مجلة الرسالة/العدد 163/في الأدب الإنكليزي
→ من مذكراته | مجلة الرسالة - العدد 163 في الأدب الإنكليزي [[مؤلف:|]] |
الصديق المنشود ← |
بتاريخ: 17 - 08 - 1936 |
هل من انتحال في الأدب الإنكليزي؟
للسيد جريس القسوس
أخي ح. ش:
لقد مضى نحو عام على رسالتك التي بعثت بها إلي تطلب فيها أن أشرح لك المشكلة الشكسبيرية التي تثار من حين إلى آخر. واليوم أراك تبادرني بسؤال آخر قلما ألتفت له الباحثون في الأدب الإنكليزي. وقبل الإجابة على سؤالك لابد من لفت نظرك إلى الفصل الممتع الذي عقده الدكتور طه حسين تحت موضوع: (ليس الانتحال مقصوراً على العرب)، في كتابه (الأدب الجاهلي) بين فيه أن الانتحال لم يقتصر على العرب؛ بل كان عند الأمم القديمة، كاليونان والرومان، ولا أعلم هل في الآداب الأوربية الحديثة، خلا الإنكليزية، شيء من هذا؛ وكل أملي أن يتعاون الباحثون في الأدب على بحث موضوع الانتحال في آداب الأمم الحية، لعلهم بذلك يتوصلون إلى نتيجة مرضية، تشفي الغليل، وتنير السبيل أمام الباحثين في موضوع الانتحال عند العرب. أما في الأدب الإنكليزي، فلم يعرف الانتحال، على ما أعلم، إلا في القرن الثامن عشر؛ وقد يكون هناك شيء منه في غير هذا القرن، لكنه ضئيل تافه إذا قيس بما عُزِي إلى الشاعرين الكبيرين جيمس مكفرسن، توماس تشاترتن من الانتحال.
- 2 -
من هو مكفرسن؟
وقبل التطرق إلى البحث في الانتحال المنسوب إلى هذين الشاعرين، لا بد من كلمة مقتضبة، نترجم بها لكليهما، ذلك لما للحوادث في حياتهما من علاقة متينة بموضوع هذا البحث. لهذا نشرع بادئ ذي بدء بمكفرسن فنقول:
ولد جيمس مكفرسن قرب كنغوسي في سكوتلندا، في 27 أكتوبر سنة 1736. وكان أبوه مزارعاً وضيع النسب، فقير الحال؛ لكنه برغم ذلك استطاع بحذقه ودهائه أن يدخل ابنه جامعة أبردين وبعدها جامعة أدنبرغ ولقد عرف الشاعر صغيراً بالنبوغ الأدبي فألم بالشعر الغاليقي إلماماً كبيراً؛ ونظم وهو تلميذ ما ينيف على أربعة آلاف بيت من الشعر، نشر بعضها تحت عنوان (الانجاد) سنة 1750، وأهمل البعض الآخر لأمر ما.
ولقد زاده ولوعاً بالأدب ما لاقاه من تشجيع أصدقائه له على نشر منظوماته. ففي نيوفات مثلاً التقى بجون هوم وأطلعه على بعض قصائده، فأعجب بها، وأشار عليه بنشر بعضها، خاصة ما ادّعى أنها مترجمة عن الشعر السكوتلندي القديم مثل (مقطعات من الشعر القديم جمعت في جبال سكوتلندا، وترجمت عن اللغة الغاليقية) وهي في الأصل الإنكليزي كما يلي:
, , &
760)
ليس هذا فحسب، فقد أمدّه الدكتور هيوج بلاير بإعانة مالية مكّنته من نشر هذه الأشعار، ذلك لظنه بأن أكثر هذه الأشعار مترجمة غير موضوعة.
وفي خريف سنة 1760، زار الشاعر بعض القرى السكوتلندية، وعثر فيها على مخطوطات قديمة فافتتن بها، حتى أنه ما عتم أن ترجم أحدها بمعاونة الأديبين الكابتن موريسن والقس أ. غالي
وفي سنة 1761، أعلن اكتشافه لقصيدة حماسية موضوعها فنغال: نشرها تحت عنوان ضخم هو (فنغال في ستة كتب، مرفقة بقصائد أخرى متفرقة للشاعر أوسيان اسن فنغال، مترجمة عن اللغة الغاليقية).
وعنوانها الأصلي هو: -
, , , ,
أما فهو الاسم الذي وضعه مكفرسن للبطل الايرلندي الخرافي (فن) الذي آزر كثولن حاكم ايرلندا، ووقف معه في وجه خصمه العنيد سواران ملك لوخلين حتى تمكن في النهاية من قهره، وإيقاعه في الأسر.
