الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 158/هنري روبير

مجلة الرسالة/العدد 158/هنري روبير

بتاريخ: 13 - 07 - 1936


عضو الأكاديمية الفرنسية ونقيب المحامين

للأستاذ عبد الحليم الجندي المحامي

إلى المحاماة، في شخص المحامي الأول، والنقيب الأول،

إبراهيم الهلباوي بك

في 13 مايو الماضي مات هنري روبير نقيب المحامين في باريس وعضو الأكاديمية، ووقف لتأبينه النقيب (دي مورو جيافري) فقال: (إن المحاماة قد فقدت اليوم أكبر رجل رفع من شأنها منذ عهد برييه). وهي عبارة تعطيك أبلغ فكرة عن مكانة هنري روبير في التاريخ؛ فلعل (برييه) أكبر رجال المحاماة في التاريخ الفرنسي؛ هو الذي حمل لواء الدفاع عن (لامنيه)، وعن (شاتو بريان) ضد لويس فيليب عندما هتف قائلاً للدوقة (دي برِّي): سيدتي، إن ابنك هو الملك. وكان لويس فيليب يومئذ هو الملك! ثم ترافع عن البرنس لويس نابليون عندما طلب إعدامه فأنقذه دفاع (برييه) ليصير بعد سنين جلالة الإمبراطور، وهو الذي كان يدافع عن المتهم في إحدى جنايات القتل فأخذ محامي المدعي المدني (النقيب كرسون) يحذر القضاة من عبقرية الدفاع الذي سيسمعونه من فخر التاريخ القضائي في فرنسا. فإذا جاء هنري روبير بعد هذا الرجل الخالد دون أن يقف أمامه ش دستايج أو ليون ديفال أو جول فافر أو روس أو (ألو) أو محامي مدام لافارج الذي كان يقول عن نفسه: (أنا الدفاع) صديق الإمبراطور الشخصي أعني (لاشو)؛ ثم باربو؛ ثم لابوري، لابوري الهائل، الذي نفذ رصاص الحمقى إلى جسده ولم ينفذ الرعب إلى قلبه، فطلب تأجيل قضية إميل زولا حتى يبرح المستشفى ليترافع ضد الجيش وحزب الجيش ومنهم مطلق الرصاص؛ لابوري الذي قال عنه هنري روبير وهو يلقي الكلام في تأبينه: (قوة من قوى الطبيعة ومارد في موقف الدفاع)؛ ثم دي بوي أستاذ بوانكاريه؛ والرئيس أو النقيب بوانكاريه نفسه، محامي جونكور وجائزة جونكور ووصية جونكور؛ والرئيس فيفياني أو البلاغة كما كان يسميه بنو العصر؛ وشنى (أفضلنا) كما كان يقول هنري روبير؛ ووالدك روسو؛ والنقيب (بويو) حفيد النقيبين أو قل وزيري الحقانية بويو وباروش. . كل أولئك لا يراهم جيافري قد أعلوا من شأن المحاماة مثلما أعلى من شأنها هنري روبير. . .

وفي الحق أن هنري روبير قد بلغ ذلك الأوج لظروف خاصة؛ فهو قد ظل ربع قرن كامل محامي فرنسا الأول، حتى ليكاد المرء يخاله قد وصف نفسه عندما وصف فيكتور هوجو بأنه استوى على عرش الأدب نصف قرن كأنه نصف إله؛ وفرنسا أمة محامين تحكمها حكومة محامين. وكان هنري روبير (نقيب الحرب) كما كانوا يقولون إذ ظل نقيباً لمدة أربع سنوات دون أن يعاد الانتخاب؛ فالمحامون كانوا جميعاً في الخنادق، ولم يكن لذلك بد من تأجيل الانتخابات؛ وبذلك اقترن اسمه بالنظام القضائي طيلة أيام المحنة. وكان يلقي في تأبين المحامين الذين تفقدهم فرنسا كلمات خالدة تخلب الألباب. وكان يمثل المحاماة في كل معترك، ويحمل رداءها في كل حفل. وهكذا حمل اسمها ولواءها عند الكافة. فلما خمد لهيب جهنم لم تخب تلك الشهوة اللامعة فارتفعت بصاحبها من مستوى الذين يموتون إلى مستوى الذين لا يموتون في سنة 1923 خلفاً لريبو. وكانت آخر كلمة له في المجمع تأبين الفقيد الجليل جاك بانفيل؛ حتى إذا تفرغ للتأليف من سنة 1928 أخذ يقرؤه عالم الأدباء بعد أن كان يقرأ عنه، وبعد أن كان محامياً عن الأفراد أصبح محامياً عن المحاماة؛ وبعد أن كان اسمه يذكر بمناسبات أصبح اسمه يدوي في المسامع باستمرار

