مجلة الرسالة/العدد 159/شعراء الموسم في الميزان
→ دانتي الليجيري والكوميدية الإلهية وأبو العلاء | مجلة الرسالة - العدد 159 شعراء الموسم في الميزان [[مؤلف:|]] |
الكمال ← |
بتاريخ: 20 - 07 - 1936 |
نقد وتحليل
للأديب عباس حسان خضر
- 2 -
صرعى الأغراض
تناول شعراء الموسم مختلف الأغراض، فلم يكن منها في صميم ما يحس به جمهور الشعب إحساساً عميقاً شاملاً غير هذه القصيدة، وقصيدة (وطني) للأستاذ محمد الههياوي، فلقد كانت هذه الصيحة التي أعلنها الأستاذ أحمد الزين حبيسة في نفوس الكثيرين، حتى لقد كانت زفرات الصعداء تقترن بتنفس الإعجاب، ولقد تناول الأستاذ جزئيات الموضوع في استقصاء وبيان لا يتأتيان لكاتب مطلق القلم من قيدي الوزن والقافية. استمع إليه يفند دعاوي العدل والمساواة والحضارة، في حجج بالغة:
لا يدعي العدل قوم في عدالتهم ... صرعى الكفايات تشكو ظلم أهليها
ولا المساواة، والأفهام لو وزنت ... مع الغباوة فيهم لا تساويها
ولا الحضارة من تجزي نوابغهم ... وحشية تسكن البيداء والتيها
والأستاذ الزين يأتي المعاني من أبوابها، ويتناول مفاتيحها تناولاً حسناً، ثم يجلوها في ألفاظ عذبة مونقة؛ يؤلف بين الشقائق، ويجمع بين الأشباه والنظائر، فلا تجد كلمة في غير موضعها، وإن ما يضطر إليه الشعراء من التقديم والتخير وغيرهما لا تجد له أثراً في شعره، وهذه قصيدة (صرعى الأغراض) التي نحن بصددها، اقرأ مطلعها:
هات المدام ولا تسمع لشانيها ... إن الزمان يصافي من يصافيها
هل تستطيع أن تلفظ كلمة وتقف؟ لا، لا بد أن يجري البيت كله على لسانك حتى لتشعر كأنه ليس مؤلفاً من كلمات ينفصل بعضها عن بعض
وفي الأبيات التالية تصوير يدل على المهارة الشعرية:
ملء المناصب منهومون قد جعلوا ... من دونها سد ذي القرنين يحميها
على مناعة ذاك السد تنفذه ... عصابة تتواصى في حواشيه من كل أخرق تنسل الحظوظ به ... إلى المراتب يسمو في مراقيها
خابي القوى عبقري الجهل يثقله ... عبء الرياسة إذ يدعوه داعيها
فتراه قد استوعب في هذه القوالب الشعرية أكثر المعاني التي تتركب منها هذه الموصوفات، وهذه غاية التصوير الشعري؛ وفي (عبقري الجهل) ظرف كثير، وقد أخذت هذه الكلمة سبيل الكلمات السائرة
والقصيدة زاخرة بالمعاني، منها ما هو عام يجول في نفس الشاعر وفي نفوس غيره، بيد أنه تفرد في ترجمة المعنى وصوغه في صور طريفة، ومنها معان مبتكرة مضى إليها خياله سابقاً، فمن النوع الأول قوله:
أرخصتمو غالي الأخلاق في بلد ... لم تغل قيمته إلا بغاليها
يا رب نفس أضاء الطهر صفحتها ... أفسدتموها فزلت في مهاويها
وكم قلوب كساها الحسن نضرته ... دنستموها فعاد الحسن تشويها
أغلقتمو سبل الأرزاق لم تدعوا ... لفاضل الخلق سعياً في نواحيها
مدارس تغرس الأخلاق في نشأ ... ومغلق الرزق بعد الغرس يذويها
لا تلح طالب رزق في نقائصه ... إن الضرورات من أقوى دواعيها
ما أطهر الخلق المصري لو طهرت ... تلك الرياسات من أهواء موحيها
ومن أبكار المعاني قوله في الخمريات التي ابتدأ بها:
بكرا تدور على الندمان لابسة ... عقداً من الحبب الدري يزهيها
سرى شذاها فحيا النفس أنفسا ضعفت ... من الهيام بها عن أن تحييها
فهذا (الزين) أول من يلبس الكأس عقداً؛ والبيت الثاني اشتمل على معان لا يسلكها في بيت واحد إلا شاعر فحل، فالكأس ذات شذى يحي الأنفس، والأنفس تتأثر بالشذى حتى يستهلكها، فما تعود قادرة على تحية الكأس الوافدة عليها يقدمها شذاها محيياً. وإليك هذين التشبيهين في مواهب النوابغ:
