مجلة الرسالة/العدد 166/وَزْنُ الماضي
→ ../ | مجلة الرسالة - العدد 166 وَزْنُ الماضي [[مؤلف:|]] |
من ذكريات لبنان ← |
بتاريخ: 07 - 09 - 1936 |
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
وقال صاحب سر (م) باشا: إني لجالس ذات يوم وفي يدي كتاب لبعض المتفلسفة من مَلاَحدة أوربا الذين يريدون أن يفهموا ما لا يفهم؛ وكان الباشا قد رآني مرّة أنظر فيه وأتدبر مسائله الغامضة، فقال لي: يا بني إن أحد الكلاب كان شاعراً فيلسوفاً، فنظر ليلة في النجوم فراعته وحيّرته؛ فآلى أن يفهمها بعقله وتفرغ لدرسها مدة طويلة، ثم وضع فيها كتاباً نفيساً ضخماً كان أعظم كتب الفلسفة وأشدها غموضاً عند الكلاب، وكان اسمه: العظام المبعثرة فوقنا. . . .
قال: فأنا جالس أقرأ هذا الكلام الذي لا صحيح فيه إلا أنه غير صحيح. . . إذ دخل عليَّ كاتب متفلسف ملحد من هؤلاء المدخولين في عقولهم المفتونين بأوربا ومذاهبها وعُلويَّاتها وسُفلياتها. . وهو يكتب في الصحف ويؤلف الرسائل، وقد جاء يستصرخ الباشا على فلاَّح شاركه في زراعة أرضه فزرعه الفلاح فيها وحصده، ودهاه بكيده، وابتلاه بغلظته، وتهدَّده بالنقمة.
وكان هذا الفلاح الساذج الغرير قد سبقه إليَّ وعرَّفه لي تعريفاً قاموسياً محيطاً من مادة كَفَر يكْفُر. . . ثم قال بعد ذلك إنه (بيَّاع كلام) يصدق ويكذب حسب الطلب. . . والذمة نفسها ليست عنده إلا (عملية حسابية)؛ وهو في أقوى جهاته لا ينفع الدنيا بما تنفعها به البهيمة من أضعف جهاتها.
أما الكاتب فيقول عن هذا الفلاح: إنه لا يدري أهو يُتمُّ بهائمه أم بهائمه هي التي تُتمه، وإن الذي يرفع القضية على مثل هذا المخلوق إلى المحكمة لا يكون إلا كالذي يُقَعْقعُ بالعصا على جُحْرٍ فيه الحَّيةُ السامة.
ورأى المتفلسف الكتاب على يدي فتهلل واستبشر وقال لي: هذا نسب بيننا. . فأدركت من كلمته هذه جملته وتفصيله، وخيَّل إلي أني أرى فيه نفسه الشرقية كالمرأة المطلقة. . . فقلت له: أنا اشتريت هذا الكتاب من أوربا ولكني لم أشتر منها دماغي. .
وكلَّمته أستخرج ما عنده فإذا هو في قومه وتاريخ قومه كالسائح في بلاد أجنبية يفتح لها عينه ولا يفتح لها قلبه.
وكان جريئاً في كلامه مع الباشا يطرد القول حيث شاء حقاً وباطلاً، ثم لا سِنَاد لرأيه ولا تثبيت لحجته إلا قول فلان ورأى فلان كأن في رأسه عقلاً شحاذا. . . ثم ذكر آخر الأمر ما جاء له فخجَّله الباشا وقال: هذه مسألة ككل مسائلك تحتاج إلى رأي فيلسوف أوربي. . . وأعرض عنه ولم يدخل في شيء من أمره.
ولما انصرف قال الباشا: يحسب هذا نفسه عالماً وهو صعلوك علمي. . . وإنما يكون دماغه وأدمغة أمثاله عند الفلاسفة والعلماء الذين يذكرونهم كما تكون سلة المهملات عند الصحافيين. إن هذا الرجل يتم ضعف عقله في الرأي بقوة عناده فيه ليجعل له ثبات الحقيقة فيُظنَّ حقيقة، كأن خَضْخَضَةَ الماء باليد في وعاء صغير ينقل إلى هذا الوعاء طبيعة الموج. وعند أمثال هذا المفتون من الصعاليك العلميين - أنك إذا تناولت مسألة فأخطأت فيها خطأ جريئاً فقد جعلتها بخطئك الجريء مسألة من العلم. . . وأنك إذا عاندت فثبت الخطأ في وجه الناقدين سنة، كأن حقيقة مدة سنة. . .
