليوم الذي حدد لتوقيع المعاهدة لبثتا - ونحن في فينا - ننتظر النبأ الخطير بفارغ الصبر، وكان الراديو أسبق المصادر إلى إذاعته في مساء نفس اليوم؛ وفي صباح اليوم التالي ظهرت الصحف النمساوية وفي صدرها نبأ توقيع المعاهدة، ووصف موجز للعبارات التي تبادلها زعيم الأمة المصرية ومستر إيدن وزير الخارجية الإنكليزية؛ ثم توالت الأنباء بعد ذلك عن استقبال مصر للحادث المشهود، واحتفائها به احتفاء يتفق مع عظمته وخطورته، فكان أكبر أسفنا أننا لم نكن بمصر في تلك الأيام التاريخية لنشهد بأعيننا ذلك المنظر الرائع: منظر أمة تستقبل وثيقة تحريرها وتعلن ابتهاجاً بما جنت من ثمار جهاد طويل وشاق.
ومن غرائب الاتفاق أن تكون نفس الفترة التي تمت فيها المفاوضات بين مصر وإنكلترا ووقعت معاهدة الصداقة المصرية الإنكليزية، أعني ما بين يوليه وأغسطس هي نفس الفترة التي شهدت فيها مصر ضياع استقلالها وحرياتها منذ أربعة وخمسين عاماً.
الله أكبر! لقد دخلت مصر في عهد جديد وافتتحت صفحة جديدة من تاريخها.
فرعى الله مصر في عهدها الجديد، ووفقها على يد زعمائها وقادتها الأوفياء إلى تحقيق ما تطمح إليه من عظمة وسعود.
وحان وقت الرحيل بعد أيام، واستحكم حنين العود، فكان التردد على مكاتب السفر والتحري عن المواعيد وعن مختلف الطرق، وكانت أزمنة الأمكنة في البواخر من أي الثغور دليلاً على اضطرام حمى العود؛ وإنك لتأنس في هذه الفترة التي تهيأ فيها إجراءات العود، والتي تقوم فيها بآخر جولة في المدينة وفي منتدياتها شعوراً غريباً من الأسف والارتياح معاً. أما الأسف فلاختتام فترة من الرياضة النفسية والعقلية قلما نظفر بها في مصر. وأما الارتياح فلاختتام فترة من التجوال المبهظ والوحشة؛ ذلك لأن السياحة ما زالت ترفاً غالياً برغم ما تقدمه بعض الدول لتذليلها من التسهيلات في مسائل العملة والسكك الحديدية؛ وقد ذهبت ألمانيا وإيطاليا في ذلك إلى حدود مغرية حقاً، ولكنك ما تكاد تزور ألمانيا أو إيطاليا حتى تشعر بأن هذه التسهيلات لا تعد شيئاً مذكوراً بالنسبة لما تعانيه من غلاء فادح في كل شيء؛ وليس من المبالغة أن نقول إن نفقات المعيشة في أوربا وبخاصة في فرنسا وسويسرا، تبلغ على الأقل مثليها في مصر؛ ولقد قيل مراراً إن مصر لا تقدم شيئاً لتسهيل السياحة، وإنها يجب أن تجاري الدول الأخرى في تنظيم بعض تسهيلات مغرية للسياح؛ ولكن من المحقق أن تكاليف السياحة في مصر هي أرخص منها في أي بلد من بلاد العالم، ويكفي أن تتقدم مصر بهذه الميزة للسائحين.
هذا وليس من ريب في أنه مهما كانت مسرات السياحة ومغرياتها فإن السائح يشعر في بلاد الغربة بنوع من الوحشة يعروه من آن لآخر، فإذا حان أوان العود شعر بنوع من الارتياح للتخلص من هذه الوحشة واستعادة الإيناس في الوطن والأهل.
ودعنا العاصمة النمساوية في صمت، وتزودنا بالنظرات الأخيرة من هاتيك الربوع والمعاهد الضاحكة، وازدلفنا إلى محطة الجنوب لنستقل القطار إلى (جنوة) حيث نستطيع اللحاق (بالكوثر) وكانت الشمس قد آذنت بالمغيب حين مررنا بجبال الألب قبالة (زيمرنج)، وهناك تأخذك الطبيعة بجمالها الرائع، وتمتد الأشجار والأزهار على الربى إلى مالا تدرك العين.
وفي ضحى اليوم التالي كنا في البندقية نتجول في ساحة سان ماركو، ونطوف بكنيسة سان ماركو وقصر الدوجات ونقطع (قنطرة الزفرات) ما بين القصر والسجن، ونتأمل هاتيك المعاهد والآثار التي تذكرنا بصفحة من أروع صحف العصور الوسطى.
ولقد شعرنا حين هبطنا البندقية أن يد التجديد قد صقلتها وأسبغت عليها مسحة من البهاء لم تكن لها من قبل، ووصلت كثيراً من أحيائها وطرقاتها المائية باليابسة، وكان عهدنا بها أنك لا تستطيع التنقل فيها إلا (بالجندولا)، فإذا بك اليوم تستطيع أن تقطعها سيراً من المحطة إلى الميدان - ثم إلى أنحاء كثيرة منها؛ وإنك لتشهد اليوم هذا التجديد أينما حللت في إيطاليا؛ وتلك آثار الفاشستية بلا ريب، وآثار تلك الروح الإنشائية التي تنفث إلى إيطاليا حياة جديدة في كل شيء.
وأخيراً انتهينا مساء إلى جنوة؛ وفي ضحى اليوم التالي ازدلفنا إلى الميناء فرحين باستقبال أول قطعة من أرض مصر؛ أجل هاهي ذي الكوثر تقف باسمة في ركن من خليج جنوة الكبير، وهاهو ذا العلم المصري الأخضر يخفق على ساريتها؛ وإنه لمنظر يبعث إلى الفخر والزهو أن ترى سفناً مصرية صميمة تشق عباب هذه المياه؛ ولقد كان لمصر مدى العصور الوسطى بحرية عظيمة تجوس خلال هذا البحر، وكانت سفنها التجارية كثيراً ما تمثل إلى البندقية وسرقوسة وجنوه، وكان للربابنة والبحارة السكندريين في تلك العصور شهرة خاصة؛ وكان لمصر أسطولها الحربي والتجاري إلى ما قبل زهاء قرن فقط، ولكن صروف الزمن حرمت مصر مدى قرن من امتطاء صهوة المياه؛ والآن يستأنف سيره، وتعود مصر فتسير سفنها في هذا العباب، وتعيد لنا النيل والكوثر سيرة غمرها النسيان دهراً؛ فعسى أن تكون النيل والكوثر نواة بحرية مصرية تجارية عظيمة تملأ جوانب هذا البحر نشاطاً، وتملأ نفوسنا غبطة وفخراً.
تلك الخواطر وعواطف تثيرها في النفس تلك السويعات الفريدة في حياتنا: سويعات يغمرها متاع التجوال وبهجة الجديد دائماً، ويملأها شجن البعاد أحياناً؛ على أنها ذكريات عزيزة في حياتنا نتطلع دائماً إلى تجديدها. وإن العود إلى الوطن ليملأ اليوم نفوسنا غبطة وسعادة خصوصاً وأننا نعود إليه في مستهل عهد جديد يجيش بآمال وأماني جديدة؛ ولكن أمل العود إلى التجوال يهتف بنا في نفس الوقت لنجوز نفس المشاعر والظروف مرة أخرى.
(الباخرة كوثر في 13 سبتمبر) محمد عبد الله عنان