مجلة الرسالة/العدد 164/للتاريخ السياسي
→ الحجاب في الإسلام | مجلة الرسالة - العدد 164 للتاريخ السياسي [[مؤلف:|]] |
في الأدب الإنكليزي ← |
بتاريخ: 24 - 08 - 1936 |
المعنى السياسي لانتخابات مجلس النواب الفرنسي عام 1936
للدكتور يوسف هيكل
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
وأدت انتخابات الدورة الثانية التي جرت يوم الأحد الموافق 3 مايو إلى فوز (الجبهة الشعبية) فوزاً باهراً لم تكن تنتظره بهذه الصورة، ولم يعتقد خصومها أنهم سيخذلون هذا الخذلان.
وكان الحزب الاشتراكي الفائز الكبير في هذه الانتخابات؛ أما الحزب الراديكالي فتبادل مركزه مع الحزب الاشتراكي فبلغ عدده 116 نائباً بعد أن كان 159 نائباً في المجلس السابق.
وهذه قائمة تبين عدد الأحزاب في مجلس النواب الفرنسي الجديد، ومقدار ما ربحه أو خسره كل منها من المقاعد:
أسماء الأحزاب
عدد النواب يوم 3 مايو 1936
مقدار الربح
مقدار الخسارة
الشيوعيون والشيوعيون الخارجون
82
62
-
الاشتراكيون
146
45
- الاتحاد الاشتراكي
26
-
9
الاشتراكيون المستقلون
11
-
26
الراديكاليون الاشتراكيون
116
-
43
الراديكاليون المستقلون
31
-
36
جمهوريو اليسار
84
12
-
الشعبيون الديمقراطيون
23
7
-
الاتحاد الجمهوري الديموقراطي 88
12
-
المحافظون
11
-
24
المجموع
618
فما هي الأسباب التي أدت إلى تقهقر الحزب الراديكالي؟ وما هي العوامل التي ساعدت على فوز الاشتراكيين حتى إنهم أصبحوا أكبر حزب في مجلس النواب الفرنسي لأول مرة في التاريخ؟
قبل كل شيء يجب القول بأن الحزب الراديكالي الاشتراكي لن يبيد في فرنسا، لأن هذا الحزب يمثل (البورجوازي)، أي الطبقة المتوسطة، وهي أعظم طبقة اجتماعية في فرنسا، وبرغم هذا فأن النجم السياسي للحزب الراديكالي أخذ يأفل لعوامل بعضها ناجم عنه والبعض لآخر طرأ عليه من الخارج.
على رغم الظروف الحرجة التي واجهها الحزب الأكبر في مجلس نواب عام 1932، فإنه لم يظهر وحدة في صفوفه، ولا في سياسته، ولا مقدرة على الحكم.
لم يكن النظام سائداً داخل هذا الحزب، وكثيراً ما انقسم أعضاؤه إلى فرق أثناء التصويت في مجلس النواب، مم أدى إلى خذلان الحكومة لقائمة حينئذ وكانت راديكالية! وكثيراً ما خالف قسم كبير من الأعضاء قرار هيئتهم التنفيذية. وكثيراً ما عمل بعض الراديكاليين خلاف ما قال به رئيسهم. فهو إذن لم يكن كتلة واحدة، بل كان منقسما بعضه على بعض حتى في أحرج الأوقات. . . وإن أزمات الوزارات الراديكالية التي تعاقبت عام 1933، وفضيحة ستافسكي التي أظهرت بأن كثيراً من الراديكاليين قد أفسدتهم أموال (المحتال)، وأن اضطرابات 6 فبراير، وسيلان الدماء في شوارع باريس زمن حكم وزارة راديكالية. .
كل هذا أزال الاحترام الذي كان للحزب الراديكالي الاشتراكي في أعين الشعب.
وتلا ذلك انسحاب مسيو هريو رئيس الحزب الراديكالي حينئذ والوزراء الراديكاليين من حكومة (الرئيس دومرج) ذات الشهرة الشعبية، حينما كادت مجهودات (الشيخ الجليل) تثمر وتعود على فرنسا بالخير، مما أدى إلى سقوط هذه الوزارة الشعبية وعودة مسيو دومرج إلى (تورنفي). فأبغض موقف الراديكاليين كثيراً من أنصارهم؛ كما أن موافقة الراديكاليين على سياسة مسيو لافال الخارجية المنافية لمبادئ أحزاب الشمال كانت سبباً كبيراً في إضاعة شهرة هذا الحزب.
وكانت العوامل الإيجابية التي أدت إلى تفوق الحزب الاشتراكي سبباً سلبياً في خذلان الحزب الراديكالي.
