مجلة الرسالة/العدد 16/أحياء ذكرى ابن خلدون
→ ستانلي باي! | مجلة الرسالة - العدد 16 أحياء ذكرى ابن خلدون [[مؤلف:|]] |
الزينة عند قدماء المصريين ← |
بتاريخ: 01 - 09 - 1933 |
نشر الأستاذ محمد عبد الله عنان فصولاً في الرسالة أرَّخ فيها
العلامة ابن خلدون، فكانت هذه الفصول ولاغرور خير ما
كتب في تاريخ هذا العلامة، بيد أن الأمر الذي يرجوه الناس
ودعا إليه الصحافي العجوز في مايو سنة 1932 بالأهرام لم
يتحقق ولم نصل إليه. دعا هذا الصحافي الفاضل إلى إحياء
ذكرى ابن خلدون لكي ينتفع هذا الجيل وما بعده بهذه الذكرى
الطيبة، وقام الكتّاب على أثر ذلك يبينون ما نعمل لأحياء هذه
الذكرى، وكان من رأي الأستاذ احمد زكي باشا أن ينصب له
تمثال، وأن يبحث عن قبره ليشيّد. وكان من الآراء القيّمة
النافعة أن يطبع تاريخ ابن خلدون ومقدمته وينشرا على الناس
بنفقات طبعهما. وهذا الرأي كان خير الآراء وانفعها، وقد
انقضى عام وبعض عام بغير أن نرى أحدا قد نهض لأحياء
هذه الذكرى. ولقد كنت قرأت في صيف سنة 1923 للمرحوم
تيمور باشا بحثا في الهلال، أبان فيه أنه لا يوجد في ما طبع
من مقدمة ابن خلدون طبعة صحيحة، وأنه رأى بخزانة
الأستاذ زكي باشا نسخة مخطوطة صحيحة بقلم ابن خلدون
نفسه، فرجعت إلى أحمد زكي باشا لأسأله عما قال تيمور باش فأجاب بأن لديه حقيقة نسخة مخطوطة مصححة بقلم ابن
خلدون، وأنه في سنة 1930أتى بصورتها عن النسخة
الأصلية الموجودة بمكتبة عاطف أفندي بالأستانة، وزاد على
ذلك بأنه يدعو من يشاء إلى طبعها ونشرها. ولما استيقنت من
وجود هذه النسخة أرسلت خطابا إلى رئيس لجنة التأليف
والترجمة والنشر، رغبت إليه أن تعمل اللجنة على نشرهذا
الأثر الجليل، فرد عليَّ حضرته في أغسطس سنة 1927 بأن
اللجنةتضع اقتراحنا موضع البحث، ففرحت بهذا الجواب
وجعلته بشرى أذعتها بجريدةالمقطم الغراء بين الناس. وها قد
انقضى ستة أعوام كاملة بغير أن يتحقق مارجونا. ولما كان
من أغراض اللجنة الموقرة نشر الكتب القيمة، وليس من
شكفي أن تاريخ ابن خلدون بمقدمته الموجودة بالخزانةالزكية
هو خير ما ينشر من كتب الأوائل في هذا العصر، فاني أعيد
الرجاء على صفحات الرسالة إلى هذهاللجنة الموقرة، لتعمل
على طبع هذا التاريخ ومقدمته، ويكون ما كتبه الأستاذ عنان
تصديرا لهذا التاريخ، وبذلك تكون اللجنةقد أدت للعلم
والأبأجل عمل، ولابن خلدون أجمل ذكرى. محمود أبو ريه.
