مجلة الرسالة/العدد 162/من ذكريات عابر سبيل
→ ساكنو الثياب. . . | مجلة الرسالة - العدد 162 من ذكريات عابر سبيل [[مؤلف:|]] |
من (الكتاب الذهبي) قبل أن يطبع ← |
بتاريخ: 10 - 08 - 1936 |
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
كان أحد الأخوان يصحح قول الشاعر: (وسافر ففي الأسفار خمس فوائد) فيقول - بعبارة لا أستطيع أن أرويها بحروفها - إن الفوائد ثلاث فقط: البعد عن المرأة، والنوم كيفما اتفق، وتكليم الناس بلا معرفة. فأما البعد عن المرأة - أي الزوجة - فإني لم أعد أدرى أهو مزية وخير أم ضرورة وعيب وشر؟. ولكن الذي أدريه أني حاولته مرة بلا لف أو مداورة، ثم عدلت عن التماسه ووطنت النفس على اليأس منه، ورضتها على السكون إلى القرب والمودة. وتجاربي في هذا الباب تخولني أن أنصح لمن يريد أن يسافر وحده أن يجازف ويلح على زوجته أن تكون معه، فإذا أبت كان هذا هو المراد من رب العباد، وإلا فلن يصيبه إلا ما كان مكتوباً عليه. على أنه يجب أن يكون مفهوماً أن المعول في هذا الأمر على أسلوب الحوار وطريقة الكلام. والزواج - كما هو معروف - من مزاياه أنه يكسب الإنسان مرونة في التعبير، وقدرة على الاحتياط، وبراعة في التحرز، وسعة في الحيلة. وإني لأذكر أنى كنت في سوريا مع أسرتي منذ نحو سنتين؛ فذهبنا مرة إلى بيروت لنشتري أشياء نهديها إلى أهلنا ومعارفنا عند عودتنا؛ فرأت زوجتي معطفاً من الفرو ثميناً جداً فأعجبها واشتهت أن يكون لها، ولكنى نظرت إلى ثمنه فدار رأسي، وأيقنت أنا إذا اشتريناه سنضطر إلى الاستجداء والتسول، فأصابتني فجأة نوبة عصبية حادة لم ترها زوجتي قط من قبل، ففزعت ودعت أصحاب المحل أن يدلوها على طبيب بارع في الأمراض العصبية، فقد خيل إليها أن هذا الذي أصابني لابد أن يكون ضرباً من الصرع أو التشنج أو لا أدرى ماذا غير هذا، فحملوني إلى طبيب فرنسي قالوا لها إنه هو الأخصائي الوحيد هنا، وإنه من آيات الله ومعجزاته في طب الأمراض العصبية، فأدخلوني عليه فاتضح له من استجوابي ومما عرفه من تاريخ آبائي وأجدادي من قبلي أن أهلي - في حداثتي - خوفوني مرة بدب صناعي له فرو كثيف، وكانت صدمة الفزع الذي انتابني في صغري شديدة جداً، فأنا من ذلك الحين أضطرب جداً جداً إذا وقعت عيني على الفرو. . . فسألته زوجتي التي لم تكن تعرف هذا الجانب من تاريخ حياتي الحافل بالمفاجآت - سألته عن العلاج فقال:: (أوه. . لا شيء. . لا داعي للقلق. . ولكن يجب ألا يرى الفرو أبداً. .)، والحق أقول إنه كان طيباً بارعاً جداً، فإن مرضى العصبي لم يعاودني بعدها أبداً. . والفضل بعد الطبيب هو بلا شك لزوجتي التي حرصت أعظم الحرص على ألا أرى الفرو. .
وأما النوم كيفما أتفق فهذا أشهد أنه صحيح. . وأذكر بسرور أن قطاراً سافرت فيه مرة كان غاصاً بالركاب. وكانت المسافة طويلة والشقة بعيدة تستنفد الليل كله من النوم. ولو كانت الجلسة مريحة لنمت وأنا قاعد، ولكنى كنت كالبلحة في قفة عجوة، فحرت ماذا أصنع. ثم فتقت الضرورة لي حيلة فنحيت الحقائب عن الشبكة الممدودة لها فوق رؤوسنا ورقدت مكانها، ونمت أهنأ نوم إلى الصباح، ولو كنت ضخم الجسم لما تيسر لي ذلك فالحمد لله على الضآلة. .