وظل هنري روبير طول أيامه عزوفاً عن السياسة معتزاً بالمحاماة، فلم يغب باسمه ولا بجسمه عن قصر بوربون

إلى تلك الملابسات التي أحاطت بالرجل كان الرجل نفسه كنزاً زاخراً حافلاً بالكفايات، والكفايات في أمة كفرنسا وفي وسط كالمحاماة يندر أن تضيع

هذه الشخصية الخالدة يجب أن ندرسها في مصر، ولو في عجالة وبإيجاز. ولعلي بهذا البحث أشق الطريق للأدب المرجو الذي أنادي به من عشر سنين: أدب المحاماة

ولد هنري روبير في 4 سبتمبر سنة 1863، وفي 29 أكتوبر سنة 1885 حلف اليمين لينتظم في سلك المحامين. وفي يوليو سنة 1887 انتخب سكرتيراً لمؤتمر المحامين وانتخب معه اثنان آخران يكفي أن تعرف اسميهما لتدرك مقدار ما يتضامن الماضي مع المستقبل، فأولهما الأستاذ واتين الذي يتولى اليوم توزيع العدالة وشرع الأحكام في كرسيه في رياسة دائرة محكمة النقض؛ وأما ثانيهما فانه فرنان لابوري: وما أدراك ما لابوري؟ لسان الدفاع عن فايان الذي ألقى القنبلة الأولى على مجلس النواب، ذلك الدفاع الذي لا نستطيع بعد قراءته إلا أن نتساءل مع هنري روبير: (كيف لم يبرئوا المتهم؟) ولسان الدفاع عن أميل زولا؛ الدفاع الذي أفقده أمواله وعملاءه وأكسبه الفخار والشرف: والذي نقل إلى الأجيال أروع كلمة قالها محام في الذب عن حياض المحاماة؛ فعندما هوت من فم النائب العام - وهو جالس على كرسيه بجوار المحكمة في أعلى القاعة - كلمة جارحة بالنسبة للابوري صرخ صرخته الداوية في وجه النائب: (إن الشتائم التي تساقطها من كرسيك الرفيع لن تستطيع - مهما كان كرسيك عالياً - أن ترقى إلى المنصة التي يترافع منها الدفاع)

ولم يكد هنري روبير يستمرئ حلاوة ظفره في الانتخاب حتى اختاره النقيب درييه سكرتيراً له وولاه أعمال مكتبه في أول أكتوبر سنة 1887

وقضى السكرتير الجديد بمكتب النقيب سنتين حتى قبض الله إليه النقيب فلم تبرح ذاكرته ذكراه حتى قضى هو الآخر فتراه يهدي إليه بعد أربعين عاماً كتابه (المحامي)، فتراه يختصه بأروع الصفحات في بعض مؤلفاته؛ فلقد كان درييه أباً يخلص الحب، ولم يكن أستاذاً فحسب؛ كان يفتح صدره لسكرتيره، وكان يفتح أمامه أيضاً أبواب داره. وفي نوفمبر سنة 1888 رحل النقيب والسكرتير للمرافعة في قضية القتل التي قارفها تلميذ بول بورجيه وصديقه كاميج والتي أوحت لعميد الأكاديمية المتوفى (بورجيه) أروع مؤلفاته وهو كتاب (التلميذ)، فلقد قتل كامييج عشيقته الفاضلة مدام جريل بعد أن تعاهدا على الانتحار فأصابها ثم أخطاء نفسه؛ فترافع درييه ومن ورائه هنري روبير ففتح لنفسه طريق الخلود

وفي ذات ليلة انتقلت هيأة الدفاع كاملة! على ضوء الشموع لا إلى المحكمة ولكن إلى المقهى، ولا لتطلع على المستندات ولكن لتطلع على رقص (أولاد نايل)، فهمس درييه في أذن سكرتيره (يا صديقي ماذا يقول مجلس النقابة إذا رآنا هنا؟) فأجابه زعيم الارتجال (هو بلا شك يحسدك يا سيدي النقيب!)