مطالعاتفي التصوف الإسلامي
تمهيد - كشف المحجوب - عوارفالمعارف
- 1 -
يمتاز العصر الذي نعيش فيه بأنهعصر نهضة فكرية تناولت الحياة العامة والخاصة للأفراد والجماعات ويمتاز هذا العصر أيضا بما استحدث فيه الباحثون من مناهج علمية لهاقيمتها وأثرها في كشف الحقيقة التي يقصد إليها كل باحث. على أن هذه النهضة مهماتكن عامة شاملة، وهذهالمناهج العلمية الحديثة مهما تكن دقيقةمنتجة، الا أننا لا نزال نرى أن في تاريخ الفكر الإسلامي ناحية خصبة ممتعة طريفة قد أعرض عنها الباحثون من الشرقيين إعراضاً هو أقرب مايكون إلى الإهمال الشنيع منه إلى أي شيء آخر. على حين ترى الباحثين من المستشرقين قد عنوا بهذه الناحية عناية خاصة فائقة. فكشفوا عن خباياها وأظهروا ما اشتملت عليه من فكر عميق وشعر رقيق. وأحسوا بماتثيره في نفوسهم هذهالآثار من متعة عقلية ولذة شعورية. هذه الناحية التي أهملها الشرقيون وعنى بهاالمستشرقون هي ناحية التصوف الإسلامي وما أنتج فيه من مؤلفات لها مكانتها الأبية، وقيمتها الفكرية بين ما أنتج العقل البشري عامة، والعقل الإسلامي خاصة.
وليس أدعى للأسف ولا أبعث على الحسرة من أنك إذا أردت أن تعرف شيئا عن تاريخ التصوف الإسلامي: نشأته وتطوره، وأن تلم إلماما كافيا بمن ظهر من متصوفة، من شعر ونثروإرشادات وإيماءات تلتمس هذا كله عند المستشرقين في لغاتهم الأوربية المختلفة. وتلتمس هذا كله بصفة خاصةعند ماسينيون في الفرنسية وعند نيكلسون في الإنجليزية. وأنت لاشك واجد عند هذين العالمين ما تطمع فيه من بحث منظم وأسلوب علمي دقيق، وتصوير جميل بديع لهذه الشخصيات الفذة العجيبة التي ظهرت إبان العصور المتعاقبة لتاريخ التصوف الإسلامي. وأنك حين تتصفح كتابامن كتب المستشرقين فليس من شك في أنك ستعجب بمهارتهم الفائقة في البحث وبمقدرتهم الغريبة على جمع الأخبار ولم شعث الآثار وتحقيقها على ضوء المنهج العلمي الحديث بحيث ينتهون من هذا كله إلى الحقيقة الثابتة التي لا يأتيها الشك من بين يديها ولا من خلفها. وليس من شك أيضاً في أنك ستقدر ما بذل هؤلاء القوم من جهد، وما تحملوا من مشقة وألم في سبيل إخراج ما أخرجوا من أبحاث منظمة وأسفار قيمة. وليس أدل على عناية المستشرقين بالحضارة الإسلامية عامة وبالتصوف خاصة من أن أحدهم وهو العالم الكبير والباحث الجليل المسيو لويس ماسينيون قد قضى أعواما طوالا يجوب فيها البلادالإسلامية المختلفة باحثا عن نصوص صوفية لم يسبق نشرها، وقد وفق فيما قصد إليه توفيقاً عظيماكانت ثمرته هذا الكتاب القيم المسمى (مجموعة نصوص لميسبق نشرها تتعلق بالتصوف الإسلامي) ناهيك بان المسيو ماسينيون قد تعرض إلى بحث شخصية قوية جداً من شخصيات التصوف الإسلامي وأعني بها شخصية الحلاج. فكانت ثمرة بحثه هذا السفر الضخم حقاً، الخالد حقا، في تحليل شخصيةالحلاج ونفسيته، والإبانة