وأما تكليم الناس على غير معرفة فهذا هو قانون السفر، ولست تحتاج أن يعرفك أحد بأحد في رحلة، وما عليك إلا أن تبدأ من تشاء بالكلام كأنما كنت تعرفه من عهد آدم، ولكن هذا لا يخلو من خطر؛ فقد تقع على ثقيل أو ثرثار فينغص عليك وقتك ويحرمك كل متعة يمكن أن تفوز بها وأقلها متعة الراحة وخلو البال من المنغصات؛ ولكثرة ما أصابني من ذلك صرت أكره السفر بالقطار وأوثر السفر بالسيارة؛ فإذا اضطررت إلى القطار عمدت إلى الحيلة وهي أن أضع حقيبتي في أي مكان حتى يتحرك القطار، ثم أتركها وأذهب أبحث عن مكان آخر أتوسم في أهله الطرف والإيناس، وهذا يتطلب فراسة صادقة، والفراسة استعداد ولكنها تكتسب إلى حد ما بالتجربة
ومن الفوائد المجربة في الأسفار أن يستصحب المرء معه كتاباً في فن الطبخ، ولست أعني أنه قد يحتاج أن يصنع طعامه بيده وإن كان هذا محتملاً، ولكني أقص ما وقع لي في هذا الباب - أو بعضه على الأصح - فقد كنت مرة في فلسطين وكنت ضيفاً على صديق لي، فأصابني برد شديد من كثرة التنقل بين البلاد فوق الجبال بالسيارة في الليل وعاودني مغص الكليتين، فلم يبق بد من الرقاد والحمية وانتظار مشورة الطبيب وإن كنت عارفاً بدائي ودوائه، ومضى يوم ثاني وثالث وطلع الرابع وأنا لا آكل إلا الموصوف من الأطعمة الخفيفة المأمونة، وهذه لا طعم لها ولا لذة لآكلها، وكل طعام يفرض على المريض يكون بغيضاً إليه، فاشتهت نفسي أشياء قالوا لي إنه لا سبيل إليها لأن الطبيب منع أن تقدم إلي، فاعترضت على هذا وقلت لهم إن الألم قد زال وإن الصحة قد عادت ولله الحمد، وإني أستطيع الآن أن أفعل ما أشاء وآكل ما أحب، فقالوا (حتى يراك الطبيب) فقلت إن هذا طعن في ذمتي لا أقبله ولاسيما في أمر يعنيني وحدي، وأنا على كل حال أدرى من الطبيب بنفسي بل أدري من أطباء الدنيا جميعاً. وهل كان الطبيب قد أحس بالألم حين جاءني المغص. . هل عرف أني ممغوص إلا مني. . إذن انتهينا. . أنا أنبأته أني مريض ولولا ذلك لما عرف. وأنا أيضاً أنبئه أني شفيت وأنه صار من حقي أن أتمتع بمزايا الصحة. . وإذا كان الطبيب قد صدقني في واحدة فيجب حتماً أن تصدقوني في الثانية، فروحوا هاتو كذا وكذا من الآكال، وكيت وكيت من الأشربات. .
