الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 166/في الأدب الإنكليزي

مجلة الرسالة/العدد 166/في الأدب الإنكليزي

بتاريخ: 07 - 09 - 1936

3 - هل من انتحال في الأدب الإنكليزي؟

للسيد جريس القسوس

- 6 -

من هو طوماس تشاترتن؟

وُلد هذا الشاعر في برستل، في 20 نوفمبر سنة 1752، بعد وفاة أبيه بثلاثة أشهر. وكان أبوه كاتباً بسيطاً في كاتدرائية برستل، يتقاضى منها راتباً زهيداً؛ فمات ولم يخلف لابنه تراثاً مادياً يُذكر.

دخل الشاعر مدرسة كولستُنْ الابتدائية حيث قضى ثماني سنين متتالية، نظم في خلالها بعض قصائد، منها واحدة نظمها سنة 1764 بعنوان (وصية الكافر)

ثم عنّ له أن يقصد عمه حارس كنيسة القديسة ماري في (ردكلف) لعله يجد في كنفه طمأنينة وعزا. كانت تلك الكنيسة على جمال فني بديع، فتن الشاعر وأذهله، فعاش بالخيال في العصور التي أبدعت ذلك الفن الرائع. ليس هذا فحسب، بل عثر في خزانة الكنيسة على مخطوطات أدبية قديمة، وسجلات دينية تعود في تاريخها إلى العصور الوسطى، فكان الشاعر الصبي في خياله وشعوره نهباً بين هذين التراثين الخالدين: التراث الفني البديع، والأدبي الرائع. فلم يعش في الحقيقة في عصره إلا بالجسد؛ أما روحه فقد كانت بكليتها في العصور الوسطى.

وانزوى تشاترتن لنفسه في تلك البيئة الروحية الهادئة عاكفاً على بحث تلك الآثار الأدبية ومطالعتها. وبقي هذا شأنه لا يعرف من أمره شيء، حتى سنة 1769 حين فاجأ العالم الأدبي بنشر قصيدة (لينور ويوغا) & في مجلة & ولقد نظم تلك القصيدة في حين لم يتجاوز فيه عمره الثانية عشرة؛ وأطلع عليها رئيس مستشفى (كلتُن)، مدّعياً أنها من آثار شاعر من شعراء القرن الخامس عشر. أما اسم ذلك الشاعر الخيالي فالكاهن طوماس رولي عاش في مدينة برستل، في عهد الملك إدوارد الرابع وكان - على ما ادعى تشاترتن - صديقاً لوليم كاننغ.

ووليم كاننغ هذا شخصية تاريخية؛ كان تاجراً مثرياً، يتعاطى هذه المهنة في برستل - بلد تشاترتن نفسه -؛ وكان من غواة الأدب وأعوانه. وادعى تشاترتن أن الكاهن رولي كان يؤمّه ليتلو في حضرته أشعاره، فيلقى منه كل حدب والتفات. وتقوم بطولة كاننغ على الفضل والتقوى، ومتانة الخلق، وقوة العزيمة، والمحافظة على المبدأ؛ لهذا لما أرغمه الملك إدوارد على تزوج إحدى الغانيات لغاية في نفسه، رأى كاننغ نجاته في الهرب من وجه ذلك الملك العسوف؛ فقصد كلية وستبري في مقاطعة جلوسترشاير مفضلاً الحياة بجانب الكاهن الشاعر على التقرب من الملك العاتي الجبار.

درس تشاترتن هذه الحوادث دَرْس الولوع المفتنّ؛ وألمّ بها إلماماً عجيباً، واختلق قسماً كبيراً منها. ومعظم قصائده تدور حول هذه الحوادث، الصحيح منها والمختلق. ويتخلل اسم كاننغ كثيراً من أشعاره التي نظمها، وعزاها إلى الشاعر رولي مثل مأساة برستو أو قصيدة '

ادعى تشاترتن أن يراع ذلك الكاهن الخيالي دبجت هذه القصائد وغيره؛ وأنه خلّفها في مخطوطات أودعت خزانة كنيسة ردكلفْ. هذا كل ما يقوله تشاترتن عن رولي: ولم يذكر عنه أكثر من ذلك، فيعزز بذلك ادعاءه، ويقوي حجته.

وفي سنة 1767، عين الشاعر كاتباً في بعض دوائر العدل لكنه رغم ذلك كان له متسع كاف من الوقت للمطالعة والإنتاج والنشر خاصة في مجلة '

وأشهر ما ظهر له في ذلك الحين قصيدة اسمها (أُنشودة إلاَّ) وهي مأساة تمثيلية فيها ابتكار، وغنائية ساحرة، وروعة فنية سامية. (ومأساة برستو) وهي من أجلّ مآسيه الشعرية القصصية وأروعها موضوعاً وأسلوباً، وتنتهي بإعدام البطل بودون إذ اشتمّ منه الملك إدوارد معاندة وعصياناً. وفيها وصف بديع للبطل بودوِنْ إذ آثر الموت على مصانعة الملك إدوارد والتلطف له والتحبّب إليه. وفيها وصف بارع رقيق للوداع الحارّ بين ذلك البطل وزوجه البار.