جادوا بأعمارهم حتى لجاحدهم ... إن المواهب سلم في أعاديها
كالشمس تقيس منها عين عابدها ... وترسل النور في أجفان شانيها
والنفس إن ملئت بالود فاض على ... نفوس أعدائها بالود صافيها كالسحب إذ ملئت بالغيث فاض على ... جدب البلاد خلوف من هواميها
بعد أن تقرأ التشبيه الأول وتقضي حقه من الإعجاب قف هنيهة عند التشبيه الثاني، وانظر قوة معانيها وكثرة اوجه الشبه فيه، فالنفس المشبعة بالود كالسحب المشبعة بالغيث، والنفوس التي تجحدها كالأرض الجدب، ومع هذا فالنفوس الخيرة تعلو علو السحب وتفيض على جاحديها بالود كما تفيض السحب على الجدب بالغيث
والزين أول من يطالب بدم قتلى المواهب في قوله:
يا آخذين بقتل النفس قاتلها ... قتلى المواهب لم يسمع لشاكيها
كم للنبوغ دماء بينكم سفكت ... باسم المآرب لا اسم الله مجريها
هلا اقتصصتم لها من ظلم سافكها ... وقل فيما جناه قتل جانيها
أولى الورى بقصاص منه ذو غرض ... يخشى المواهب تخفيه فيخفيها
ويصور القاتل في هذه الصورة النفسية المبدعة يخفي المواهب بقتلها حتى لا تغطي عليه وتخمله
وهذه القصيدة من الشعر الذي يقال فيه: ألفاظه قوالب معانيه؛ فالمعنى يسابق اللفظ حتى يكاد يسبقه، واعتقد أن نجاحها - إذ كانت قصيدة الموسم غير منازعة - يرجع أكثره إلى شدة إحساس الشاعر بمعانيها، وصدورها عن شعوره العميق في ثوب من البيان السليم من التكلف والتعقيد
ويظهر أن حسن القصيدة شغلني عما عساه أن يكون فيها من المآخذ؛ وان كان الإنصاف قد اقتضاني أن أبدي - ما استطعت - بعض حسناتها، فإن الإنصاف نفسه يقتضيني أن أنظر إلى الكفة الثانية. .
يقول:
كم للنبوغ دماء بينكم سفكت ... باسم المآرب لا اسم الله مجريها
يقال - مثلاً -: إن هذا الإثم ارتكب باسم المصلحة العامة، أي أن المصلحة العامة اتخذت اسما فحسب لتبرير الفعل، وتكون الحقيقة أن هناك باعثاً على الفعل غير الذي اتخذ اسماً؛ فالتعبير الذي في البيت وهو أن الدماء سفكت باسم المآرب يفهم أن المآرب اتخذت اسماً فقط، مع أنه يريد أن المآرب هي الباعث الحقيقي على سفك دماء النبوغ ويقول مندداً بإقامة الدور لحفظ الآثار:
ورافعين من البنيان شاهقه ... فيه الذخائر قد صفت لرائيها
فبينما هو يغض من شأن الآثار ويقول عنها في الأبيات التي قبل هذا البيت: خرق وخزفات. . إذ به يسميها ذخائر! ولو صح عنده أنها ذخائر ونفائس لما كان هناك موضع للسخرية من الاهتمام بها؛ على أنني لا أدري لماذا يحمل الأستاذ الزين على الآثار هذه الحملة العنيفة، هل العناية بها تمنع من تقدير ذوي المواهب؟
قد يقال: إن الشاعر لا يُنقد في رأيه؛ ولو خالف به ما أجمع عليه الناس، مادام قد اخرج ما ذهب إليه مخرج لطف وإبداع. هذا صحيح ولكن هذه القصيدة تعد من الشعر الكتابي الذي يمحص فيه الرأي، لذلك ولأن القصيدة ذات أثر في نفوس الجمهور احب أن أناقش الشاعر في رأيه هذا، فماذا لو أنه جمع بين العناية بالبحث عن الآثار القديمة وبين تقدير ذوي المواهب؟ على أن الأستاذ الزين نفسه يعمل في البحث عن الآثار القديمة، ويدأب في دار الكتب على كشف كنوزها، وينشئ لها من تحقيقه وتصحيحه ما يجدد باليها ويحفظ، وهو الآن يعمل في كتاب نهاية الأرب، وهو أثر من الآثار العربية القديمة
أفيجب أن يكف الأستاذ عن عمله هذا حتى يلتفت الناس إلى تقدير المواهب والعناية بالنوابغ؟ أم هو رأي شاعر كالزهرة ينبغي مسها برفق لأن العنف بها يودي بنضرتها. . .