فضحكوا وأبوا أن يجيبوني إلى ما طلبت قبل أن يأذن لي الطبيب، فلم يسعني إلا أن أذعن للحرمان - فإني في بلد غير بلدي - ولكني طلبت أن يجيئوني بكتاب في فن الطبخ فاستغربوا وسألوني عما أنوي أن أصنع به فلم أعبأ بهم، فجاؤوني به فقلت لهم: (ألا تستطيعون أن تذهبوا عني إلى حيث تشاؤون فحسبي هذا الكتاب وكفى به أنيساً في وحدتي ومسلياً لي في غربتي)
وفتحته في موضع الفهرس وانتقيت الألوان التي اشتهيها وانطلقت أقرأ بنهم. وصدقوني حين أقول إن ريقي كان يجري وإني كنت أنعم بأقوى من لذة الشره المبطان وأنا أقرأ فيه
(كفتة الدجاج - تسيح الزبدة ويضاف الدقيق ثم اللبن بخفة مع استمرار التقليب حتى يصير المزيج في قوام القشدة، ثم يضاف الملح والبقدونس والفلفل، ثم تغلى مدة ثلاث دقائق، ويضاف لحم الدجاج ويخلط جيداً، ثم يصب هذا فوق طبق مسطح حتى يبرد ويؤخذ من المخلوط بملعقة كبيرة ويوضع في دقيق ويعمل على هيئة كور أو أقراص أو أشكال بيضاوية وتوضع في مكان بارد حتى تتجمد تماماً، ثم تتبل في فتات خبز، وتغطس في بيض مخفوق مخلوط باللبن، ثم في فتات الخبز ثانياً وتقلى في سمن ساخن جداً حتى تحمر ثم تنشف على فرخ ورق غير مصقول. . تنبيه - هذه الكمية تصلح أن يعمل منها أربع عشرة قطعة (ولكني نسيت أن أذكر الكميات والمقادير. . لا بأس. فليس هذا كلاماً عن الطبخ. . ولا عجب أن أذوق بالوهم والخيال مثل لذات الحقيقة فإن هذه حياتنا معشر الأدباء. . وما أكثر ما نترك الحقائق ونروح نجري وراء الظلال! ثم نحاول أن نعزي أنفسنا بأن الحقائق المشتهاة كثيراً ما أثبتت التجربة أنها دون ما كان متوقعا، وأن الخيال أفسح رحاباً وأوسع آفاقاً؛ فهو أقدر على إمتاعنا. وأن الحقيقة نفسها إنما تكون ممتعة وجميلة بفضل الخيال، ولولاه لما كان لها طعم ولا فيها متعة. فعمل الخيال لابد منه للإمتاع على كل حال سواء أكنت آكلا بالفعل أم متوهماً أنك تأكل؛ والفضل والمزية للخيال لا للمادة فإنها بمجردها لا شيء، وإنما تكون شيئاً بما يفيضه عليها الخيال من السحر والفتنة وما يضفيه عليها ويفيضه إليها ويزينها به
وعلى ذكر فلسطين أقول إني أحب السفر إليها لأنها لا تكلفني إلا أجرة القطار. أما الأكل والنوم والنزهة فعلى الله والإخوان بارك الله فيهم. وقد حدث في العام الماضي أني تعبت من العمل المتوالي فأشاروا علي بالراحة. فقلت اذهب إلى فلسطين. وكان الوقت شتاء والبرد في جبال فلسطين يكون قارساً. فقال لي صديق اذهب إلى الأقصر فقلت: فلسطين أفضل، فاستغرب وبدأ يجادل، فضاق صدري وقلت له: يا أخي إن الأقصر تحتاج إلى مال كثير، أما فلسطين فيكفيني أن تكون معي أجرة القطار
ومن الغرائب التي لا أظن أن كثيرين وقع لهم مثلها أني كنت مرة في جزيرة مع إخوان لي، فقلنا: نصيد سمكا نشويه ونأكل منه في يومنا هذا، فاخترنا شرماً يضرب الماء فيه ويمعن في البر لأنا قدرنا أن يكثر فيه السمك، وجئنا بديدان اتخذناها طعاماً وجلسنا ننتظر أن يخدع السمك. فمضت ساعة وأخرى ونحن لا نظفر بشيء، فنفذ صبر أحدنا فتركنا وغاب شيئا ثم عاد بفونوغراف أداره وهو يقول مازحا: (لعل السمك يحب الموسيقى. . من يدري. . أليس له حاسة فنية؟) فسرنا أنا وجدنا شيئا نتسلى به في هذه الجلسة المملة، وإذا بالسنارة التي كانت معي تضطرب وتنجذب إلى الماء، فشددتها فخرجت سمكة حسنة، فصحت بصاحبي (أعد! أعد. . أعني للسمك فما جاء إلا على الموسيقى) وكنت أنا أيضاً أمزح، ولكنا