مجلة الرسالة/العدد 165/الحجاب في الإسلام
→ من (الكتاب الذهبي) قبل أن يطبع | مجلة الرسالة - العدد 165 الحجاب في الإسلام [[مؤلف:|]] |
دين المتنبي ← |
بتاريخ: 31 - 08 - 1936 |
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
من علماء الأزهر
- 3 -
وقد عرف الإسلام أن إطلاقه الأمر للنساء في ذلك قد يؤدي بهن إلى إساءة استعمال حقهن فيه، فيضيق الرجال بإساءة استعمالهن له، ويعملون على التضييق عليهن وسلبهن إياه، كما حدث ذلك بين المسلمين فآل بهم إلى هذا الحجاب الممقوت الذي يحسب زوراً على الإسلام، وكما يحدث الآن في بعض البلاد الأوربية التي سئمت إسراف النساء في السفور، فأخذت تحد من حريتهن فيه، وتضيق عليهن بعض التضييق.
فلما عرف الإسلام هذا شرع للنساء في الخروج من البيت والاختلاط بالرجال سنناً تصونها عن تلك الإساءة، ولا تجعل للرجال عليهن سبيلاً في سلبهن ما أعطاه لهن من ذلك الحق. وليست تلك السنن من الحجاب في شيء، وإنما هي تنظيم لهذا الحق بين الرجل والمرأة.
ومن تلك السنن ألا تخرج من بيتها إلا بإذن زوجها، لأن له حقوقاً عليها في منزلها، فلا يصح لها أن تخرج منه إلا إذا سمحت بذلك نفسه، وليس له أن يمنعها من الخروج لحاجاتها بعد قيامها بحاجاته.
ومن تلك السنن ألا تسافر مسيرة يوم وليلة إلا ومعها محرم لها. وقد ورد في ذلك عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة إلا ومعها محرم لها. وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله ﷺ قال: لا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم. فقام رجل فقال يا رسول الله: إن امرأتي خرجت حاجة، وإني كتبت في غزوة كذا وكذا، قال: فانطلق فحج مع امرأتك.
ومن تلك السنن تحريم الخلوة، لأن في اختلاء المرأة بالأجنبي مفاسد كثيرة، وهي وسيلة من وسائل إغوائها، ودفعها في طرق لا ترضي الدين ولا الشرف. ولم يحرم الإسلام على المرأة الاختلاط بالأجانب مع وجود زوج أو محرم لها، ليكون هذا الاختلاط بريئاً بعيداً عن الريبة، وينحصر في الأغراض الصحيحة التي تقصد منه، كاستفادة علم أو أدب، أو أنس بحديث ونحوه.
ومن تلك السنن ألا يتبرجن عند خروجهن من بيوتهن، ولا ينظرن إلى الرجال نظرات غير بريئة، ولا يظهرن من أجسامهن ما لا حاجة إلى إظهاره، وما إلى هذا مما جاء في قوله تعالى من سورة النور: (وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بيني إخوانهن أو بني أخواتهن أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن أو التابعين غير أولي الأربة من الرجال أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون). وكما أمر النساء بالغض من أبصارهن في هذه الآية أمر الرجال بالغض من أبصارهم في الآية التي قبلها: (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم أن الله خبير بما يصنعون).
قال الفخر الرازي في تفسير ذلك: جميع بدن الحرة عورة، ولا يجوز للرجل أن ينظر إلى شيء منه إلا الوجه والكفين، لأنها تحتاج إلى كشفهما لأجل البيع والشراء والأخذ والعطاء. ولهذا لما نهي النساء أن يبدين زينتهن استثني من ذلك ما ظهر منها. وقد قال القفال: إنه الوجه والكفان. وألحق بعض الفقهاء بهما الذراعين والقدمين. ثم إن نظر الرجل إما أن يكون لغرض كنكاح أو معاملة، وهو جائز بلا خلاف، وإما أن يكون خالياً من الغرض، فإن كان بشهوة كان حراماً، وإن لم يكن بشهوة كان جائزاً في مذهب بعض الفقهاء. وقيل إنه لا يجوز، ولكن هذا لا يلزمه إلا وجوب غض لبصر، ولا يلزمه وجوب ستر المرأة وجهها بنقاب ونحوه، بدليل أن النظر إلى الأمرد بشهوة حرام، ولم يقل أحد أنه يلزمه أن يستر وجهه، لأن هذا حرام عليه لما فيه من التشبه بالنساء. وأظهر من هذا في ذلك أن النظر بشهوة إلى حيوان جميل أو صورة جميلة حرام أيضاً، ولا يعقل أن يكلفا بهذا النقاب، وإنما يحرم النظر بشهوة لما يصحبه من إرادة الفسق. فإذا كان مجرد استحسان خالياً من هذه الإرادة الذميمة فأني أرى أنه ليس فيه شيء من الحرمة، بشرط ألا يصحبه ما يفعله رجالنا من التعريض القبيح إذا مر بهن النساء، وتلك عادة ذميمة يجب على رجالنا أن يقلعوا عنها، وأن يعنوا بجد الحياة بدل هذا الهزل والمزاح.