ومن هذه أيضاً قصة شعرية تمثيلية اسمها (الرّهان) وأُخر مثل (جودوِنْ) و (أنشودة الجمال) و (البرلمان) و (معركة هيستنج) و (أغنيّة الصَّدقة) وغيرها من المقطّعات المتفرقة، وهي كلها شبيهة بأشعار كيتس الخالدة، من حيث جمال الفن وقوة العاطفة ودقّة التصوير. وجميع هذه القصائد تؤلّف مجلداً كبيراً من الشعر، جُمِعَ ونُشِر سنة 1804؛ وتشاترتن كان ينسب أهم ما فيه إلى الشاعر رولي.

لهذا بينما كان العالم الأدبي ينهج في خطى بوب وجونسن الأدبية الكلاسيكية، كان هذا الشاعر الشاب يمهّد السبل القومية للإبتداعية ذلك بأنه كان يعود إلى ينابيع قديمة فيستقي منها نتاجه الأدبي أو يستوحي منها عبقريته الخالدة؛ فيعمل بذلك على نشر الميزات التي يختصّ بها أدب الإبتداعية.

ولقد وجد شعراء القرن التاسع عشر في أدب تشاترتن وحياته الرومانتيكية مرتعاً خصباً للخيال والروح، فقد تأثر الشاعر كولردج بأدبه إلى حد بعيد؛ وهذا يظهر جلياً واضحاً في قصيدته المشهورة ولكولردج هذا قصيدة بديعة، اختصها برثاء تشاترتن اسمها وقلْ مثل ذلك عن كيتس؛ إذ يستدلّ من إهدائه قصيدته الخالدة إلى تشاترتن أنه كان يستوحي عبقريته، ويستمد نشاطه الأدبي من روح الشاعر الشاب. ليس هذا فحسب، بل أقر غيرهما من الشعراء الابتداعيين بنبوغ تشاترتن؛ فذكره شلي مثلاً في قصيدته (أدونيس) التي رثى بها كيتس في عداد الشعراء الذين قضوا في ميعة الصبا، ووردزورث لم يشأ إلا أن يقول فيه، في قصيدته (الانحلال والاستقلال) & تلك الكلمات الرائعة، التي أصبحت مثلاً سائراً بين الشعراء وهي:

, ,

ومعنى ذلك:

(لقد فكرت طويلاً في ذلك الصبي العجيب بل في تلك الروح اليقظة التي قضت آن شموخها وعزها).

والشاعر الشهير دانتي روزيتي يذكره مع أعاظم شعراء الإنكليز في

ولقد لاقى تشاترتن في خريف سنة 1770 من ضنك العيش وسوء الحال ما دفعه مراراً إلى الانتحار، حتى إنه كتب مرة وصية ينبئ فيها بعزمه الأكيد على الانتحار في أقرب الفرص، شارحاً الأسباب الحافزة له على التخلص من الحياة، لكنه عدل عن ذلك لسبب ما؛ فاستقال من وظيفته، وقصد لندن حيث قضى نحو تسعة أسابيع؛ ومن ثمَّ توجه إلى هولبرن حيث صرف مدة انعزل في خلالها عن العالم وعاش عيشة تصوف وهدوء عميقين؛ فتمكن بذلك من استعادة خيالاته، وتصوراته الروحية الشائقة؛ فانتعشت روحه واطمأنت نفسه، ورضى عن حاله تلك بعض الرضى؛ فسولت له النفس الاستزادة من العيش، لكنه ما عتم أن اصطدمت الروح والمادة في ميدان نفسه، فاحتدم النزاع بينهما احتداما؛ إذ أن فقره المدقع وعدم إقبال الصحف على نشر آثاره، وشعوره بفضيحة أمره، جميعها ملأت حياته كآبة وألماً، وزادت عيشه ضنكاً ومضضاً؛ فاستسلم لليأس والقنوط، وعاودته فكرة الانتحار؛ لكنه عزّ عليه الموت في ريعان الشباب، فقاوم فكرة الموت، وعقد النية على دراسة الطب مؤملاً من وراء ذلك سعادة وغبطة دنيوية دائمة، فراسل أصدقاءه يطلب المؤازرة، لكنه باء بالفشل، فكانت تلك آخر خفقة في سراج حياته، إذ عاد على أثر ذلك إلى صومعته عازماً على الموت المحتم، فتجرّع الزرنيخ، بعد أن مزق كل ما عثر عليه من آثاره الأدبية غير المنشورة.

وهكذا كانت حياته صراعاً بين البؤس والهناء، واليأس والأمل، والقناعة والطموح، والموت والحياة؛ حتى غلب البؤس في النهاية على الهناء، وانتصر اليأس على الأمل، فانهار ذلك البنيان الروحي الرخيص تحت كاهل المادة ولما يبلغ بعد من العمر عتياً، فكانت وفاته في 24 أغسطس سنة 1770 عن 17 سنة ونحو 9 أشهر.

لو أتيح له أن يعمر طويلاً لربما بذّ الكثيرين من أعاظم الشعراء، وتبوأ مكاناً ليس بعيداً من شكسبير وغوته ودانتي.

وتقديراً لنبوغه أقام هواة أدبه نصباً تذكارياً لاسمه في ساحة كنيسة ردكلف في برستل، نقشوا عليه كلمات مقتبسة من وصيته الأخيرة، وهي:

(ذكرى طوماس تشاترتن، لا تحكم عليّ أيها القارئ إن كنت تقيّاً؛ إذ الحكم لقوةٍ عليا؛ ولهذه القوة وحدها سأجيب. . . .).

(يتبع)

جريس القسوس