الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 158/قصة المكروب كيف كشفه رجاله

مجلة الرسالة/العدد 158/قصة المكروب كيف كشفه رجاله

مجلة الرسالة - العدد 158
قصة المكروب كيف كشفه رجاله
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 13 - 07 - 1936


ترجمة الدكتور احمد زكي

الحصانة واليهودي الأفَّاق

- 5 -

ونزل متشنيكوف في معهد بستور، على سكون هذا المعهد ووقاره، نزول الصخرة فهزّه هزّا. ونصب فيه مِهرجاناً بهلوانياً عظيما ظل منصوباً عشرين عاماً، ووقف على باب هذا المهرجان يزعق ويصفق ويصفر ويزمر يدعو الناس إلى إحيائه بالدخول زُمراً إلى رِحابه وأرجائه، فكان كالدلاّل قام على باب مسجد لا يغشاه إلا نُسّاك زهّاد لم يذوقوا للهو طعما ولم يستسيغوا دُعابة أبدا

جاء باريس فوجد اسمه شائعاً، وأمره معروفاً مشهوراً. فنظرية الحصانة التي ابتدعها - ولعل وصفها بالدرامة الهيّاجة أوفق وأنسب - هذه النظرية التي تخبّرنا بأننا حصينون من الأدواء لأن حرباَ طاحنة لا تفتأ قائمة بين الكرات البيضاء التي في دمائنا وبين المكروبات الغازية - هذه النظرية بل هذه الأحدوثة كان شاع أمرها لدى بُحاث أوروبا فقاموا لها وقعدوا. وعارضه فيها أكثر بُحّاث ألمانيا والنمسا فلم يؤمنوا بها، بل لعلهم أُغروا بالإيمان بها لبساطتها ولجمالها، فقام هذا الإغراء يدفعهم إلى نقيضه لما أحسوا ضعف أنفسهم فيه فأنكروها إنكارا شديدا قاسياً. ونالوا من متشنيكوف باللسان في المؤتمرات، وبالتجربة في المعامل. مثال ذلك رجل ألماني شيخ نذر على نفسه لله ألا يمر عليه حول حتى يكتب مقالاً في مجلة علمية خطيرة يدحض بها تلك النظرية وينال فيها من الفجوسات ومن صاحبها. وجاء على متشنيكوف حين من الزمن لم تقو رجلاه على حمله من تلك اللطمات، وكان يُغشى عليه فيسقط إلى الأرض صريعاً. وعزّه النوم وطالت لياليه فكاد يفزع إلى عقاره المخدر القديم - إلى المرفين، حتى لقد عاوده خاطر انتحاره المعهود. أوّاه! كيف لا يستطيع هؤلاء الألمان الخبثاء الأنجاس أن يروا الحق في الذي يقوله عن هذه الفَجوسات! ثم اشتفى من كمده، فكأن وتراً انقدّ في مخه، فنهض كالليث يحمي عرينه ويدفع عن نظريته بعزيمة لا تخشى شيئاً، فجال وصال، وطلب الخصام والنزال، وكانت معركةٌ أضاحيك كثيرة وعلمٌ قليل، ولكنها برغم ذلك تضمنت نِقاشاً عليه انبنى ذلك النزر اليسير الذي نعلمه اليوم من سبب حصانتنا من المكروبات

صاح أميل بارنج من وراء الحدود الألمانية: (لقد أوضحتُ إيضاحاً لا ريبة فيه أن مصل الفئران هو الذي يقتل جراثيم الجمرة - أن دم الحيوانات لا كراته البيضاء هي التي تحميهم غائلة المكروب وتحصنهم منه). فصاح كل خصوم متشنيكوف وكل أعدائه الألداء يؤمنّون في نَفَس واحد على الذي قال بارنج. وخرجت المقالات العلمية تتبارى إلى النشر بمقدار يملأ دور كتب جامعية ثلاث كُتبت جميعها في فضائل الدم وأنه الشيء الوحيد الخطير في منع الأدواء

وزأر متشنيكوف من وراء الحدود الفرنسية: (إن الفجوسات، إن كرات الدم البيضاء هي التي تأكل الجراثيم العادِيَة فتدفع سوءها عنا)، ونشر تجارب بديعة أجراها فأثبتت بها أن بشلات الجمرة تستطيع النماء بوفرة في دم الشياه التي حصنتها ألقحة بستور

وصمد الفريقان للكفاح زماناً طويلاً، وتمسك كل بموقفه الكاذب رغم ما فيه من غلّو، وغمرهما غبار الحرب الكثيف وأعمتهما غضبته عشرين عاماً، فلم يخطر على بال أيهما أن يستمهل قليلاً، وأن يخلو إلى نفسه للتفكير يسيرأ، فلعل كلاً منهما رأى وجهاً واحداً من أوجه الحقيقة وهي عديدة، ولعل الذي يحمينا من غائلة المكروب ليس هو الدم وحده، وليست هي كراته البيضاء وحدها، بل هما جميعاً. لقد كانت حرباً رائعة ومزرية في آن، حرباً من تلك الحروب التي يقول فيها الخصم لخصيمه: (أنت كذاب) فيرد عليه صاحبه الجواب بمثله: (لا، بل أنت الكذاب)، وفي أثناء هذه التهم عمِىَ متشنيكوف وخصماؤه فلم يفطنوا إلى أن سبب الحصانة قد يُرد بعضه إلى الذي قال متشنيكوف، ويرد بعضه إلى الذي قال به خصماؤه. ما كان أجدر الاثنين أن يضعا الحرب حيناً فيعصرا العرق عن جبهتيهما، ويمسحا الدم من أنفيهما، ويفكرا في هدوء ساعة ليدركا كثرة ما يجهلان، وقلة علمهما مما فيه يختصمان، وليدركا أن الدم وفجوساته أشياء معقدة خدّاعة ليست في البساطة التي يزعمان، إذن لأبطآ في السير واستمهلا في الاستنتاج وأيقنا أن من الغباوة في ظلمة هذه الجهالة أن يتعجلا تفسيرات مبتسرة لحصانتنا من الوباء