ما لبثنا أن وجدنا هذا حقيقة. فكان السمك يكثر ويشتد إقباله على الناحية التي نكون فيها إذا أدرنا الفونوغراف، ويقل ويذهب عنا إذا سكت. ولو كانت معنا مجموعة وافية من الاسطوانات لا استطعت أن أجرب أي الأدوار أحب إلى أي أنواع السمك، ولعرفت أي الأسماك تحب التانجو وأيها يؤثر الفوكس تروت وهكذا. وقد اتفق منذ بضعة شهور وأنا في العراق أن كنا مدعوين إلى الغداء في بيت على نهر دجلة - والعراقيون يسمون كل مسكن على النهر قصراً أو سراي ولو كان كوخاً - وكان بيت صديقنا هذا ضخما فخما وفيه جهاز للراديو، وكانت الساعة الأولى مساء - وهي بحساب الوقت في مصر الساعة الثانية عشرة - فخطر لي أن أجرب تأثير الموسيقى في السمك، فرجوت من صديقنا أن يفتح الراديو وأن يسمح لنا بالانحدار إلى الحديقة، وهي متصلة بالنهر، واتفق أنه كان مغرماً بالصيد، ولكنا لم نسمع من مصر إلا شريطاً مسجلا لأحد المغنين، ويظهر أن السمك لا يحب المعاد أو لعله لم يعجبه الغناء وإن كان يطربنا نحن الآدميين. فقلت أعود في المساء وأرى. غير أني لم أستطع أن أعود إليه قبل الساعة التاسعة مساء - أي الثامنة بحساب الوقت في مصر، واتفق أن كان الذي يذاع حديثاً فنفرت الأسماك جميعها نفوراً ظاهراً. وفي اعتقادي أن محطة الإذاعة تستطيع أن تساعد على ترقية المصايد المصرية - فتخدم السمك والناس - إذا هي عنيت بأن تدرس طبائع الأسماك وأمزجتها وما يوافقها من ضروب الموسيقى، وفي وسعها بالإذاعة المتخيرة أن تنظم صيد السمك، وأن تجعل لكل نوع منه وقتاً معيناً. فإذا كان المراد مثلاً صيد ما يسمى البوري وما يماثله أذاعت للصيادين بعض الأغاني الشجية التي تفتر النفس. وإذا كان المطلوب صيد ثعابين الماء أو حياته أسمعتها أغنية (هاتشي بشي) وهكذا فيكثر المحصول بلا عناء وينتظم الأمر كله. ويعرف الناس ماذا يستطيعون أن يأكلوا من السمك في كل يوم بمجرد الاطلاع على برنامج الإذاعة ومن غير خوف من أن يغشهم التاجر ويدخل عليهم صنفا باسم صنف آخر
والحجاز وإنجلترا هما - فيما أعرف - البلدان الوحيدان اللذان تستطيع فيهما أن تترك حقائبك أو أشياءك في الطريق فلا تمسها يد غير يدك ولا يسطو عليها سارق. فأما في الحجاز فقد سقطت مني عصاً في الطريق بين جدة ومكة فتعطل السير من الجانبين وانقطع المرور حتى اهتدى الشرطة إلى أني صاحبها فخاطبوني بالتليفون وأنا في الشمسية - قرب مكة - فرجوت منهم أن يردوا العصا اللعينة إلى جدة مخافة أن ترتكب إثماً آخر فيأخذوني بذنبها. وأما في إنجلترا فقد تركت حقائبي ساعة وصلت إلى لندن على الرصيف أمام البيت الذي اختاره صديق لي لأنزل فيه وذهبت معه - أي مع الصديق - إلى بيته حيث اغتسلت وحلقت ذقني وشربت القهوة واسترحت ثم عدت إلى الحقائب بعد ساعتين فوجدتها في مكانها كما كانت. وأغرب من ذلك أني راهنت صديقي هذا أن أقضي يوماً في لندن لا أتكلم في إلا اللغة العربية فخاف أن نتورط فيما لا يحمد واقترح أن نقتصر على السعي للوصول إلى وستمنستر أبي (من غير أن ننطق كلمة بغير لغتنا. فوافقت وتوكلنا على الله وخرجنا من البيت - هو وزوجته وأنا - وكنا نعرف الطريق ولكنا تجاهلناه، فراقني منظر رجل واقف بجانب حانة ينتظر على الأرجح وقت السماح ببيع الخمر - فإن لذلك وقته المعين حوالي الظهر وفي المساء - فدنوت منه وحييته التحية المصرية - أي برفع يدي ثم مدها إلى يده لمصافحته، وسألته - بالعربية طبعاً - عن وستمنستر، وتعمدت أن أحرفها تحريفاً شديداً فنطقتها (وستمنصته)، وأقول الحق إن الرجل فزع واعتدل بعد الميل ونسي الخمر التي يحلم بها وينتظر أن يسعد باحتسائها؛ فأعدت السؤال برفق فلم يفهم طبعاً على الرغم من صدق رغبته في ذلك، فلما يئس قال تعال معي، وقادني إلى الشرطي وهو شيء ضخم جداً وأنا شيء ضئيل أو كما يقول ابن الرومي:
أنا من خف واستدق فلا يث ... قل أرضاً ولا يسد فضاء
وقال له إن هذا الغريب يبدو لي أنه يسأل عن شيء لا أستطيع أن أتبينه، فمال علي العملاق الإنجليزي وقال يستحثني: نعم؟ فسألته عن (وستمنصته) فجعل يهز رأسه ويستعيدني، وأنا أهز له رأسي أيضاً كأني غير فاهم، وألح في السؤال عن (وستمنصته) فأحس أن في الكلمة شيئاً يمكن أن يهديه إلى مرادي وقال (قل هذا مرة أخرى) ولكني تغابيت وجعلت أتلفت، ثم قلقت وخفت، فقد رأيت صديقي وزوجته قد تركاني وذهبا فوقفا على الرصيف. وليت هذا كل ما حدث. . . إذن لما كان فيه بأس ولكنهما كانا يضحكان حتى لخيل إلي أنهما سيقعان على الأرض. وكان ضحكهما بصوت عال فخفت أن يفطن إلى أن الأمر مزاح فيستثقله أو يعده سخرية منه فتسوء العاقبة، فخففت التحريف فلم يلبث أن فطن إلى مرادي فأستوقفني حتى مرت سيارة أمنيبوس معينة فأمرني أن أصعد وتبعني صديقي وأمر الكمساري أن يأخذ منا الأجر إلى وستمنستر وأن يحرص على أن ينزلنا هناك، فأخرجت نقوداً ومددت بها يدي إلى الكمساري ليأخذ منها ما يشاء لجاجة مني في دعوى الجهل باللغة الإنجليزية. وهكذا كسبت الرهان وفي غير بوليس لندن لا تجد مثل هذا الصبر والرغبة المخلصة في المعاونة. وأذكر مثالاً آخر فأقول إن صديقاً لي أعارني سيارته لأذهب بها من لندن إلى اسكتلندا وأتمتع في طريقي بأجمل ريف في العالم، وهو ريف إنجلترا، وكانت السيارة كبيرة ضخمة ويكفي أنها من طراز (ديملر)، فكنت إذا جاء الليل قبل أن أصل إلى بلد ما وخفت أن أضل، أميل عن الطريق إلى الأرض المعشاب وأتعشى بما أعددت من الطعام، ثم أنام في السيارة إلى الصباح الباكر، فاتفق يوماً أن فرغ البنزين وأنا سائر قبل أن أنتبه، فوقفت مضطراً حيث كنت. ولما كانت السيارة كبيرة وثقيلة فقد عجزت عن تحويلها عن الموضع الذي تشغله من الطريق، فجلست على سلمها وشرعت أدخن حتى يوفقني الله إلى شيء، فمر بي شرطي كان قد فرغ من العمل على ما أخبرني، فهو ماض إلى بيته، فسألني: هل بالسيارة خلل؟ قلت: لا، ولكنها أتت على كل ما في خزانها من الوقود. فقال: انتظر، ومضى عني إلى حقل قريب، وهناك استعار دراجة - بسكليت - ركبها وعاد بها، وما لبث أن رجع حاملاً معه مقدارا كافياً من البنزين وقمعاً لإفراغه في جوف السيارة، فشكرته وقدمت له كأساً من الوسكي الذي معي في السيارة، وبعد قليل حملت القمع والصفيحة معي وذهبت بهما إلى محل البنزين، وكان على مسافة ثلاثة أميال، فرددت الأشياء ودفعت الثمن. ومن الإنصاف أن أقول إنك لا تعدم شرطياً غير إنجليزي يفعل هذا، ولكن هذه الروح في الإنجليزي طباع
وأعود إلى فلسطين فأقول إن في عكة مسجداً كبيراً هو الآن مسجد ومدرسة في آن معاً، وقد بناه - على ما أظن - أحمد الجزار باشا الوالي التركي في ذلك الزمان، وهو رجل مشهور فلا أحتاج أن أحدثكم عنه، ولكني أقول إني وجدت مكتوباً على باب المسجد من الداخل هذا البيت العجيب في مدح الجزار باشا:
(ذاك الوزير الشهم أحمد من غدا ... جزار أعناق العباد كما يجب)
وأظن هذا بيتاً يستحق التدوين. . . .