يمكن القول بأن الحزب الاشتراكي الفرنسي هو الحزب السياسي الوحيد الذي يستحق هذا اللقب، إذ هو يحتوي على جميع التشكيلات الأساسية لحزب سياسي. . . موحد الصفوف والنظام سائد فيه، ولا يمكن لعضو ما أن يقوم بعمل يخالف ما اتفق عليه الحزب دون أن ينال جزاءه. ولا تستطيع الهيئة التنفيذية، وعلى رأسها الرئيس، اتباع سياسة لم يقرها المؤتمر العام. . . والاشتراكيون كتلة واحدة في مجلس النواب، يصوتون جميعاً مع الحكومة أو عليها. ولهم تشكيلات اجتماعية مفيدة وتقوم بتهذيب الشباب والنساء تهذيباً مدنياً وسياسياً. . . فالحزم والنظام موجودان فيه وهما ما يحتاجه الشعب الفرنسي، ولا عجب أن تكون هذه الصفات السياسية التي يتصف بها الحزب الاشتراكي قد ساعدت كثيراً على تقدير الشعب له.
وللحزب الاشتراكي رئيس قدير: مسيو بلوم، يعرف كيف يتطور ويضع مبادئ حزبه الاشتراكية في شكل يقبله قسم كبير من الشعب.
إن أكثرية الشعب الفرنسي الساحقة مؤلفة من الفلاحين الصغار الذين يعملون بأيديهم مع أفراد عائلاتهم في الحقول ويعتاشون من عملهم؛ ومن صغار التجار الذين لا يكونون ثروة ذات اعتبار. وقد تيقن مسيو بلوم بأن لا قائمة تقوم لحزبه إن لم يربح عطف هذا القسم من الشعب. ولما كان الفلاح في فرنسا متعلقاً بأرضه تعلقاً يفوق حد التصور ويموت في سبيلها، رأى مسيو بلوم من الواجب عليه تأمين الفلاح على أرضه إن رام نيل صوته؛ فخفف حدة النظرية الاشتراكية، وأعلم الفلاح والتاجر الصغير بأن حزبه لا يريد وضع يده على جميع الأملاك والثروات، بل على رؤوس الأموال الكبيرة؛ وأنه يعتبر المالك والتاجر الصغيرين ضمن طبقة العمال، والاشتراكية تحترم أملاكهم. . . وهكذا تقرب مسيو بلوم وحزبه من هذه الطبقة التي كانت تعاضد الحزب الراديكالي وانتزع قسماً كبيراً منها.
ثم خفف الحزب الاشتراكي حدة ثورته على السياسة القومية، وأخذ يقول بوجوب الدفاع عن الوطن، ولم يردد نغمة الاشتراكية الدولية في خطاباته. . . فجميع هذه العوامل الإيجابية أدت إلى فوز هذا الحزب، كما أنها كانت أسباباً سلبية لإضعاف الحزب الراديكالي.
وكان لتفوق (الجبهة الشعبية) بصورة عامة على أحزاب الوسط واليمين أسباب عدة.
كانت الأزمة المالية، ولا سيما أزمة ميزانية الحكومة، شديدة على فرنسا طيلة السنين الأربع الأخيرة، وقد حاولت الحكومات السابقة حلها في تطبيق نظرية (الاقتصاد في كل شيء) فلم توفق. وعملها هذا أرغم الفرنسي على اختلاف مقدرته المالية على الاقتصاد والتقتير على نفسه وعائلته، فقلل ذلك تداول العملة من جهة، وزاد في الأزمة الاقتصادية وفي البطالة من جهة ثانية. وقد سئم الشعب الفرنسي هذه السياسة المالية ولم يرد مجابهة أزمات 1926 و1934 من جديد، وود اتباع تجربة اقتصادية جديدة آملاً أن تكون نتيجتها حل الأزمة وإعادة الرخاء. فعمل على التخلص من النظام البرلماني القديم الذي أفسدته الأكثريات السابقة، فأرسل إلى مجلس النواب أكثرية يسرى مؤلفة من عناصر جديدة شابة، إذ أن ما يقرب من نصف أعضاء المجلس الجديد لم يشتركوا فيه من قبل. وهذه النفسية عملت كثيراً على خذلان الراديكاليين وإضعاف أحزاب الوسط، وضياع شهرة عدد كبير من رجال أحزاب اليمين.
وقد ساعد مسيو لافال كثيراً في فوز هذه الجبهة! فالسياسة التي اتبعها في جنيف، والتي أدت إلى إضعاف مركز العصبة، إن لم يكن زوالها، وإلى إبعاد باريس عن لندن، والتي مهدت للهر هتلر الطريق لاحتلال أراضي الرين، لم ترض الفرنسيين الذين يعتقدون بأن لا سلامة لفرنسا إلا بتقوية مؤسسة جنيف ومبدأ (السلام المشترك)، وهم أكثرية الشعب. ولما أتت الساعة لإبداء رأيهم حكموا على سياسته بإعطاء أخصامه وسيلة الحكم.
