الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 160/المقري مؤرخ الأندلس

مجلة الرسالة/العدد 160/المقري مؤرخ الأندلس

بتاريخ: 27 - 07 - 1936


حياته وتراثه

للأستاذ محمد عبد الله عنان

- 1 -

عرفت المقري - صاحب نفح الطيب حدثاً، وشغفت بأثره الجامع عن الأندلس، وأعجبت بجهده الجلد، وأدبه الممتع، واستطعت بعد أعوام طويلة من البحث والتنقيب في تاريخ الأندلس، أن أدرك أهمية الشذور الضافية والوثائق الجمة، التي وقف عليها المقري في عصره، وألهم أن ينقلها إلينا في كتابه، ولولاه لغاضت مع مصادرها الأصيلة إلى الأبد، وحيل بيننا وبين الانتفاع بذلك التراث الحافل الذي يقدمه إلينا المقري في كتابيه نفح الطيب وأزهار الرياض

وقد خطر لي غير مرة أن أكتب ترجمة موجزة للمقري، وأن أستعرض مجهوده وتراثه؛ وأحسب الآن أن فرصة خاصة تعرض للوفاء بهذه المهمة، ذلك أني قد أزمعت - بعون الله - الرحلة إلى تلك الأندلس التي ملأت حياة المقري، وأذكت أدبه وبيانه، وأجرت قلمه أعواماً طوالا، وأزمعت أن أحج إلى تلك الربوع والمروج والمعالم التي أفاض المقري في وصفها، والتغني بمحاسنها الذاهبة، وآثار أطلالها الدارسة، والتي مازالت ذكرياتها قبل المقري وبعده تسيل عبرات التاريخ الإسلامي

هو شهاب الدين أبو العباس أحمد بن محمد بن أحمد الشهير بالمقّري نسبة إلى مقّرة، موطن أسرته القديم، وهي بلدة من أعمال قسطنطينية، واليها ينتسب عدة من أدباء المغرب الأكابر. ولد، كما يحدثنا في مقدمة كتابه (نفح الطيب) بمدينة تلمسان ونشأ بها، ولم يذكر لنا تاريخ مولده، وهو تاريخ يضعه بعض الباحثين المحدثين في نحو سنة1000 هـ (1591 - 1593)؛ بيد أنه يلوح لنا من تتبع نشأة المقري وحوادث حياته حسبما يقصها علينا، أنه ولد قبل ذلك التاريخ بعدة أعوام، فهو أولاً يذكر لنا أنه (نشأ بتلمسان إلى أن رحل عنها في زمن الشبيبة إلى مدينة فاس سنة تسع وألف)، فلو كان مولده سنة1000 لما تحدث هنا عن الشبيبة، إذ يكون عمره عندئذ تسعة أعوام فقط، أعني غلاماً حدثاً، وهو ما لا ينصرف إليه الشباب؛ ثم هو يشير حين التحدث عن اعتزامه كتابة موسوعته عن الأندلس إلى شبابه الذاهب الذي قضاه بالمغرب قبل وفوده على مصر سنة 1027هـ، وفي هذه الإشارة أيضاً ما يدل على أن المقري حين مقدمه إلى مصر، كان قد طوى مرحلة الشباب الأولى؛ وربما كان يومئذ في نحو الخامسة والثلاثين من عمره؛ وعلى ذلك يكون مولده قبل الألف بنحو ثمانية أعوام؛ أعني حوالي سنة 992هـ (1584) م

ونشأ المقري في تلمسان، التي نشأ بها أبوه وأجداده من قبل، وتلقى بها دراسته الأولى، ودرس الأدب والحديث والفقه المالكي دراسة حسنة، وكان بين أساتذته عمه أبو عثمان سعيد المقري مفتي تلسمان؛ وكانت تلمسان مازالت حتى عصره من أهم مراكز الدراسة الدينية بالمغرب، وزار فاس لأول مرة سنة 1009هـ، وقضى بها حيناً في الدرس؛ ثم زارها مرة أخرى في سنة 1011؛ ثم استقر بها منذ سنة 1013. وكان ذلك في فاتحة عصر السلطان أبي المعالي زيدان السعدي؛ وسنحت له في فاس عاصمة المغرب الدينية والعلمية فرص الدرس المستفيض، ولاسيما في المكتبة السلطانية؛ واتصل بمولاي زيدان وآله الأشراف السعديين أمراء مراكش، وولي الإمامة والخطابة لجامع القرويين الشهير، ثم ولي الإفتاء، واستمر في منصبه حتى سنة 1027هـ