عنمذهبه وعن رأي المدارس الإسلامية المختلفة فيه. وليس أدل على عناية المستشرقين أيضاً بهذه الناحية القيمة الممتعة من أنهم قد عمدوا إلى ما أنتج المتصوفة من مؤلفات فأوسعوها درساوتحليلا وما هي الا أن تناولوها بالترجمة إلى لغاتهم وشرحوها وعلقوا عليها. وما هي الا أن طبعوها وأذاعوها في الناس. وما هي الا أن قرأت هذه المؤلفات ونوقشت. وانتهى هذا كله إلى أن اختلف المستشرقون حول هذه الكتب فمنهم من تعصب لها ومنهم من تعصب عليهاومنهم من رأى فيها رأيا غير الذي يراه غيره. ومن هنا كثرت المؤلفات الأوربية في التصوف. على حين أنك إذا أردت أن تعثر على كتاب في العربية يعطيك صورة واضحة جلية لنشأة التصوف وتطوره في الإسلام فانك لن توفق إلى بغيتك، ذلك لأن الشباب المثقف عندنا قد ضاق صدره بكتب التصوف القديمة كما ضاق بغير كتب التصوف منالآثار الإسلامية وغير الإسلامية، فأنت إذا طلبت إلى شاب مصري مثقف أن يطالع كتابا عربيا قديما في التصوف فمن المؤكد أنه لا يكاد يقرأ منه صفحة أو صفحتين حتى تضيق نفسه، ويحرج صدره، ويستولي عليه الملل والسأم، فيلقي بالكتاب إلقاء على أن لا يعود إليه مرة أخرى. ولعل عذره في ذلك هو أن ما تكلفه قراءته وما تحمله مشقة مطالعته إنما هو كتاب مختلط مضطرب لم ترتب أبوابه. ثم هو ضخم طويل إن عرف أوله فقد لا يعرف آخره. وأكبر الظن أن شبابنا حين ينظر إلى الآثار الإسلامية هذه النظرة التي هي أقرب إلى الازدراء منها إلى أي شيء آخر، أقول أن شبابنا مسرف على نفسه وعلى الحضارة الإسلاميةمسيء إلى نفسه وإلى الحضارة الإسلامية. ولو قد تجمل بالصبر على ما يقرأ وتضرع بالثبات على ما يقرأ. واستعان بالفهم المستقيم لما يقرأ. لانتهى منه إلى ما يشبع رغبته ويرضى حاجته العقلية والشعورية. وإذن فما أجدر شبابنا المثقف أن يعمد إلى هذه النواحي المهملة من تراثنا المجيد فيتناولها بحثاً وتحليلاً، وتفسيراً وتأويلاً، بحيث يخضعها لمناهج البحث الحديث فهي كفيلة بأن تشعره بما في قراءته من لذة قوية ومتاع خصب.
وأحب أن أحدثك في سلسلة من الفصول عن التصوف الإسلامي. فأتناول في بعضها الحديث عن بعض المؤلفات التي أودعها أصحابها مسائل التصوف ونظرياته. وأتناول في بعضها الآخر تحليل بعض الشخصيات القوية التي ظهرت في تاريخ التصوف الإسلامي فكان لها أكبر خطر وأعظم أثر. وبهذا أكون قد قمت بجزء من الواجب على كل شاب مصري مثقف أن يقوم به نحو هذا التراث الإسلامي المجيد. وأحب بعد هذا كله أن أتناول في هذا الفصل كتابين عنى بهما المستشرقون فترجموها إلى لغاتهم، وذلك لأن هذين الكتابين يعدان من أهم الكتب التي تظهرنا على المسائل الصوفية، والإشارات الباطنية، وما ينسب إلى المتصوفة من أقوال في هذه الإشارات وهذه المسائل. هذان الكتابان أحدهما (كشف المحجوب) للهجويرى. والثاني (عوارف المعارف) للسهروردي.
