مجلة الرسالة/العدد 167/الكتب
→ البريد الأدبي | مجلة الرسالة - العدد 167 الكتب [[مؤلف:|]] |
بتاريخ: 14 - 09 - 1936 |
الحياة الجديدة
تأليف الأستاذ نقولا يوسف
للأستاذ دريني خشبة
للأستاذ سلامة موسى في مصر مدرسة عرف تلاميذها بالدؤوب والنشاط الذهني، وهم جميعاً من الشباب المثقف المتشوّف دائماً لمستقبل حافل مليء بالأماني والآمال والأحلام. وهم دائما يفخرون بأنهم يمثلون ثقافة اليسار في مصر خاصة والشرق عامة، ومن هنا نزوعهم إلى الثورة في تفكيرهم، ومن هنا أيضاً تبرمهم بثقافة اليمين وتحرشهم بزعماء مدارسها. ونحن لا يسعنا إلا أن نمتدح تلاميذ هذه المدرسة بالرغم مما يتورط فيه بعضهم من البذاء والتطاول، وبالرغم من أن الأستاذ سلامة نفسه يفسح في مجلته لهذا البعض من السفهاء مجالاً واسعاً يهرجون فيه تهريجاً لا يتفق ومقام الأستاذ ومكانته الرفيعة في نهضة هذا البلد.
بيد أن للأستاذ تلاميذ بارزين، استطاعوا بعد كفاح عظيم وجهد متصل أن يفسحوا لأسمائهم أماكن ظاهرة في محيط التفكير المصري. ولعل من أفضل هؤلاء التلاميذ لأستاذ المفكر المطلع صديقنا (نقولا يوسف) الذي أخذ نجمه يتألق في السياسة الأسبوعية، ثم في عشرات من المجلات والصحف والأندية، عُرف فيها جميعاً بسمو الغاية في تفكيره وحرارته الوطنية في حبه لمصر، ومحاولته دائماً الاندماج في الأوساط المختلفة ليترك فيها خمائر من ذهنه الخصب وثقافته الواسعة واطلاعه الشامل.
ولقد بدا للأستاذ الصديق أن يجمع كل ما كتب، ويصدره في مجلد حافل غني (عن دار المجلة الجديدة) وكتب إلي يسألني عن رأيي في كتابه هذا. . . ولا أحسب في ذلك توريطاً لي من قلمه البارع يجعلني أثني على عمله الثناء كله من دون أن أعرض لبعض نواحي الكتاب بنقد شديد يكاد يشبه الذم.
جمع الأستاذ فصوله القيمة وجعلها في ثلاثة أبواب، أولها (بحوث عالمية) من مثل (فن الحياة، الإنسانية بين الحرب والسلم، في الوحدة العالمية، في الأدب الجديد. . . الخ).
وثانيها (شئون مصرية) من مثل: (في الأدب المصري. الكاتب المصري بين البيئة والوصف، تجديد الموسيقى المصرية، احتضار الحجاب، الفلاح، وتجديد القرية. . الخ). وثالثها (دراسات أدبية وفنية) من مثل: (في الفن الإغريقي، شعراء الأرستقراطية، في الأدب الهندي، ساعات مع بوذا وطاغور وملتون وشالي، ولز والعصر الجديد. . . الخ).
ولست أدري لماذا حشد الأستاذ كل هذه الفصول في كتاب واحد؟ ولم لم يصدرها في ثلاثة كتب حتى يكون من الممكن أن يستقل كل منها بفكرة متحدة وغاية واحدة؟ إن الكتاب كبير ضخم، وهو بضخامته غير المتناسبة يتخم القارئ ويصده عن متابعة القراءة، خصوصاً وأكثر القراء كسالى، وأكثر بحوث الكتاب دسمة غزيرة الفكر، والكتاب ليس قصة يغري أولها بآخرها، ولكنه حشد من الآراء التي لا يربطها في الظاهر أي رابط، وإن رَمَت في النهاية إلى التثقيف العام.
