مجلة الرسالة/العدد 164/أوربا على المنحدر
→ خطب فلسطين بين الصهيونية والاستعمار | مجلة الرسالة - العدد 164 أوربا على المنحدر [[مؤلف:|]] |
فن القصة في الأدب المصري الحديث ← |
بتاريخ: 24 - 08 - 1936 |
معركة المبادئ والنظم
لباحث دبلوماسي كبير
كانت الثورة الأسبانية نذير عاصفة دولية جديدة من نوع خاص؛ فقد سرت ريحها خارج الجزيرة بسرعة، وتكشفت عن نتيجة لم يكن يتوقعها أحد؛ ذلك أنها لم تبق بعد مسألة داخلية تهم أسبانيا وحدها، ولكنها تغدو شيئاً فشيئاً مسألة أوربية عامة تشغل بشأنها الدول العظمى. ومما يلفت النظر بنوع خاص، هو أن ما تثيره الحوادث الأسبانية من الاهتمام لا يقتصر على الناحية السياسية فقط، بل يتعداها إلى ناحية أخرى أهم وأبعد أثراً، هي الناحية الاجتماعية، أو بعبارة أخرى، هي ناحية النظام الاجتماعي الذي تدور حوله رحى الحرب الأهلية في أسبانيا.
وقد تناولنا أسباب الثورة الأسبانية وتطوراتها في مقال سابق، وبينا كيف أنها تقوم على صراع بين المبادئ والنظم ما زالت تضطرم أسبانيا بشرره مذ قامت فيها الجمهورية على أنقاض الملوكية القديمة وطغيان العسكرية المطلق؛ على أن هذه الناحية الاجتماعية في معارك أسبانيا الأهلية لم تبد من قبل بمثل ما تبدو به اليوم من القوة والوضوح؛ ففي معسكر الحكومة الجمهورية تجتمع جميع الطبقات العاملة من الفلاحين والعمال وجميع القوى الديموقراطية والاشتراكية، وفي معسكر الثورة تحتشد عناصر الطغيان العسكرية التي حكمت أسبانيا من قبل عدة أعوام، ورجال الدين الذين جردتهم الجمهورية من نفوذهم وامتيازاتهم القديمة، وفلول الملوكية القديمة ومن إليهم من النبلاء ورجال المال والصناعة الذين أضرت النظم الاشتراكية بمصالحهم المادية، وهؤلاء يمدون الثورة بالمال؛ وهذه الصورة البارزة التي تقدمها إلينا الحرب الأهلية الأسبانية، يقدمها إلينا زعماء الجبهتين الخصيمتين أنفسهم؛ فزعيم الثورة الجنرال فرانكو يقول لنا إن الثورة الحالية إنما هي حركة قومية يراد بها إنقاذ أسبانيا من قبضة الاشتراكية والشيوعية، ومن الفوضى الاجتماعية التي انحدرت إليها في ظل الأنظمة المتطرفة، وإقامة حكومة قومية تحترم حقوق الفرد والملكية، وتعيد إلى أسبانيا هيبتها الدولية في ظل أنظمة قوية محترمة؛ وحكومة مدريد تقول لنا إنها تدافع عن الحريات الجمهورية إزاء الخطر الفاشستي الذي يهدد البلاد بعود الحكم المطلق، وتناشد جميع طبقات الأمة، ولا سيما الطبقات العاملة، أن تذود عن حرياتها وحقوقها التي اكتسبتها بدمائها وتمتعت بها في ظل النظام الجمهوري.