وأخذ هنري روبير يمشي قدماً في عالم المحاماة، وكانت الحياة رخية في أعقاب حرب السبعين إلى فاتحة القرن الحالي، فلم يكن يخشى على الكفايات الممتازة من منافسة الجشع والخسة والأساليب الدنسة التي تخلقها ظروف الحياة العصيبة، فتهيأت للمحامي الناشئ قضايا هائلة ظهر فيها هائلاً أيضاً، فترافع عن جبريل بومبار في سنة 1890 ليستل رأسها من تحت المشنقة، وعن واشيه المتهم بقتل أبيه ليظفر لدولمن معه ببراءة خالصة وفي سنة 1898 ترافع عن الطبيب لايورت مرافعته الخالدة. وفي سنة 1902 ترافع عن مدام همبير ضد الصيرفي قطاوي واختتمها بتلك الكلمة التي اختتم بها الأستاذ سابا حبشي مرافعته القيمة في قضية نزاهة الحكم (. . . وستثبتون ببراءة مدام همبير أنكم تصدرون أحكاماً ولا تؤدون خدمات) وفي سنة 1904 ترافع عن المهندس بيير في مقتل كاديو، وفي سنة 1908 في مقتل ريمي الخ الخ. . وفي سنة 1925 ترافع عن بوربووش وفي سنة 1929 ترافع عن الجنرال ميشيل فنال له ما عجز عن نيله أستاذ الجيل (لاشو) في محاكمة المارشال بازان عن موقفه في حرب السبعين، ثم عن الحسناء البولونية فالنتين أو متسكا، ثم عن القسيس هيجي، ويومئذ اختتم مرافعته أمام محكمة جنايات السين بما ختم به عمله القضائي الخالد أمام تلك المحكمة قائلاً: (. . أيها الأب. . صح معي وبأعلى صوتك: فلتحي فرنسا.)

فما هي إذن تلك الكفايات التي رفعت صاحبنا وصاحبها إلى تلك الذروة؟ الجواب عندي يتلخص في كلمة واحدة هي: أنه كان يفهم قضاياه كما كان يفهم عقلية القضاة؛ وهذا هو الذي جعله بحق أحدث القدماء وأقدم المحدثين. وبعبارة واضحة هذا هو الذي جعله مترافعاً عظيماً في أواخر قرن البخار، مترافعاً عظيماً في أوائل قرن اللاسلكي؛ بل بعبارة أوضح هذا هو الذي جعله يكيف المرافعات (التقليدية) التي كانت آية البيان في أعقاب الحرب الأولى، أعني حرب السبعين بما يستسيغه القضاة بعد الحرب الثانية في سنة 1920: هؤلاء القضاة الذين يضعون الساعة أمام عيونهم فان لم يضعوها أمامهم تصوروها كائنة في رؤوسهم. . . تدق باستمرار. . . .!

نحن الآن في المحكمة، وهذا هو النائب العام يترافع؛ وذلك محام هادئ يكاد ينام؛ لكنه نهض الآن، رفيع القامة، رفيع المقام، يتكلم في سرعة غريبة كأنه يخشى أن يُدفع ضده بفوات الميعاد! إنه يتكلم كأنه يتحدث؛ وها قد مضت خمس دقائق دون أن يظهر لك أنه محام كبير، لكنه قد أوغل في صميم الموضوع فوراً، وحميت الوقدة واندلع لهيب النار، فهو يضرب يميناً ويضرب شمالاً وبقسوة وبصوت محترم، والحجج تنساق متدافعة معجلة إلى أسماع المحلفين فيعجبون لتقديم هذا المتهم البريء! وفي عشرين دقيقة أو ثلاثين!! يبدو لهم أن النائب المترافع كان يسيء استعمال وقتهم عدو ساعات في مرافعاته ضد رجل طاهر كالطهر، مظلوم كالمسيح

تلك كانت صورة هنري روبير وهو يترافع كما حكى لنا سامعوه ومؤرخوه وكما يظهر لنا من كتاباته

حدثنا هنري روبير عن رجل من أرباب القضايا دخل القاعة فوجد محامياً يترافع، فتساءل من الأستاذ؟ فقيل له إنه الأستاذ (آنتل) قال: كيف هذا؟ إنه يتحدث في بساطة مجردة! لا يمكن أن يكون هذا هو الأستاذ آنتل البعيد الصيت!