وفي سنة 1763، نشر قصيدة أخرى حماسية، اسمها (تيمورا) ومجموعة شعرية موضوعها
أما تيمورا هذا فاسم قصر ملوك ألستر وفي هذه القصيدة تتمة الحوادث الواردة في فنغال أما أوشان فهو ابن فنغال نفسه؛ وقد كان فارساً منواراً، وشاعراً مجيداً؛ عاش على ما جاء في الأساطير الغاليقية في القرن الثالث ق. م.، وإليه يعزو مكفرسن وغيره من الأدباء هذه المنظومات الحماسية الرائعة، التي تدور على بطولة فنغال وقومه.
وجميع هذه الآثار الأدبية التي نشرها مكفرسن، معلناً أنها مترجمة موضوعة بأسلوب أقرب إلى النثر منه إلى الشعر؛ ذلك لما فيه من التسجيع والإيقاع المتكلف.
ويُعدّ أسلوب مكفرسن الأدبي من أروع الأساليب وأجملها وموضوع أدبه من أبعد المواضيع أثراً في تعجيل الحركة الإبتداعية ونشرها قبيل مجيء وردزورث. ولا يقتصر نفوذه على الأدب الإنكليزي فحسب، بل تعداه إلى الأدب الأوربي عامة، والألماني خاصة. فقد ترجمت منتوجاته إلى أغلب اللغات الحية وكان غوته وهردر الشاعر والنقادة الألماني الشهير من هواة أدبه.
ويروى أن ترجمة كيساروتي الإيطالية لقصائد مكفرسن، كانت من أحب الكتب إلى نابليون.
وبعد رجوعه من رحلاته الكشفية في سكوتلندا، تقلب مكفرسن في وظائف شتى، فمن سكرتير للجنرال جونستون في جزيرة فلوريدا، إلى عضو في البرلمان؛ وهو في أثناء ذلك لا ينقطع عن الاشتغال بالأدب، والنشر، وأهم ما نشره، خلاف ما عزاه إلى غيره من الترجمات الشعرية، كتاب (سر تاريخ بريطانيا العظمى)، ولقد ظل هذا دأبه، حتى وافته المنية في 17 فبراير سنة 1796، فدفن في زاوية الشعراء في وستمنستر أبي
- 3 -
مكفرسن والانتحال
كان صموئيل جونسن النقادة الإنكليزي الشهير ودكتاتور الأدب في القرن الثامن عشر، أول من نسب إلى مكفرسن انتحال أشعاره، وادعاءه أنها مترجمة من الغاليقية، فقد نشر جونسن سنة 1775 كتيباً اسمه (رحلة إلى جزر اسكوتلندا الغربية) هاجم فيه مكفرسن هجوماً عنيفاً، مبيناً أن مكفرسن إنما عثر على بعض الأشعار والمقطعات القصصية في الشعر الغاليقي القديم، فحاك من هذه المقطعات تلك القصائد المطولة، التي ادعى أنها مترجمة، ولقد زاد موقف مكفرسن اضطراباً، ورأى جونسن وغيره من خصوم مكفرسن، تأكيداً، أن الشاعر السكوتلندي ينشر الأشعار الأصلية في صيغتها الأولى، فيكون بذلك قد برر موقفه؛ ورد طعنات خصومه إلى صدورهم؛ وعذروه في ذلك عجزه عن القيام بنفقات النشر، وحين لم يستطع أن يصمد أمام الأدباء المعاصرين الذين انقلبوا جميعاً خصوماً له، لم ير بدّاً من العكوف على نظم بعض القصائد، والادعاء بأنها الآثار الأدبية الأصلية، التي نقل عنها.
ولقد أُثيرتْ بعد وفاته آراء متضاربة، حول صحة هذه القصائد؛ وانقسم الأدباء إلى خصوم وشيعة. ومن أشهر خصومه ملكولم لينغ فقد بيّن في ملحق كتابه (تاريخ اسكوتلندا)، سنة 1800، أن الأشعار الأوشانية ليست مترجمة، بل نظمها مكفرسن، وعزاها إلى غيره.
وطرق هذا الموضوع أدباء فرنسيون وألمان أخصائيون في الأدب الكلتي، ولفتوا أنظار مؤرخي الأدب إلى نقط مهمة تكشف عن الناحية المهمة من هذا الموضوع الخطير.