- 2 -
أما مؤلف (كشف المحجوب) فكان معاصراً للقشري الصوفي الفارسي الذي عاش بنيسابور وتوفي عام 465 هـ (1072 م) والذي يعرف بمؤلفه المشهور (الرسالة القشيرية) ولم تكن لكشف المحجوب هذه الروح النقدية المؤسسة على قواعد علمية راسخة، فهو كتاب من هذه الكتب التي يمتاز مؤلفوها بالقدرة على جمع المسائل الصوفية وأخبار المتصوفة، ووضعها في أقسام وأبواب. هذا فضلاً عن أن هذا الكتاب قلما يذكر فيه شيء عن تواريخ الأشخاص الذين يتحدث عنهم.
ولعل أكثر ما يذكر لك عن الشخص الذي يعرض له قولاً أو قولين من هذه الأقوال التي تنسب إليه. وانه ليكتفي بهذا القول أو بهذين القولين فيعمد إليهما بالشرح والتفسير ولكنه شرح غامض وتفسير مبهم. ومن الحق كل الحق ألاّ يثق الباحث المدقق ثقة تامة بكل ما ينسب إلى المتصوفة من أقوال وما ينسب حولهم من قصص كتلك التي يذكرها الهجويري في كتابه. وإنما هو مضطر على العكس إلى أن يأخذ هذه الأخبار وهذه القصص وهذه الأقوال إلى البحث العلمي الصحيح فينكر بعضها حين يلزم الإنكار ويشك في بعضها الآخر حين يجب الشك. ويرجح طائفة منها إذا كانت هناك حاجة إلى الترجيح ويؤكد طائفة أخرى حين لا يجد الشك سبيلاً إلى ما يؤكد بحيث ينتهي من هذا كله إلى الحقيقة الثابتة الراسخة التي لا تقبل شكاً ولا تحتمل جدلاً. وإذا كنا نلمس في تضاعيف المؤلفات الصوفية أموراً من شأنها أن تحملنا على التفكير وتدعونا إلى الشك فلا بد لنا من أن نقف من هذه المؤلفات موقفاً إن لم يكن موقف المتشكك المرتاب، فلا أقل من أن يكون موقف المحقق المدقق الذي لا يبغي من وراء تحقيقه وتدقيقه الا وجه الحقيقة خالصاً صافياً لا تشوبه شائبة. ولعل الهجويري نفسه قد قدم لنا مثلاً لما من شأنه أن يحملنا على الشك في صحة بعض ما يذكر في كتب التصوف القديمة. فهو
حين يتحدث عن الخلوي يقول: (هو مترجم الأولياء المعروف ولكي يفسر المذاهب الصوفية الأساسية فقد نسب إلى شخصيات عديدة قصصاً ألفها هو. . .). ومهما يكن من شئ فتلك مسألة نتركها الآن لنعرض إلى تلخيص الكتاب الذي نحن بصدده.
يرجع الهجويري بداية التصوف إلى عهد النبي صلى الله عليه وسلّم، كما يذكر تحت اسم (أهل الصفا) فريقاً من الصحابة الذين وقفوا حياتهم على التضحية وكانت معيشتهم أقرب إلى الإعراض عن الدنيا والزهد فيها، منها إلى الإقبال عليها والميل إليها. ولعل أشهر هؤلاء الصحابة رجلان: أحدهما بلال الحبشي والآخر سلمان الفارسي.
أما في الجيل الأول من التابعين فأقوى الشخصيات التي ظهرت وذكرها الهجويرى شخصية الحسن البصري. وليس ثمة شك فيما لهذه الشخصية من أثر قوي وخطر عظيم في تاريخ الحضارة الإسلامية. فأسم الحسن البصري يذكر على رأس دراسات إسلامية متعددة. فهو يذكر في دراسة القرآن والنحو وعلم الكلام وغير ذلك من فروع الثقافة الإسلامية المتنوعة.