وفي أواخر سنة 1027هـ، اعتزم المقري الرحلة إلى المشرق. والظاهر أنه لم يعقد هذا العزم مختاراً، وأنه أرغم عليه لأسباب وظروف يشير إليها، ولا يوضحها؛ فهو يقول لنا أنه (لما قضى الملك الذي ليس لعبيده في أحكامه تعقب أورد. . . برحلتي من بلادي، ونقلتي عن محل طارفي وتلادي، لقطر المغرب الأقصى، الذي تمت محاسنه لولا أن سماسرة الفتن سامت بضائع أمنه نقصاً، وطما به بحر الأهوال. . . وذلك في أواخر رمضان من عام سبعة وعشرين بعد الألف، تاركاً المنصب والأهل والوطن والألف. . .) أما هذه الظروف التي يشير إليها المقري والتي قضت عليه بالرحيل عن الوطن، فنستطيع فهمها على ضوء الحوادث التي كانت تجوزها مملكة فاس يومئذ؛ فقد تولى مولاي زيدان الملك دون أخويه المأمون، وأبي فارس (سنة 1013هـ) ولم يلبث أن نشبت بينهما حروب أهلية متوالية؛ وهزم مولاي زيدان أولاً، وفر إلى تلمسان، ثم استعاد ملكه بعد عدة محاولات دموية، وبعد أن أجلي عنه غير مرة، في سنة 1108هـ؛ بيد أن عهده كان مضطرباً، فياضاً بالحروب والفتن؛ ولا ريب أن المقري لم ترقه هذه الحياة المضطربة، وأنه اضطر إلى مغادرة المغرب تفادياً من عواقب الفتن والدسائس المستمرة التي كانت تكدر صفو الحياة في فاس، وعلى كل حال فقد غادر المقري وطنه في أواخر سنة 1027هـ، وركب البحر إلى مصر، وعانى من اضطرابه وروعته أهوالاً يصفها لنا في عبارات قوية مروعة؛ والظاهر أيضاً أن سفينته كانت تخشى مطاردة القرصان النصارى، فكان الخوف مضاعفاً؛ وقد كانت مياه البحر الأبيض المتوسط يومئذ مسرحاً لمعارك هائلة مستمرة بين سفن المسلمين والنصارى، ووصل إلى مصر بعد رحلة شاقة مزعجة في أواخر سنة 1027هـ؛ ونزل بالقاهرة فبهرته معالمها ومحاسنها برغم ما أصابها في ظل الحكم التركي من عفاء وتدهور؛ وأقام بها أشهراً، ثم اعتزم الرحلة إلى الحج في أواخر سنة 1028هـ (1618م) فركب البحر إلى الحجاز وطاف بالأماكن المقدسة، وعاد إلى القاهرة في المحرم من العام التالي؛ ثم زار بيت المقدس في شهر ربيع الأول، وعاد إلى القاهرة واستقر بها؛ وتزوج سيدة مصرية من سيدات الأسرة الوفائية؛ ولكنه لم يكن زواجاً موفقاً، وقد فصمت عراه كما سنرى بعد أعوام من الحياة الزوجية الكدرة. وكرر المقري الرحلة إلى الحجاز، وأدى فريضة الحج مراراً، فلم تأت سنة 1037هـ حتى كان قد أداها خمس مرات؛ وجاور أثناء الحج في مكة، وألقى فيها كثيراً من دروسه، وأملى الحديث في المدينة، وعاد إلى مصر من حجته الخامسة في فاتحة سنة 1037 (1627م)

واستقر المقري في القاهرة طوال هذه الأعوام، ولازم الدرس والتدريس بالجامع الأزهر، وتبوأ مكانته في مجتمع مصر العلمي والأدبي، وفي رجب سنة 1037هـ زار المقري بيت المقدس مرة أخرى، وألقى بعض دروسه بالجامع الأقصى، ثم غادرها بعد بضع أسابيع إلى دمشق، فبهرته محاسنها كما بهرته القاهرة من قبل؛ ورحب به كبير علمائها ومفتيها الشيخ عبد الرحمن عماد الدين؛ واتصل بكثير من أدبائها وأعيانها وبالأخص بالمولى أحمد أفندي شاهين وهو من أعيانها الأدباء؛ وألقى بعض دروسه في الحديث في الجامع الأموي فاحتشد الطلاب حوله من كل صوب، وحفل به المجتمع الدمشقي. وكان يبكي السامعين بخطبه ومواعظه، ويتسابق العلماء والطلاب إلى لثم يده؛ وكان أثناء إقامته بدمشق يكثر الحديث في حلقاتها الأدبية عن الأندلس ومحاسن تاريخها وذكرياتها وبالأخص عن وزيرها الكبير ابن الخطيب، فاقترح عليه صديقه المولى أحمد شاهين أن يضع كتاباً في التعريف بابن الخطيب، ومناقبه، وتراثه من نظم ونثر؛ فاعتذر أولاً بكثرة مشاغله، وقلة مادته ومراجعه، وخصوصاً لأنه ترك معظمها في المغرب، ولكنه اضطر إزاء الإلحاح أن ينزل عند هذه الرغبة، ووعد بالوفاء منذ عوده إلى القاهرة