وكان لمسيو (دي لاروك) مجهودات عظيمة أدت إلى فوز الشيوعيين والاشتراكيين! فالشعب الفرنسي محب للحرية ولا يبغي بالديمقراطية بديلا. فلما قام الكولونيل دي لاروك بحركته الفاشستية وأخذ فريقه (الصليب الناري) يتسع بين العائلات المثرية، أحس الجمهور الفرنسي بالخطر الذي يهدد حريته وديمقراطيته، فعمل على تلافيه قبل استفحاله، فأرسل إلى (قصر البربون) أكبر عدوين للفاشستية مظهراً بذلك مقته للدكتاتورية وسخطه على (المائتي عائلة). . . وهكذا تحققت كلمة مسيو بوانكاريه: (كلما خافت فرنسا الدكتاتورية رمت بنفسها في أحضان اليسار).
ومما لا شك فيه أن تنظيم صفوف أحزاب اليسار، ووضعهم منهاجاً مشتركاً للإنتخابات، كان عاملاً قوياً في تفوقهم؛ كما أن الفوضى في أحزاب اليمين وتنازعهم أصوات المنتخبين وعدم إيجاد منهاج مشترك لهم أدى إلى خذلانهم وساعد على فوز الجبهة الشعبية. على أن هذا لم يكن كل شيء، بل كانت الأسباب السياسية التي تحدثنا عنها أكبر عوامل للوصول إلى نتيجة الانتخابات الأخيرة.
- 3 -
لقد فاز الحزب الاشتراكي وأصبح أكبر حزب في مجلس النواب، وشكل حكومة ذات منهاج متين تؤيده أكثرية كبرى في مجلس النواب. فهل ستظل هذه الأكثرية الكبيرة معاضدة للحكومة، أم ستجابه مسيو بلوم الصعوبات التي جابهت زميله مسيو هريو من قبل؟
مما لا شك فيه أن مسيو بلوم رجل عمل و (رجل دولة) ولكن هذا وحده لا يكفي لإيجاد حكومة ثابتة، إذ يجب، قبل كل شيء، أن تسند هذه الحكومة أكثرية دائمة. فالحزب الاشتراكي وحده لا يستطيع الحكم وإن اتفق مع الحزب الراديكالي فلا يكونان أكثرية. ولذا فهو في حاجة إلى إشراك الحزبين الجالسين عن يمينه وعن يساره في الحكم. غير أن الحزب الشيوعي رفض الاشتراك في الحكومة، ولكنه أيدها وليس للاشتراك والتأييد نفس المفعول، لأنه عندما يشترك حزب في حكومة يشترك في المسؤولية أيضاً، فخذلان الحكومة معناه خذلانه في تلك الحالة. لذا وجب عليه المدافعة عن الحكومة ومعاضدتها. أما إن أيد الحكومة فحسب، فإنه لا يشترك في المسؤولية ويستطيع سحب ثقته من الحكومة في أي وقت شاء دون أن يناله أي ضرر؛ فتصبح الحكومة حينئذ تحت رحمته. وقد لعب الاشتراكيون هذا الدور مع الحكومات الراديكالية، ويريد الشيوعيون الآن تمثيله مع الحكومة الاشتراكية. ومسيو بلوم أعرف الناس بالضرر الذي سيلحق حكومته إن اتبع الشيوعيون هذه السياسة.
وهذه الصعوبة حجر عثرة أمام الزعيم الاشتراكي، فإن تمكن من حفظ الائتلاف بين الأحزاب الثلاثة، وإن استطاع الاحتفاظ بثقة الحزب الشيوعي، كانت لوزارته مكانة قوية وثابتة، وإن لم يتمكن من ذلك فستجابه فرنسا سلسلة أزمات وزارية أشد خطراً من التي جابهتها خلال السنين الأخيرة، وستكون عاقبة ذلك جد وخيمة ولربما أدت إلى حرب أهلية. . .
ولحسن حظ مسيو بلوم فإن حزبه قد فاز وتسلم زمام الحكم، والحالة الاقتصادية في فرنسا آخذة في الانتعاش والتحسن، فهو بذلك أسعد حظاً من زميله مسيو هريو الذي فاز وتسلم زمام الحكم والبلاد مجابهة أشد الأزمات الاقتصادية والمالية، عام 1924 و1932. فالانتعاش الاقتصادي الحالي يساعد مسيو بلوم كثيراً، ويسمح له بصرف جهوده في مكافحة الصعوبات البرلمانية، وفي تعديل اعوجاج السياسة الخارجية وتحسين علاقات فرنسا مع الدول وخصوصاً مع بريطانيا. . . فإن تمكن مسيو بلوم من الاحتفاظ بالأكثرية التي تعاضده في مجلس النواب زالت الأزمات الوزارية التي كانت أكبر عامل في إضعاف مركز فرنسا في الدوائر الدولية؛ ويعود للحكومة احترامها وثباتها، وهما ضروريان لنجاح أية حكومة؛ وبالتالي يعود لفرنسا مركزها الدولي السامي الذي كانت تتمتع به أمام المرحوم مسيو بريان. . .
فلوراك (فرنسا)
يوسف هيكل
دكتور في الحقوق