في قريتي
يتحدث الأستاذ أحمد الكاشف في هذه القصيدة عن حاله في قريته وما يتصل بها في غيرها حديثاً تنفحك منه ريح الفطرة المحببة، وتجد فيه روح الشعر الجاهلي المرسل على طبيعته لا يُعرِّج على عمق ولا يرهق حساً؛ فالشاعر يسترسل في بيان ما يشعر به استرسال شعوره بما يترجم عنه، وقد جاءت القصيدة مطبقة لكل ما يحيط بشاعر معمِّر مثل الكاشف قد طبع على الشعر، ومر به من الحوادث ما يستفيد منه شاعر متيقظ الذهن، يقيم في قرية يطل منها على الحياة العامة في سائر البلاد؛ فهو يَطلعُ علينا بقوله:
جمعت في العيد حولي سائر الآل ... وملتقى الآل حولي كل آمالي
ويمضي في مثل هذه لديباجة العربية وهذا الأسلوب الجزل يعرض شأنه مع آله، ويتمثل الأجيال المقبلة من النشء الذين يرعاهم ويعدهم للغد، في قوله: كأنني - وهم في الدار - مطلع ... منهم على أمم شتى وأجيال
أعدهم لغد والمقبلين غدا ... في هذه الأرض أجنادي وأبطالي
ويصف حياته في الريف واعتزاله فيه، ثم يشكو من إهماله شكاية لا يلبث بعدها أن يعود إلى ذكر قناعته بما يزاوله في الريف قائلا:
إن لم يكن لي ديوان وحاشية ... يوما فحسبي محارثي وأنوالي
وهو صاحب الشعر السياسي، فلا بد أن يفخر بما أبداه في شعره من الآراء النافعة في الحياة السياسية عاتباً على القوم إهمالهم له، فيقول:
الست ممن دعا الأحزاب فائتلفت ... إلى الذي فيه كانوا أمس عذالي
أرى المودة بالقنطار بينهمُ ... ولم أفز بينهم منها بمثقال
ثم يتكلم في المحادثات الجارية الآن بين الجانبين: المصري والبريطاني كلاما جامعاً، على قصره، ويصيب به الغرض فيقول:
ولم أزل بينهم للخصم متقيا ... دخائلاً هي في ذهني وفي بالي
أخشى على رسلهم نياته وهمُ ... منه أمام جلاميد وأدغال
وما تزال كما كانت سياسته ... يدور فيها بألوان وأشكال
وموضع الند أرجو عنده لهم ... لا موضع الصيد من أنياب رئبال
إلى أن يقول:
وكم يكون لهم من ضيقهم فرج ... كما تدافع أهوال بأهوال
ثم يعطف على إخوانه الشعراء فيتألم لعدم نيلهم ما يستحقون، ويخاطبهم بقوله:
وتملكون من الدنيا سرائرها ... ولا تحلون منها الموضع العالي
وما يتاح لكم في الأرض متسع ... كما يتاح لعراف ودجال
ثم يدفع ما يقال من انقضاء الشعر بعد شوقي وحافظ بان مصر ملأى بأشباهه من الشعراء، وهو، باعتزازه، يرى في أن هذا الكفاية، إلى أن يقول في ذلك:
إن لم ير الحي بعد الميْت منزلة ... منهم فلا خير في المحزون والسالي