إن القسم الثالث من الكتاب، وهو أمتع أقسامه الثلاثة، كان يمكن أن يكون كتاباً مستقلاً يكاد لا يكون له نظير في المكتبات العامة. وإن أي بحث من بحوثه ليشهد للكاتب بسعة الاطلاع وعظم الجهد الذي عانى في كتابه بعد تحضير مواده الكثيرة. . . فالبحث الأخير مثلاً (ولز والعصر الجديد) هو عصارة شهية لهذا الكاتب الإنجليزي المأسوف عليه، لقي في إعدادها حضرة الكاتب كل عناء ومشقة؛ ويكفي أن تعرف أنه تناول أكثر كتب ولز، فلخصها وشرح لك طريقته في كتابة كل منها؛ لتعلم أي جهد جبار كان يبذل أديبنا عندما اعتزم كتابة فصوله في هذا القسم الثالث من الكتاب. ومثل هذا الفصل لا يمكن أن ينتهي منه الكاتب في أقل من شهر تقريباً. أفليس من الحرام إذن أن يجتمع ذلك البحث الكلي و (شؤون مصرية) أو (تأملات على شاطئ البحر) في كتاب واحد؟! ما لولز وما لهذه الموضوعات (وليست المواضيع يا أستاذ نقولا!) الإنشائية يا صديقي؟ ما لولز وتنيسون وطاغور وبوذا وأندريه شينيه وهوراس. . . وما لخواطر في مقبرة وخواطر في حديقة وخواطر في الطريق وفي العمل؟! أفلم يكن أخلق بهذه التراجم العالمية أن تستقل في كتاب واحد يكون له خطره وفائدته؟!
وقل مثل ذلك في القسمين الآخرين.
هذا من حيث شكل الكتاب، وإن يكن إغفال الصور - خصوصاً للمترجم لهم - قد شوه بعض جمال هذا العمل. أما من حيث موضوعه، فأكاد أمدحه (على طول الخط) لولا هذا الغلو في الدعوة إلى العالمية في زمن تقوم فيه دكتاتوريات تريد أن تلتهم العالم وتذل الحريات. أجل، إن الإخاء الإنساني الذي يراد أن يشمل قارات الأرض جميعاً حلم جميل، ولكنه في زمننا هذا يعتبر حلم الضعفاء والنَّوْكي والمهزومين؛ ونحن في عصر تنشد فيه مصر من أبنائها وطنيةً حادةً متأججة، وطنية الدبابات والطائرات والغازات السامة التي هي أسلحة هذا الزمان الظالم المقاحم. . . الزمان الذي شهد بعينيه الكليلتين سقوط عرش أسد يهوذا تحت سنابك نيرون!
أنا أعرف أن الأستاذ نقولا رجل الأحلام والشعر والموسيقى، ولن أنسى مطلقاً رنين كلماته في أذني في ليالي أسيوط المقمرة. . . ولكني أوقظه في غير رحمة ولا عطف، ليقرأ بعينيه النفاذتين بنود المعاهدة المصرية الإنجليزية، والبرقيات المخيفة المزعجة عن تسلح الدول.
لنعطف ولتسِلْ نفوسنا رقة ورحمة، ولكن على المصريين. . على أنفسنا. . . أما على الثعابين والعقارب، فلا!
وليثق الصديق نقولا أن ولز الذي مات فلم يشعر به أحد، كما مات توماس مور فلم يشعر به أحد كذلك، لا بد أنه ندم على جميع طوبوياته التي كتبها. وليفكر الصديق نقولا أيضاً في مصر اليوم فقط، أو إلى ما بعد عشرين سنة فحسب. . . أما في العالم بعد ألفين سنة، فهذه أضغاث أحلام. . .
عمل جليل لا شك يستحق من أجله نقولا يوسف ألف تهنئة، وهدية سنية من المجلة الجديدة.
دريني خشبة