وعاد المقري إلى القاهرة بعد أن أنفق في دمشق بضعة أسابيع، وعكف حيناً على إنجاز المهمة التي أخذها على نفسه، أعني كتابة ترجمة ابن الخطيب والتعريف بمآثره وتراثه؛ ويقول لنا أنه استطاع غير بعيد أن ينجز منه قسماً لا بأس به، ولكن عاقته عن إتمامه مشاغل وهموم؛ والظاهر أن المقري لم يكن في مقامه النائي عن وطنه، هانئاً قرير البال، فهو يحدثنا غير مرة عن آلام الغربة ومتاعبها. ومما يقول في ذلك: (وليت شعري علام يحسد من أبدل الاغتراب شارته، وأضعف الاضطراب إشارته، وأنهل بالدموع أنوائه، وقلل أضوائه، وكثر علله وأدوائه، غير عنده التأمل رواءه، وثنى عن المأمول عنانه، وأرهف بالخمول سنانه، حتى قدح الذكر حنانه، وملأ الفكر جأشه وجنانه. . . وشتان ما بين الاقتراب والاغتراب، والسكون في الركون، والنبو عنها والاضطراب، فذاك تسهل غالباً فيه الأغراض والمآرب، وهذا تتعثر فيه المقاصد وتتكدر المشارب

وما أنا عن تحصيل دنيا بعاجز ... ولكن أرى تحصيلها بالدنية

وإن طاوعتني رقة الحال مرة ... أبت فعلها أخلاق نفس أبية

وقوله:

تركت رسوم عزي في بلادي ... وصرت بمصر منسي الرسوم

وصنت النفس بالتجريد زهداً ... وقلت لها عن العلياء صومي

مخافة أن أرى بالحرص ممن ... يكون زمانه أحد الخصوم

كان المقري إذن في منفاه متعباً معنى؛ والظاهر أنها كانت متاعب العيش فوق شجون الاغتراب؛ فقد كانت سوق العلم والأدب يومئذ كاسدة، وكان المجتمع القاهري قد فقد في ظل النير التركي بهاءه وسعته ورخاءه، وعفت روعة الأزهر الذي كان من قبل موئل الوافدين من كل صوب

ولكن المقري عاد فاستأنف الكتابة نزولاً على إلحاف صديقه أحمد شاهين واستنجازه، واستطاع أن يتم كتابه عن ابن الخطيب بصورته الأولى في بضعة اشهر فقط لعودته من دمشق، وذلك في أواخر شهر رمضان سنة 1038هـ (1628م)؛ وفيه يتناول حياة ابن الخطيب، ويستعرض صفاته وخلاله ومآثره، وكثيراً من نثره ونظمه؛ ويقول لنا أنه سمى مؤلفه لأول مرة (عرف الطيب في التعريف بالوزير ابن الخطيب)

غير أن ذلك المؤلف الأول لم يكن هو (نفح الطيب) كما انتهى إلينا. ذلك أن المقري خطرت له بعد الفراغ من التعريف بابن الخطيب فكرة أخرى هي أن يمهد لكتابه بذكر الأندلس وتاريخها ومحاسنها وذكرياتها، وتطورت هذه الفكرة حتى غدت هيكل الكتاب الأصلي؛ فاستمر في الكتابة عاماً وبضعة اشهر أخرى، وأتم مؤلفه حسب وضعه الجديد، كما يحدثنا في خاتمة مؤلفه، في آخر ذي الحجة سنة 1039هـ (1629 - 1630م) واختار عندئذ لكتابه اسما جديدا، هو الذي انتهى به إلينا، وهو:

(نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب

وذكر وزيرها لسان الدين بن الخطيب)

والواقع أنه من التواضع أن يسمى (نفح الطيب) كتاباً، فهو كما سنرى موسوعة ضخمة عن الأندلس، تاريخها، وجغرافيتها وآدابها؛ ومن المدهش حقاً أن يستطيع المقري أن يضع مثل هذا الأثر الضخم في مثل هذه المدة القصيرة؛ ولكن سنرى أن فضل المقري في وضعه يرجع إلى الاقتباس أكثر مما يرجع إلى التأليف؛ وسنرى مع ذلك أن للمقري في هذا الاقتباس فضلاً لا يقدر وأن نفح الطيب هو أقيم مصادرنا العربية عن تاريخ الأندلس وآدابها

وكان المقري منذ عوده من دمشق قد طلق زوجته الوفائية، ووضع بذلك حدا ًلتلك الحياة الزوجية الكدرة؛ وما كاد يتم مؤلفه حتى أزمع العودة إلى دمشق ليتصل فيها بأصدقائه وليطلعهم على مؤلفه الذي وضعه نزولاً على إشارتهم؛ ولكن الموت عاجله، فتوفى في جمادى الآخرة سنة 1041هـ (يناير سنة 1632م)، ودفن في بقرافة المجاورين بالقاهرة

(للبحث بقية - النقل ممنوع)

محمد عبد الله عنان