ويذكر مؤلف (كشف المحجوب) بعد جيل الحسن البصري أربعة وستين صوفياً أخذ يعددهم حتى دنا من العصر الذي كان يعيش فيه. وانك تراه يذكر فيمن يذكر من هؤلاء المتصوفة أبا حنيفة وابن حنبل وداود الطائي. أما الصوفيون الحقيقيون، وبعبارة أدق (المتخصصون) فمن بين الذين يذكرهم ذو النون المصري وابن أدهم والبسطامي. وهذه الأسماء الثلاثة كثيراً ما يتردد ذكرها في المؤلفات الصوفية نظراً لما لها من قيمة ولما لعبت من أدوار في تاريخ التصوف الإسلامي. ويذكر الهجويرى بعد هؤلاء عشرة من المتصوفة المعاصرين له أشهرهم القشيري. ثم فريقاً كان لا يزال حياً وقتئذ في الأنحاء المختلفة لبلاد الفرس. ويأتي بعد هذا كله فصل طويل عن إحدى عشرة طائفة صوفية وقد جعل لكل طائفة مقالاً خاصاً تناول فيه ناحية معينة من مذهبها. ويرى السواد الأعظم أن الخلاف الذي شب بين هذه الطوائف لم يكن ذا أهمية وأنه ليس الا وسيلة يستعان بها على تفسير المذاهب المختلفة، فالطائفة الأولى مثلاً تذكر الرضى من بين الأحوال بدلاً من أن تجعله بين المقامات. ويعقب الهجويرى على هذا بمقال عن الرضى. والطائفة الأخيرة تظهرنا على رأي المتصوفة في مسألة فلسفية نفسية ذات خطر. ذلك أنها كانت تؤمن بالتناسخ. ومن هنا ترى مؤلف (كشف المحجوب) يذيل كلامه عن هذه الطائفة بمقال عن الروح. وفوق هذا كله فان المؤلف قد بسط مذهب المتصوفة في صورة أخرى موضوعة في أحد عشر فصلاً مثلها في هذا العدد كمثل الفصول التي سبقتها. وانه ليجعل عنوان كل فصل من هذه الفصول هكذا: (كشف المحجوب الأول والثاني والثالث. . . إلى الحادي عشر) والمحجوبات هنا تقابل المسائل الجوهرية للدين الإسلامي (وحدانية الله - الإيمان - الوضوء - الصلاة. . . الخ) فكل مسألة من تلك لها تفسير صوفي. أو هي بعبارة أخرى تقابل فصلا من فصول التصوف. وأنك لتلاحظ في هذا القسم حرية التفسير والتأويل التي اصطنعها المتصوفة في فهمهم للدين. فأنت ترى مثلافي صفحة (301) من الترجمة الإنجليزية التي وضعها الأستاذ نيكلسون وطبعتها ونشرتها لجنة أحياء ذكرى جب: (الصلاة عبارة عن تعبير يجد فيه المريدون الطريق الموصل لله من البداية إلى النهاية. وفيهتنكشف لهم المقامات. والطهارة للمريدين هي التوبة. وأنت حين تولي وجهك نحو القبلة معناه انك تخضع نفسك للمدبر الروحي. وأنت حين تصلي واقفامعناه انك تذل نفسك. وتقابل تلاوة القرآن التأمل الباطني. وإطراق الرأس هو التواضع. والركوع والسجود هما معرفة الإنسان لنفسه والتسليم هو الانفصال عن الدنيا. ويحل محل الاعتراف بالإيمان الأنس بالله) وآية ذلك هي أن كل حركة عملية يمكن تأويلها تأويلا صوفيا وأن كل رياضة جسمية تقابلها عاطفة روحية.