ومن خصومه أيضاً الدكتور دوجلاس هايد فقد ألف كتاباً اسمه ذكر فيه أن مكفرسن عرف الاسم الحقيقي لفنغال تمام المعرفة، إنما توخى التحريف والتحويل في هذه الأسماء ليوهم الأدباء أن أسماء أشخاص قصائده، إنما هي مترجمة ليس إلا.
ولقد عرض اسكندر مكبيان في فصل قيم موضوعه: ? في كتابه: قضايا الجمعية الغاليقية في غلاسكو لمختلف الآراء والنظريات المتعلقة بهذا الموضوع، وخاتمة ذلك الكتاب تتضمن خلاصة ما وصل إليه معظم الباحثين في هذه المشكلة؛ وخرج من هذا كله بنتيجة معقولة هي أنه لم يعرف في التاريخ شخصية باسم أو إنما جل ما هنالك بعض مقطعات في الشعر الشعبي الخرافي، فيها بعض الإشارات إلى أبطال ايرلنديين، لم يثبت التاريخ وجودهم في عصر ما. أما انتساب (فِنّ) إلى كورمك أحد ملوك أيرلندا القدماء كما هو ظاهر في القصيدة (فنغال)، فهذا أيضاً عار عن الحقيقة إن هو إلا نتاج زائف لخيال مكفرسن وتصويره الشائق.
وبذهب مكبيان إلى أبعد من هذا، فهو يرى أن اتخاذ الايرلنديين (فِنّ) بطلا قومياً ليس بالعجيب؛ إذ كلّل أمته، عند نشأتها وتكوينها الاجتماعي والأدبي، أبطال خياليون، تنسج حول شخصياتهم الأباطيل والخرافات النتعددة، فما (فِنّ) بالحقيقة إلا بطل شبيه بهرقل، وتيسيوس، وبرسُيْس. ولا يبعد أن يكون (فِنّ) هذا إلهاً محلياً، قدسه قومه، وجعلوا منه بطلاً قومياً. حتى (أوشان) الشاعر الذي ينسب إليه مكفرسن نظم كثير من القصائد التي تدور حوادثها على شخصية (فِنّ)! أقول، حتى هذا الشاعر، في رأي مكبيان، وليد الخيال! لم يعش قط في عصر ما. أما تفسير كونه ابن فنغال فليس بالأمر العسير، فهو لا يختلف بذلك عن غيره من الآلهة القديمة التي عرفت بالاختلاط مع البشر، والمساهمة معهم في الحروب، ومختلف الأحداث؛ وفي كثير من الأحيان التزاوج مع فئةٍ مختارة منهم.
أما جواب مكبيان الأخير على القول السائد، (أن فنغال عاش وأوشان أنشد)
فهو إنهما عاشا وأنشدا في نفوس الشعب الغاليقي، وأخيلتهم الخصبة. لأن الشعب وجد في هاتين الشخصيتين الخياليتين، مثلهم القومية والأدبية العليا مجسمة.
أما أنصار مكفرسن فيكتفون بالتشجيع لصاحبهم، دون الإتيان ببراهين وحجج دامغة، تدحض آراء خصومهم دحضاً، وتدفع بتهجماتهم العنيفة دفعاً؛ وخلاصة ما يرونه أن هذه الأشعار تاريخية، وأنها من نظم شاعر عاش في القرن الثالث ق. م. وشهد جميع الحوادث الحربية، التي ورد وصفها في تلك المنظومات الرائعة.
والحقيقة الراهنة لا تنشد في قول جونسن الخصم اللدود، ولا في أقوال أنصار مكفرسن المتحزبين، إنما تطلب في قول فئة تقف موقف العدل والحق من هذه المسألة.
والمقام يقصر عن التعرض لآراء جميع الذين يقفون هذا الموقف لكنا نكتفي بذكر أعظمهم شأناً وأبعدهم أثراً، وأقربهم من الحقيقة، أعني به الكاتب الكبير، والنقادة الاسكتلندي الشهير كامبل أوف إسْلويْ فقد وضع مؤلفاً في هذا الموضوع اسمه: (قصص شعبية في الجبال الغربية) فنّد فيه زعم جونسن أم مكفرسن نظم آثاره الأدبية نظماً، دون أن يتأثر بأشعار عامية قديمة، أو يقتبس منها أو ينقل عنها، وإن هذه الحوادث والأسماء الواردة في منظومات مكفرسن إنما هي موضوعة مختلقة، وردت ليست مترجمة. فهو يقول أن الأبطال الأوشانين، الذين وردت أسماؤهم في قصائد مكفرسن، عاشوا بحق، وعُرفوا قبل أن يدوّن مكفرسن هذه الأشعار بأعوام.
(البقية في العدد القادم)
جرجيس القسوس