فإذا رجعت إلى كتاب الأستاذ الجداوي المسمى (مرافعات) وجدت أن الأستاذ الجداوي هو ذلك الرجل الذي دخل القاعة، وأن المحامي الذي تساءل عنه وتلقى الجواب بدهشة وبإعجاب لم يكن الأستاذ آنتل بالطبع ولكنه كان الأستاذ هنري روبير.!

وفي مقال بعث به إلى فقرأه الأحياء في 21 مايو الماضي بعد أن كان هو قد سقط من سجل الأحياء!. . في ذلك المقال المعنون: (فتحت الجلسة) محض هنري روبير المحامين النصح أن يقرءوا مرافعات (والدك روسو) ليتعلموا فن (البساطة والسهولة والدقة). وفي كتاب (المحامي) يهيب بالمحامي أن يتذكر أنه يقف أمام القضاء (ليقنع لا ليلمع) وأن القرن السادس عشر قد حمل إلينا وديعة من أجيال الفصاحة القضائية الأولى هي أن تترافع (باختصار وبلباقة وبإخلاص)؛ وعلى ذلك تجد مؤلفاته كمرافعاته؛ فهو يبدأ مرافعاته لينتهي منها بسرعة وحرارة، وأنت تبدأ قراءة كتبه فلا تستطيع أن تدع الكتاب حتى تصل إلى خاتمته؛ وهذا كتاب قضايا التاريخ الكبرى يعرض للناس أفظع ما اجترح الضمير الإنساني من أوزار وحيل وخبائث، وهذه مرافعته الفنية عن الدكتور لابورت، كل تلك الأعمال يبسطها روبير فتروعك بسهولة عبارتها وسحر دلالتها حتى لكأنها دروس تلقى على التلاميذ. .!

ذلك لأنه كان يفهم قضاياه فيعرضها من حيث يجب أن تعرض؛ وما دام يفهمها فهو - بأسلوبه - فمين أن يُفهمها؛ ومن المسلم به أن الذي لا يفهم لا يستطيع أن يفهم، وأن تبسيط الأشياء أصعب من تعقيدها، وأن الغموض في العبارة هو غالباً أثر الغموض في التفكير ويمتاز هنري روبير من رجال الدفاع في العالم طرا بالسرعة المتناهية في الإلقاء، وله من جراء هذه السرعة حادثة ذكرها لنا في مقال (كانديد)، إذ كان يترافع عن قاتل عشيقته فقال وهو يطير في أجواء الكلام (. . . فعقد العزم على أن يقتل نفسه ثم يقتلها فوراً. .) ولم ينتبه أحد سواه إلى ما في هذا الكلام من استحالة لأن الجمهور والمحلفين كانوا يجرون معه إلى الغاية كالزورق الذي يحمله التيار