وهذه الناحية الاجتماعية البارزة التي تسفر عنها الثورة الأسبانية تغدو اليوم مسألة أوربية شائكة، تكاد أوربا تنحدر إلى غمرها، بل لقد ظهرت بوادرها العملية بالفعل، وبدا خطرها واضحاً على السلم الأوربي، فقد ظهر أن الثورة العسكرية الأسبانية تتمتع منذ الساعة الأولى بتأييد الدولتين الفاشستيتين الكبيرتين: أعني إيطاليا وألمانيا، وهو تأييد يتخذ صورته المادية في إمداد الثورة بالسلاح والمال؛ وقد أمدت إيطاليا الثوار علانية بسرب من الطيارات؛ وبعثت ألمانيا بارجتين من أسطولها إلى مياه سبتة، واتصل ضباطهما بزعماء الثورة في زيارة رسمية؛ وإزاء هذا التأييد تقوم الدولتان الديموقراطيتان الكبيرتان: أعني فرنسا وإنكلترا من جانبهما بتأييد حكومة مدريد؛ وإذا كانت فرنسا تؤثر أن تتظاهر بالحيدة فلا ريب أنها مع ذلك تمد حكومة مدريد بالمال والسلاح؛ أما إنكلترا فلم تتردد في إمدادها بالطيارات، ولكن تحت ستار التجارة الحرة. وفي ميدان السياسة الدولية تعتبر المسألة الأسبانية مسألة اليوم، وقد طرحتها فرنسا على بساط البحث بتوجيه مذكرة إلى إنكلترا وإيطاليا وألمانيا، تقترح فيها أن تجتمع الدول الأربع لبحث المسألة الأسبانية، وإصدار تصريح تتعهد كل منها فيه بالتزام الحيدة وعدم التدخل في حوادث أسبانيا؛ وقد أجابت إنكلترا بتأييد هذا الاقتراح لاتفاق وجهة نظرها مع وجهة النظر الفرنسية؛ أما إيطاليا فقد أبدت عليه تحفظاتها، وأما ألمانيا فقد اشترطت أن تدعي روسيا السوفيتية للاشتراك مع باقي الدول في القيام بهذه الخطوة. ولاقتراح ألمانيا مغزاه، وهو أن روسيا السوفيتية تؤيد حكومة مدريد والجبهة الاشتراكية التي تستند إليها، أو بعبارة أخرى هو أن التدخل البلشفي عامل هام في تطور الحوادث في أسبانيا.
ويجب أن نلاحظ أن العوامل الاجتماعية التي أملت على الدول موقفها ترجع من جانبها إلى عوامل المصلحة المادية. ذلك أن إنكلترا التي تسهر في جبل طارق على أبواب البحر الأبيض المتوسط ومدخل المحيط الأطلنطي، تخشى أن تتأثر سيادتها في هذه المياه بتطور الحوادث الأسبانية تطوراً لا يرغب فيه، وذلك بقيام حكومة فاشستية في مدريد تتأثر بوحي الفاشستية الإيطالية التي غدت منذ المسألة الحبشية شوكة في جانب الإمبراطورية البريطانية. هذا إلى أن لإنكلترا في أسبانيا مصالح مالية خطيرة، والأموال الإنكليزية تغذي معظم شركات التعدين الأسبانية؛ ومع أن إنكلترا تبغض شبح الفاشستية وتخشاه، فأنها أيضاً تبغض شبح البلشفية والاشتراكية المتطرفة وتخشى أن يؤدي ظفر الجبهة الشعبية الجمهورية في أسبانيا إلى قيام حكومة تخضع لنفوذ موسكو، وتعمل على مناوأة نفوذها ومصالحها في غرب البحر الأبيض المتوسط. فالسياسة الإنكليزية تعمل في هذا الظرف على إيجاد نوع من التوازن القومي في أسبانيا وقيام حكومة ديموقراطية معتدلة تجانب الغلو والتطرف؛ وأما موقف فرنسا فتمليه مصالحها في البحر الأبيض المتوسط، والخوف على سيادتها في مراكش من أن تتأثر بظفر الفاشستية المتطرفة في أسبانيا.
على أن المسألة الأسبانية في جوهرها قائمة على معركة المبادئ التي تلوح اليوم قوية في أوربا؛ فالفاشستية - في شخص إيطاليا وألمانيا - تحاول بمبادئها الطاغية المغرقة أن تهدم حصناً جديداً للديموقراطية، وأن تضم دولة أوربية جديدة إلى جبهتها بمؤازرة الثورة العسكرية الأسبانية؛ والديموقراطية - في شخص إنكلترا وفرنسا - تحاول أن تقف في وجه الفاشستية؛ وروسيا البلشفية تحاول أن تنتهز الفرص لبث دعايتها لإضرام الثورة العالمية؛ والفاشستية تمثل جبهة الدول الناقمة التي حرمت من مزايا الاستعمار الباذخ؛ والديموقراطية تمثل جبهة الدول الراضية التي تتمتع بالثراء والاستعمار الباذخ؛ ومعركة المبادئ تتحد هنا مع معركة المصالح المادية.