وفي بغداد دعانا الشيخ ابن معمر - القائم بأعمال المفوضية العربية في العراق إلى أكلة على الطريقة البدوية فاستحسنا ذلك جداً، وآثرناها على وليمة أخرى؛ فلما ذهبنا ألفينا السماط ممدوداً. . . وأصف ما رأيت فأقول إن السجادة غطيت بملاءة بيضاء وضع عليها جفنة ضخمة فوقها صينية عظيمة لا أدري من أين جاءوا بها، وقد قالوا لي إن عندهم ما هو أكبر منها بكثير، وفوق الصينية طشت هائل مليء أرزاً مخلوطاً بالزبيب واللوز والفستق، وعلى الأرز خروف عظيم مشوي - هذا في الوسط، وحول الجفنة وعلى مستدارها أطباق عديدة لا يأخذها الحصر، فيها أنواع شتى من الطعام. . . كالدجاج والحضر والعصيدة والولائق المختلفة، وهي من دقيق وسمن ولبن، وقد عرفوا أننا لن نستطيع مجاراتهم، فأعدوا لنا أطباقاً وملاعق وسكاكين وأشواكا، فجعلنا نحن نأكل على طريقتنا، أي أن نأخذ ما نشتهي في أطباقنا. أما هم فأكلوا على الطريقة البدوية الصرف، وهي أن يتناول الواجد قبضة من الأرز ويطوي عليها أصابعه ويضغطها حتى تصير كالكفتة، وبعد أن يفتلها على هذا النحو يقذف بها في فمه. وهذا يبدو هيناً سهلاً، ولكن المصيبة أن الطعام يكون كالنار فيحرق الكف، فكيف بالفم واللسان؟ أما اللحم فيهبر منه ما تستطيع أصابعه قبل أن تقطعه أو تمزقه ويرمي به في فمه، وما يرمي في الحقيقة إلا جمراً مضطرماً. وعلى ذكر الجمر أقول إن للعرب - أو على الأصح للبدو - طريقة عجيبة في علاج الجروح، وقد جربتها فأنا أتكلم عن خبرة ويقين، ذلك أن راحتي أصابتها النار، فجعلت أوحوح وأنفخ فيها، ولا أدري ما أصنع لتسكين الألم على الأقل، فصاح أحد النجديين الذين كانوا حاضرين هناك: - هذا كان في الحجاز: (ملح. . . ملح. . .) فجاءوه بقليل من الملح الخشن فمد به يده إلي وقال (خذ قبضة) (فتناولت منه بيدي السليمة وأنا أضحك في سري وأقول لعله يظن أن الحروق يفيد فيها السحر) فصاح بي (بيدك المحروقة)، ففهمت وأخذت قبضة بيدي المحروقة فقال (أطو عليها أصابعك) ففعلت فقال (أبق هكذا) فظللت قابضاً على الملح الخشن دقائق ثم نظر في وجهي وقال: (استرحت الآن. . زال الألم. .) ففتحت كفي وأنا أبتسم ولا أكاد أصدق، فما كنت أشعر بأي ألم ولا رأيت أي أثر للحرق! فما قول الأطباء في هذا؟ وليكن رأيهم ما يكون فأني أنا لا أنوي أن أداوي الحروق التي تصيبني - وعسى ألا يصيبني شيء - إلا بالملح. . .