فالمرأة المسلمة في حل من هذا النقاب الذي يظن أنه فرض عليها في دينها، إذ شاءت سترت به وجهها، وإذا شاءت تركت وجهها بلا نقاب؛ ولا يطلب منها دينها إلا أن تترك التبرج والتهتك والتزين بما يزيد على الحاجة، أو يدعوا إلى الفتنة. ولا دلالة في قوله تعالى: (وليضربن بخمرهن على جيوبهن) على وجوب هذا النقاب، لأن سبب نزول هذا أن نساء الجاهلية كن يشددن خمرهن من خلفهن، وكنت جيوبهن من قدام، فكانت نحورهن تنكشف، وكذلك قلائدهن، فأمرن بضربها على الجيوب لتغطي القلائد والنحور. ولا يعقل أن يراد من هذا تغطية الوجه أيضاً بعد استثنائه في قوله: (إلا ما ظهر منها).
ومما يحتج به لهذا النقاب قوله تعالى في سورة الأحزاب: (يأيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين وكان الله غفوراً رحيما)، قيل في تفسير ذلك إنه كان رجال من الفساق يتعرضون في الطرق للنساء ويتبعونهن، فإذا لامهم الناس قالوا كنا نحسبهن إماء، فنزلت هذه الآية باتخاذ الجلباب للحرائر ليعرفن من الإماء فلا يؤذين. وقد مر بن الخطاب بجارية ذات نقاب فضربها وقال لها: أتتشبهين بالحرائر يالكاع!
وإني أرى أن مثل هذا لا يصح أن يكون حجة على وجوب هذا النقاب، وأرى أن قوله تعالى (ذلك أدنى أن يعرفن) ليس معناه أن يعرف أنهن حرائر، لأن دفع هذا الأذى عن النساء واجب في الإسلام بلا فرق بين الحرائر والإماء، وإنما معنى هذا عندي أنهن يعرفن بأنهن عفيفات فلا يطمع فيهن الرجال.
أما أن ذلك لا دلالة فيه على وجوب هذا النقاب فلأن هذه الصيغة (يأيها النبي قل) لا تدل على الوجوب، لأن الأمر بالأمر بشيء لا يفيد وجوب هذا الشيء، كما هو مذهب جمهور علماء الأصول، ولأن قوله (ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين) يدل على أن هذا لا يقطع ذلك الأذى، وإنما هو أقرب إلى دفعه، ومثل هذا لا يكون واجباً، بل يكون مندوباً. على أنه قد اختلف في إدناء هذا الجلباب، فقال ابن عباس: أمر نساء المؤمنين بذلك أن يغطين رؤوسهن ووجوههن بالجلاليب إلا عيناً واحدة يبصرن بها الطريق. وقال الحسن: يكفي أن تغطي المرأة نصف وجهها. وقال قتادة يكفي أن تغطي معظمه.
وإذا كانوا قد صاروا إلى هذا الخلاف فأنا يمكننا أن نحمل إدناء الجلباب على ستر مالا يبدو عند الزينة، لأن هذا قد استثني استثناء صريحاً في آية سورة النور السابقة، وهذا هو الواجب في الجمع بين الآيتين. وقد قيل إن الجلاليب الثياب، لأن الجلباب يطلق لغة على الثوب والملحفة والخمار، وهو في الآية محتمل للثلاثة، فيكون معنى إدناء الجلباب أن يطلن أطرافه حتى لا يظهر منهن شيء غير الوجه والكفين.
وهذا هو حكم الإسلام في الحجاب والنقاب، وخلاصته أن يرى ترك أمرهما لحكم العرف والعادة، وما يرضه كل من الرجل والمرأة على وجه يصونها من الفساد، ويحفظ ما له عليها من حقوق.
(تم البحث)
عبد المتعال الصعيدي