وهذا هو وجه الخطر في الأزمة التي تغيم اليوم في أفق السياسة الأوربية، والتي قد تغدو غير بعيد خطراً يهدد السلم الأوربي، ذلك أم معركة المبادئ والمثل تغذيها هنا مصالح مادية قوية؛ وهذا الصراع الذي تذكيه شهوات المادة والمبدأ معاً هو أخطر أنواع الصراع الدولي. فالبلشفية من ناحية، والفاشستية والنازية من الناحية الأخرى تنزل إلى ميدان الصراع مسلحة بأخطر أنواع الدعاية والقوى المادية؛ والديموقراطية من جانبها تحاول أن تقف موقفاً وسطاً بين المبادئ والمثل المضطرمة، وأن تدفع تيار التطرف من الجانبين صوناً لوحدتها وكيانها. ولنلاحظ أيضاً أن فرنسا الاشتراكية تؤثر ظفر الجبهة الشعبية الأسبانية، ولو أن هذا الظفر قد يدفع أسبانيا إلى أحضان الشيوعية، ذلك أن روسيا البلشفية تقف إلى جانب فرنسا في ميدان الصراع الدولي ضد ألمانيا، وألمانيا تعتبر نفسها حاجزاً للبلشفية وترى في روسيا ألد أعدائها؛ وإيطاليا ترى في ألمانيا حليفتها في المبادئ والمثل؛ والفاشستية والنازية كالبلشفية تعتبر كلتاهما أنها نظام المستقبل وتحاول أن تدفع مبادئها إلى خارج حدودها بمختلف الوسائل.
هذه هي عناصر المعركة الدولية الخطيرة التي أثارتها الحوادث الأسبانية؛ وهي ما زالت في طور التمهيد والمقدمات؛ ومن الصعب الآن أن نتبين طورها المقبل؛ ذلك أن سيرها يتوقف كثيراً على سير الحوادث في أسبانيا؛ بيد أنا نستطيع أن نتبين بعض وجوه الخطر الذي يهدد السلم الأوربي؛ فإيطاليا التي ما زالت ثملة بفوزها في الحبشة تحاول أن تستغل الظروف، وأن توجه ضربة جديدة إلى الإمبراطورية البريطانية وإلى سيادة بريطانيا في البحر الأبيض؛ وألمانيا التي جردت من مستعمراتها تحاول أن تجد فرصة للتدخل في شؤون البحر الأبيض، وبخاصة في شؤون طنجة ومراكش، وأن تنتهز مخاوف إنكلترا وفرنسا لتثير المسألة الاستعمارية من جديد؛ وإنكلترا التي شعرت منذ المأساة الحبشية بما يهدد سيادتها في البحر الأبيض من الأخطار تتحين الفرص لتوكيد نفوذها وهيبتها؛ وفرنسا لا تطيق لحظة أن يتعرض مركزها في مراكش لأي تدخل أو خطر. ومما يجدر ذكره بهذه المناسبة أن تحرش ألمانيا بمركز فرنسا في مراكش يوم ضربت عليها الحماية الفرنسية كان من أهم العوامل في تسميم جو السياسة الأوربية قبيل الحرب الكبرى، والتمهيد لذلك الجو المضطرب الذي اجتمعت فيه أسباب الحرب.
هذا وهناك ظاهرة تتكشف عنها تلك المعركة الخطيرة بين الديموقراطية والفاشستية، هي أن الفاشستية تعمل بسرعة وعزم دون تردد أو تدبر للعواقب؛ وأما الديموقراطية فما زالت مختلفة متنازعة، وما زالت تجنح إلى التردد والتخاذل. وقد استطاعت الفاشستية غير مرة أن تنتهز فرصة هذا التخبط وأن تضرب ضرباتها في صميم الديموقراطية؛ ومن جهة أخرى فقد أفسدت الروح الاشتراكية المتطرفة عقلية الجماعات، وبثت فيها كثيراً من دواعي التخاذل والغرور، هذا بينما تجد الصفوف الفاشستية منظمة طائعة تعمل لأول إشارة تلقى إليها.
فهل تستحيل تلك المعركة الدولية في القريب العاجل إلى صراع الحياة والموت بين النظم والمثل في أوربا؟ وهل تدفع أوربا إلى طريق حرب جديدة ما زالت عواملها تجتمع في الأفق منذ حين؟ هذا ما سوف نتبين في المستقبل القريب. بيد أنه مهما كانت ظروف المعركة الحالية، ومهما كانت نتائجها، فلا ريب أنها من عوامل الخطر في مصير السلم ومصير أوربا.
(* * *)