ولذلك الإسراع تجده ينتزع المتهم من براثن النائب العام بعد 17 دقيقة فقط كما شهدت المحامية أوديت سيمون أو (بعد عشرين دقيقة لا أكثر ولا أقل) كما تعهد هو للمحلفين وهو يستهل الدفاع في قضية بوبوروش عندما قتل الرجل الذي أخبره أن امرأته تخونه. ومن الغريب أن يقولها للمحلفين بعد أن قال ساخراً (. . ساعتان كاملتان، واتهامان متضافران، من المدعي المدني ومن النائب العام!) ثم يختتم دفاعه وهو يناجيهم (. . . إنني أرجو أن تبرئوا بوبوروش حتى إذا عدتم إلى مساكنكم في المساء ألقيتم على زوجاتكم وبناتكم نظرات كلها اطمئنان). وفي 28 يونيو سنة 1913 كتب الأستاذ (فرنان بايان) - قبل أن يصبح نقيباً، ومؤرخاً لبوانكاريه - كتب في الفيجارو دراسة لهنري روبير نشرها في كتابه وعلل هذه السرعة بأن الرجل يخشى أن يضيع أثر كلامه في المحلفين، فهو ينتهي منهم بسرعة ليتركهم تحت أثقال حججه وبراهينه. وعندي أن العلة في ذلك كانت صفاء عقل هنري روبير وقدرته على الارتجال، ذلك الارتجال الذي قال هو عنه كما سيجيء بعد: إنه نتيجة ترديد الكلام قبل المرافعة، حتى كان يسمي نفسه (آلة كلام)، فهو كان يبدأ لينتهي؛ أفكار واضحة وعبارات حاضرة؛ كان يفتتح المعركة لينتهي منها بأسرع ما يستطيع؛ والنصر الحاسم هو غالباً النصر السريع. ثم - وهذه مسألة أساسية - كان هنري روبير عدوا للتصويرات البيانية ولحشد الأمثال والسوابق، فهو كان مقيداً دائماً بموضوعه، لا يرسم الصور، ولا يلقي الحكم، ولا يتفيهق بالألفاظ، ولا يتطلب الشهرة، لأنها قد دانت من زمان؛ فهو إذن يلقي الحجج واحدة بعد أخرى كالفيلق في آثار الفيلق، وكالانتصار في أعقاب الانتصار؛ وهو إذن كان يستغني عن أربعين دليلاً بأدلة أربعة لها قوة الأربعمائة ووضوح الدليل الفرد

كان هنري روبير يرتجل كما قلنا، لكنه يشرح ارتجاله حيث يقول (إنني لا أفكر في الكلام حين ألقيه) ثم يقول (أنا لا أحضر مرافعاتي بالكتابة؛ وإنما أترافع بيني وبين نفسي على انفراد وبلا صوت عال؛ لا أتكلم، وإنما تجري العبارات في مخيلتي وأنا أمشي أو وأنا في عربتي، وفي المساء تتوارد لدي خواطر ذات بال (وهذه العبارة تشرح للقارئ حالة خاصة كان يشهدها سامعوه عندما يفتتح الجلسة في قضية خطيرة، إذ كانت تبدو عليه علامات الانفعال. وقديماً كان (تورين العظيم) لا يدخل المعركة إلا وهو يرتعد، فكان ينادي جسمه (ارتعد. . تزايل. . إنك لا تدري إلى أين أقذف بك. . .) وكان تورين أعظم القواد في تاريخ فرنسا عند نابليون

أما خطة هنري روبير في مرافعاته فقد تعلمها على الرجل الذي كسب ستين معركة؛ وهي أن الهجوم خير وسيلة للدفاع. فإذا شرع في مرافعته اتجه في شتى الجهات يبحث عن متهم غير موكله ليلقي عليه أفدح أثقال الاتهام؛ فإذا لم يكن هناك مجرم آخر فلا شك أن هناك أباً لم يعلم ولده فهوى به - هو - إلى أحضان الجريمة؛ أو أن هناك تحريضاً أو استفزازاً وإلا فاستسلاماً صدر من المجني عليه؛ أو أن الهيئة الاجتماعية قد قصرت أو أساءت إلى غير ذلك من أساليب الدفاع، وإذا شئت فمن أساليب الاتهام. والذين سمعوا وهيب دوس يترافع في قضية نزاهة الحكم أو في مقتل السردار أو في قضية الأطباء - بخاصة - يدركون مقدار ما يتساوى الرجلان في تلك الخطة التي شرعها نابليون للناس، أو نقلها عن هانيبال للأجيال اللاحقة، عندما كان يعلم بقيام حلف ضده في وسط القارة أو في شرقها أو في غربها فلا ينتظر في قصر التويلري بل تجده مرتين تحت أسوار فينا ومرة أخرى في قصر فردريك العظيم ليأخذ ساعته الدقاقة إلى سنت هيلين من بعد باريس!. . . ومرة ثالثة تجده في موسكو. . . أمام الحريق، بل أمام اللانهاية، بل أمام باب الفشل. . . . .

(البقية في العدد القادم)

عبد الحليم الجندي