والقصيدة - كما ترى - ليس لها وحدة، ولا تدور حول فكرة، وإنما موضعها شاعر يقول فيما يحس به من الحياة القروية ويعبر عما يخالجه نحو بعض الشؤون العامة؛ وهي ممتعة مقنعة للنفس بما تتطلبه من الشعر، وأن كان للناقد فيها مواقف للمؤاخذة
الشاعر قليل العناية بالملائمة بين المعاني التي تناولها، ففي القصيدة كثير من الأبيات التي يقول عن مثلها نقاد الأدب من القدماء: (أبناء علة) أي أنها متنافرة تنافر الاخوة غير الأشقاء مثل هذين البيتين:
لو كان للنبت إحساس رأفت به ... وبت للنبت أيضاً غير أكال
كأنما قريتي مادمت ساكنها ... ولاية وكأني العمدة الوالي
وبينما تجده يمدح عشرة من يعاشرهم وما يلقاه فيها من عاطفة، إذ بك تراه ينعى على قومه انهم لا يساعدونه في حمل أعبائه كما قام بأعبائهم، وهوانه ليدهم إلى أن يقول في هذا:
ولو بليت بجبارين ما بلغوا ... مدى الأحبة من قهري وإذلالي
فيبدو في ذلك كأنه متناقض؛ والواقع انه يريد من الأولين الذين يبدي ارتياحه إلى عشرتهم - أبناء قريته؛ أما الشكوى فممن عداهم من أبناء البلاد، ولكنه لم يبين، بل مزج الكلام وراح يتحدث عن الفريقين كأنهم فريق واحد!
قرأت هذا البيت:
أعدهم لغد والمقبلين غدا ... في هذه الأرض أجنادي وأبطالي
فوقفت عند (أجنادي وأبطالي) ما شأنهم؟ أيخبر بهم عن (المقبلين) إذن يجب أن تكون (المقبلون) ولكن في الهامش أن الواو للعطف، فيبقي (أجنادي وأبطالي) لا شأن لهم بما قبلهم ولا بما بعدهم
وهو يفسر هذا البيت:
ما أحسن الشمل أرعاه وأشهده ... لأمهات وآباء وأطفال
بما بعده:
فلا أرى فرقة في الدهر قاطعة ... لمطمئن وخفاق وجوال
ولا يصاب هديل في أليفته ... ولا الغضنفر في غيل وأشبال
وعلماء الأدب يعدون من عيوب المعاني ألا يستكمل التفسير أفراد المفسر؛ فهو قد بين شمل الآباء والأطفال بقوله: (ولا الغضنفر في غيل وأشبال) ولم يأت بذكر الأمهات، وزاد الأليفة ويقول انه يعيش بالبقل والفاكهة، ولا يأكل اللحم رأفة بالحيوان إلى أن يقول:
وقد أقاتل للحي المسالم من ... طير ومن حيوان كل قتال
لو كان للنبت إحساس رأفت به ... وبت للنبت أيضاً غير أكال
فكيف يرأف بالحيوان ثم يقاتل حيواناً آخر، لو قال: (أدافع) بدل (أقاتل) لكان مقبولا. أما قتال الحيوان فلا تقتضيه الرأفة به. ويقول انه لو كان للنبت إحساس لم يأكله أيضاً! انه إذن لن يجد شيئاً يعيش منه، وماذا يفعل لو علم أن العلم الحديث أثبت أن للنبت إحساساً؟
وقال:
ولم أجد من وضيع الذكر خامله ... ما ساءني من رفيع الذكر مختال
قابل بين وضيع الذكر ورفيعه، وهذه مقابلة صحيحة. أما المختال فلا يقابل خامل الذكر، إنما يقابل الخامل النابه
(يتبع)
عباس حسان خضر