- 3 -
ولنترك الآن كشف المحجوبلنقف وقفة قصيرة عند الكتاب الثاني الذي أريد أن أحدثك عنه وأعني به (عوارف المعارف) ويمتاز هذا الكتاب بأنه أكثر تقسيما وأوفر تنظيما من سابقه. ثم هو أقدر على أظهارنا على منشأ العلوم الصوفية والإبانة عن آداب المتصوفة ومذاهبهم وأخبارهم وأقوالهم بحيث يمكن اعتباره كتاباتعليميا بكل معاني الكلمة. وليس أدل على قيمة هذا الكتاب من أن ويلبرفورس كلارك قد ترجمه. ومن أن بعض المستشرقين ينظر إليه كأنه تحفة أدبية لها قيمتهابين الأسفار العربية الكلاسيكية التي تسودها روح المنطق ويسيطر عليهاأسلوب البحث والاستقصاء. ومن أن البارونكارا دي فو قد تكلم عن هذا الكتابفي مؤلفه عن الغزالي ثم أعاد الحديث عنه مرة أخرى في كتابه (مفكري الإسلام). فهذا كله يظهرك على ما للكتاب من خطر وما فيه من غناء.
أما مؤلف الكتاب فهو شهاب الدين السهروردي أحد أعقاب أبي بكر رضيالله عنه. كان تلميذا لعمه أبي النجيب وللصوفي المعروف عبد القادر الجيلي. وكان شيخا لمشايخ بغداد. التف حوله عدد ضخم من المتصوفة والزهاد وله غير مؤلفه الذي نحن بصدده طائفة لابأس بها من الأشعار، مات في بغداد سنة 632هجرية. وأبو النجيب عم المؤلف الذي أشرنا إليه آنفا صوفي أيضا. أورد شهاب الدين الذي ذكرهكثيرا في كتابه فهو يبدأ كل أبواب هذا الكتاب أو جلها بهذه العبارة: (حدثنا شيخنا شيخ الإسلام) يعني عمه.
وقد كتب عنه ياقوت في معجمه مقالا بديعا اعتبره فيه أذكى أبناء سهرورد. سافر في شبابه إلى بغداد حيث درس الشريعة والفقه. ثم إلى أصفهان. وكان يعمل كسقاء ولم يكن يعيش إلا من عرق جبينه. وبعد أسفاره هذه عاد إلى بغداد حيث كان يلقى تلاميذه الذين درسوا عليه الشريعة وحيث تولى رياسة النظامية. ثم قصد بعد هذا إلى دمشق سنة 558 هـ حيث أولاه نور الدين الزنجانى شرفاً كبيراً. وهناك أسس طائفة من الصوفية، ويعقّب ياقوت على كلامه عن أبي النجيب بقوله: أن ابن أخيه مؤلف عوارف المعارف كان من أبرز شخصيات عصره لما له من مواهب، ولما كان عليه من صلاح وتقوى، أجلّه الخليفة الناصر وخلع عليه لقب شيخ مشايخ بغداد. ولهذا الخليفة ألّف شهاب الدين السهروردى كتابه عوارف المعارف. ويقول عنه ابن خلّكان في وفيات الأعيان انه كان فقيهاً شافعي المذهب تخرج عليه خلق كثير من الصوفية في المجاهدة والخلوة وصحب عمه أبا النجيب والشيخ أبا محمد عبد القادر بن أبي صالح الجيلي. . . . ولد بسهرورد في أواخر رجب سنة 539 هـ وتوفي في المحرم سنة 683 هـ.
هذه ترجمة موجزة لحياة مؤلف عوارف المعارف. أما الكتاب نفسه فقد بلغ من الخصوبة والطول بحيث أنه وضع في أكثر من ستين باباً. ولابد لنا من وقفات عند أهم هذه الأبواب التي بسط فيها المؤلف منشأ علوم الصوفية، وآدابهم وأخلاقهم وإشاراتهم وأحوالهم ومقاماتهم. فكل أولئك مسائل خليقة بالبحث، جديرة بالدرس. وهذا ما أرجو أن أعرض له منذ الفصل التالي بحيث أكوِّن لديك صورة صادقة لهذا الكتاب تمكنك من أن تتعرف مكانته وتقدر قيمته وتتبين ما له من خطر وما فيه من غناء.
محمد مصطفي حلمي. ماجستير في الآداب