ليت متشنيكوف لم يخرج عن أودسا، بل ليته اعتكف فيها يلفّه خمول ذكره ويحميه، ثم تدرّع بالصبر وتابع أبحاثه الجميلة في تعليل لِمَ تأكل الخلايا الأفاقة في براغيث الماء تلك الخمائر التي دخلت إليها. إذن لأتى على كل أمرٍ جلل خطير. ولكن من ذا الذي يتحكم في أقدام البحاث وهي لا تسير دائما في الطرق السلطانية التي رصفها المنطق وعبّدها العقل السليم

في أيام بستور العظيمة، أيام كافح داء الحمرة وانتصر على داء الكلب، كان يعمل في خفاء شديد كأنه بعض القطارين الذين يقطرون السموم خُفية في أقباء احتجبت تحت الأرض عن أعين الناس، ولم يأذن لأحد أن يطلع على ما هو فيه إلا عونيه رو وشمبرلاند ورجلاً أو اثنين آخرين، وفي ذلك المعمل الرطب المعتم بشارع أُلم كان لا يلقى المتطفلين المتشوفين إلى علم ما يجري بمعمله إلا بالنهر والتجبيه، وطرد عن بابه حتى كل جميلة من الأوانس فاتنة. هذا بستور! أما متشنيكوف فله في ذلك حديث غير هذا الحديث

اختلف متشنيكوف في هذا كل الاختلاف عن بستور. كانت له لحية لها أثرها البالغ في رائيها، وجبين عريض يعلو عينين تنظران بحولٍ ظاهر وذكاء بين من وراء نظاراته، وشعر طال في قفاه حتى غطاه على حال تنبئك بأنه غارق في أفكاره فلا يكاد يصحو فيحس الحاجة إلى حلقه. وكان واسع العلم فلا تكاد تفوته فائتة. وكان يستطيع أن يفاكه ويسلي - وهذا محقق عنه ثابت - بألوف من طرائف علم الحياة وممتع خفاياه، فهو يحدثك بأنه رأى الخلايا الأفاقة الدوارة في جسم فرخ الضفدع تذهب إلى ذيله فتأكل منه حتى تأتي عليه فيصير الفرخ ضفدعا وهو يحدثك بأنه أشعل ناراً في دائرة حول عقرب ليثبت أن هذه الخلائق التعسة لا تقتل نفسها انتحاراً كما يقول الناس بلدغ نفسها حين لا تجد مخلصاً من النار، وهو يحدثك بهذه الفظائع بطريقة تجعلك ترى الخلايا الأفاقة تروح وتجيء تبتلع ذيل الضفدع بلا أسف ولا تبكيت، أو تسمع حسيس العقرب وقد عز عليها الخلاص وحلق بها الفناء

وكانت تسنح له أفكار رائقة في إجراء تجارب فيقوم عليها محاولاً إنفاذها بعزم قوي وتركز شديد، ولكنه كان يزيح العلم وينحّى التجريب إذا سنحت له السانحة بمدح متسرت وأُبَراته، أو خطر له الخاطر من بتهوفن فهزّه إلى صفير شيء من سنفوناته. وإنك لحَاسبه أحياناً يعلم عن جوته ودراماته، ويعلم عن عشقه ومعشوقاته، فوق الذي يعلمه عن فجوساته، وهي التي بنى شهرته عليها. وكان لا يتكبر على من هم دونه، وكان كثير التصديق لكل ما يقال له حتى لاْمتحن الأدوية لبعض الدجالين المتطببين بأن أعطاها لخنازيره الغينية وهي في سبيل الموت زعماً أنها تشفيها. وكان رجلا طيبا ذا قلب عطوف رحيم، فكان إذا مرض له صديق غمره بكل هدية مستطابة وكل نصيحة مختارة، وبلل وسادته بالدمع يجري مدراراً فأسموه من أجل ذلك (بالخالة متشنيكوف) وكانت آراؤه في غرائز البدن وحاجات الحياة تختلف اختلافاً رائعاً عن أي باحث سمعت به غيره. (والحق أن العبقرية الفنية، أو لعلها كل العبقريات من كل نوع كان، تتصل اتصالاً وثيقاً بالنشاط الجنسي. . . ومن أجل هذا تجد الخطيب أبرع وأخطب في حضرة امرأة يبذل لها من وده وقلبه)

وكثيراً ما أكد لنا هو نفسه أنه أقدر ما يكون في التجربة على الإحسان، إذان كان على مقربة منه أوانس حسان

(يتبع)

أحمد زكي