الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 163/من الشعر المنثور

مجلة الرسالة/العدد 163/من الشعر المنثور

بتاريخ: 17 - 08 - 1936


فجر القبرة

(مهداة إلى صديقي الأمير عمر الأيوبي)

للأستاذ خليل هنداوي

كثيرون يعرفون القبرة بشكلها الرمادي الأدكن وصوتها الرفيع المرنان، ولكن القبرة من الطيور الغريبة في حياتها وتأملها للحياة. . . . روحانية تبلغ أسمى ما تبلغه الروح، ومادية تنحط كثيراً؛ ففي حالتها الأولى تراها تغزو أطباق الجو عند منبلج الفجر تردد الغناء سكري بالجمال حتى إذا بزغت الشمس فزعت إلى الأرض تفتش عن غذائها، ذاهلة عن غنائها، ومثل هذا المشهد قد يصور أحسن تصوير حالة الذين يرقون إلى شمس المعرفة بأرواحهم ثم لا يقدرون على مقابلتها فيهبطون. . فلا الأرض تذهلهم عن السماء ولا السماء تفصلهم عن الأرض، ولا شوقهم بمنطفئ، ولا أرواحهم بساكنة. . . هؤلاء هم كهذه القبرة.

(خ. هـ)

أسمعها: أسمعها بعيدة عني، دانية مني!

أسمعها يشق غناؤها الفضاء الذي تفتح جفناه

أسمعها يتسلل شعاع قلبها مع شعاع الفجر!

قد انجلت - يا قبرتي - غياهب الليل بعد ما ظننت أن هذا الليل سرمد لا يزول

وانزاحت عن الأفق كتائب الظلمة بعد ما خلت أن هذه الألوان الربداء لا تحول

أراك تمعنين في التحليق. . .

حتى لا أرى أنامل الفجر تجذبك إليها

فماذا تركت في الجو بالأمس؟

أشيئاً تتفقدينه كل مطلع فجر؟

أم أمانة تستلمينها من الفجر؟

أرى جناحيك يرفان ويخفقان!

يربدان طوراً وطوراً يلتهب وصوتك الهازج المرن يصعد في السماء

تسمعه الأرض فتهتز قليلاً ثم يتوارى كأن لم يكن شدو ولا شاد

هي سكرة قدسية يا قبرتي ترفعك إلى الأوج السامق

ترفعك على جناحي الشوق وتنطقك بلغة الغناء

فما أسمى هذه السكرة التي لا يتخللها صحو!

وما أبدع هذا الشوق الذي لا يطفئه وصال

أنت من فجرك أيتها القبرة في صعود دائم

أنت من شوقك في وصال قائم

تمجدين الشمس قبل بزوغها وترفعين إليها صلاتك وغناءك قبل شروقها

حتى إذا لمعت في الأفق ووقعت عيناك على نورها الخاطف. .

فررت إلى أطباق الأرض غاشية العينين، واجفة الفؤاد!

ألا تتمهلين قليلاً حتى تراك الشمس

وأنتِ في الأطباق العالية تغنين لها!

ألا تتمهلين حتى تتمتع عيناك بالكوكب الساطع

ويرتاح قلبك إلى من خفق للقائه شوقاً وحنيناً؟

عينك لم تستطع أن تحتمل شعاع (الشمس)

وفؤادك ناء بإفراغ شوقه للمشوق

وفي اللحظة الأخيرة تراخى جناحاك وعشيت عيناك وتدحرجت على الأرض بعد أن

رقيت معارج السماء!

ألم تتذوقي لذة الشروق؟

ألم تطعمي طعام ذلك العالم العلوي؟

ألم يكشف لك عن خزائن ذلك الوجود؟

الشوق والغناء والويل والعناء كلها تذوب تحت لوائك أيتها الشمس!

ما وصلك الذي تتغنين به؟

ما شوقك الذي ملأ الفضاء ما سكرك الذي لا صحوة له؟ إذا كان نور (المعرفة) لا تحمله عيناك!

أتخافين احتراقاً في الأضواء

أتهابين التطلع إلى نور الشمس؟

أم تصلين كل يوم إلى الشمس. . . وتقفين على بابها فإذا أطلت تواريت من وجهها

المهيب، وآثرت أن تنحطي وتتدحرجي صامتة ساكتة

كأنك كلما صعدت مرة ذهب جزء من روحك وراءها في الفضاء

وهكذا حتى تتوزع أجزاؤك كلها وتبلغي المرحلة الأخيرة

وددت يا قبرتي أن أراك تزيدين إمعاناً في التحليق

وددت أن أراك تزيدين في صعودك حتى لا يبقى منك على الأرض شيء!

ووددت أن أغرودتك لا تزال تتردد في الجو مبتعدة عني حتى تصير أغرودة صامتة!

أهلاً بك أيتها العائدة من عالم الشمس! منتصرة أو منكسرة، ففي عينيك ذبول الشوق،

وفي قلبك لهيبه، وفي جناحيك وجيبه!

لم تذوقي بعد تلك السكرة العميقة التي لا يبقيها صحو

ولم يضرم قلبك ذلك الشوق الذي لا يسلمك إلا إلى شوق

لم تحبي بعد شمس (المعرفة) محبة شاملة، ولم تؤثري الفناء فيها.

أتخافين احتراقاً في هذه الشمس؟

ادني واقتربي أيتها القبرة من الشمس وواصلي أغنيتك حتى تحترقي. . .

وتردك الشمس إلى الشمس. . . يا فراشة الطيور المحترقة بغير لهيب.

خليل هنداوي