وفي لبنان أنقذتني فتاة لا أعرفها من هلاك محقق، وهذه الفتاة من أعاجيب الخلق، فإن لعينها نظرة تنيم الحية - كما عرفت بالتجربة المرعبة - وأنا قوي النظرة حادها وفي وسعي أن أحدق في قرص الشمس، ولكني لم أستطع أن أحدق في وجه هذه الفتاة العجيبة. وكنت كلما وقعت عيني على عينها لا أزال أطرف ثم لا أجد بداً من تحويل عيني إلى ناحية أخرى. وكنا قد لقيناها في الصباح ونحن نصعد في جبل في رأسه ينبوع أردت أن أرى الموضع الذي يتفجر منه ماؤه. وكانت تحمل جرة فيها من ماء هذه العين، وكنا نخاف أن نضل، فسألناها عن الطريق واستملحناها فاستسقيناها وأردت أن أنقدها بضعة قروش فأبت، وأنبأتها أني أريد أن أرى مفجر العين فنهتني عن ذلك، فسألتها عن السبب فقالت وهي تهز كتفيها: (هيك) ولم تزد، ولما ودعناها عادت فحذرتني، فضحكت وشكرتها وأبيت إلا أن أصعد إلى حيث ينبثق الماء، وصعدت وحدي فقد رأى إخواني وعورة الطريق فانصرفوا عن مرافقتي، فوجدت كهفاً على بابه عشب ونبات طويل ورأيت الماء يخرج من الكهف، فقلت أدخل لأرى فنحيت النبات وإذا بي أرى عينين لامعتين فظيعتين ثابتتين تحدقان في عيني، وكانت نظرتهما من القوة بحيث لم أستطع أن أحول وجهي، وزاد فظاعة النظرة وعمق تأثيرها أن العين لا تطرف والجفون لا تتحرك وأن البريق شديد جداً في ظلام الغار. وكانت العينان ترتفعان عن الأرض شيئاً فشيئاً وتدنوان مني على مهل وأنا أنظر إليهما ويداي إلى جانبي وقد جمدت في مكاني وشعرت بالخدر في أعضائي. وكنت قد أدركت أن هذه حية وأنها من النوع الوثاب الذي تتحرك عيناه ولا تطرف جفونه، ومن هنا عمق تأثير نظرتها، ولم يخالجني شك في أني مقضي علي بالهلاك. وكيف أنجو وأنا مسمر في مكاني لا أستطيع حراكاً؟ ولو وسعني أن أتحرك لو ثبت الحية علي وأنشبت في أنيابها قبل أن أدور على عقبي. وكانت نفسي تنازعني أن أصرخ مستنجداً ولكن شفتي كانتا مطبقتين لا تنفرجان. وإذا بالعينين المرعبتين تتراجعان في الظلام وتهبطان إلى الأرض بعد أن كانت ترتفعان عنها وتزحفان إلي، وأحسست أن نظرتهما تفتر وأن تأثيرهما في نفسي صار أقل وأضال، وشعرت بأني صرت أملك أن أحرك أعضائي بعد طول الجمود؛ فتلفت فإذا الفتاة التي لقيناها في الصباح تحدق في عيني الحية بأقوى من نظرة الحية. ويكفي أنها ردتها بعينها. واختفت الحية فتشهدت وملت على الفتاة لأشكرها بقدر ما كان يسعني أن أفعل في مثل هذه الحالة، فلامتني على مخالفتها وذكرتني أنها حذرتني وقالت إنها أشفقت علي من المصير الذي كان لا مفر منه فأدركتني قبل أن أقضي نحبي فسكت ولم أقل شيئاً. . . وماذا أقول؟.
إبراهيم عبد القادر المازني