هم مفتونون زائغون، ومن فتنتهم أنهم يرون البعد بينهم وبين أهل الفضائل الشرقية كالبعد بين العالم والجاهل؛ ولو حققوا لرأوه بعداً في الغرائز لا في العقل، أي كالبعد بين الفجور وما أشبه الفجور وبين التقوى وما أشبه التقوى.
زعم الأحمق أن خصمه الفلاح رجل راسخ في الماضي كأنه باقٍ في أمسِ لم ينتقل منه، مع أن أمس قد انقطع من الزمن؛ وخرج من ذلك إلى أن الأمة يجب أن تنبذ ماضيها؛ وادعى أن الإسلام يتعصب للماضي. هذه ثلاث كلمات تخرج منها الرابعة التي سكت عنها. . .
وأنا لو شئت أن أسخر من مثل هذا الصعلوك العامي لما وجدت في أساليب السخرية أبلغ من أن أبعث إليه بقارورة فارغة وأقول له املأها لي من آراء الفلاسفة. . .
يغفل هذا وأمثاله عن أن الدين الإسلامي لا يعرف الماضي بمعنى ما مضى على إطلاقه، بل هو يشترط فيه ألا يخالف العقل ولا العلم وألا يناقض الهداية. (قالوا بل نتبِعُ ما ألفينا عليه آباءنا. أوَلو كان آباءُهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون). وفي الآية الأخرى: (قالوا حَسبُنا ما وجدنا عليه آباءَنا. أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئاً ولا يهتدون). وفي الثالثة: (قالوا بل نتَّبعُ ما وجدنا عليه آباءنا. أولو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير) وفي الرابعة: (إن وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مُقْتَدون. قال أولو جئتكم بأهدى مماوجدتم عليه آباءَكم).
فانظر كيف صور ما نسميه اليوم بالجمود في قوله (حسبُنا) وكيف صور ما نسميه بالرجعية في قوله (نتَّبع). وتأمل كيف رفض الجمود والرجعية معاً في العلم والعقل والهداية أي في آثارها من العلوم والمخترعات والفضائل الإنسانية، وكيف أبطل في تلك الثلاث الاحتجاج بالماضي بهذا الأسلوب الدقيق العالي وهو قوله في كل آية: أَوَلوْ، لم يغيرها بل كررها بلفظها أربع مرات.
فالمعجز هنا مجيء الآيات بهذه الصورة المنطقية لإسقاط حجتهم ونفي معنى التقديس عن الماضي فيهن إذا كان العلم دائم التغير، وكان العقل دائم التجديد والإبداع، وكانت الهداية شديدة على الطبيعة الحيوانية التي هي ماضي النفس فكأنها جديدة على النفس عند كل شهوة.
إن الإنسان بماضيه وحاضره كأنه مقسوم إلى قسمين يقول أحدهما: أريد أن أكون، ويقول الآخر: أنا قد كنت. فالإسلام بهذه الآيات قد أوجب وزن الكلمتين في كل زمن بما هو الأصح، وبما هو الأنفع، وبما هو الأهدى؛ وباشتراطه الهداية في جميعها أشار إلى أن الكمال النفسي للفرد يجب أن يكون مرتبطاً بالكمال الإنساني للجنس؛ وهذا معنى عجيب، وأعجب منه ما ترى من أن الإسلام قد أصلح فكرة الماضي فنقلها من معنى الآباء والأجداد للناس إلى المعاني التي هي كالآباء والأجداد لإنسانية الناس. والأخذ (بالأهدى) في اجتماع أمة من الأمم إنما هو بعينه ناموس الترقي والتطور.
ومن أدق الأسرار قوله: (إنا وجدنا آباءنا على أُمَّة). فكلمة (أمَّة) هذه لم يعرفها أحد على حقيقتها، ولم تفسرها إلا علوم هذا الزمن، فهي المشاعر النفسية التي يتكون منها مزاج الشعب وفيها يستقر الماضي؛ كأن الآية قد عبّرت بآخر ما انتهى إليه علماء النفس من أن الإنسان ابن أبويه وابن شعبه أيضاً. فالتعصب في الإسلام هو للعلم النافع وللمجد الصحيح وللهداية الباعثة على الكمال؛ وتعصب الجيل لمثل هذا في ماضيه هو في اسمه تعصب، غير أنه في معناه إنما هو العمل لتسليم مجد الأمة إلى الجيل التالي.
(طنطا) مصطفى صادق الرافعي