مجلة الرسالة/العدد 157/الجانب الصوفي في الفلسفة الإسلامية
→ قصة الأيدي المتوضِئة. . . | مجلة الرسالة - العدد 157 الجانب الصوفي في الفلسفة الإسلامية [[مؤلف:|]] |
تطور العقلية الإسبانية في تقدير تراث الأندلس ← |
بتاريخ: 06 - 07 - 1936 |
للدكتور إبراهيم بيومي مدكور
نجتمع الليلة - أيها السادة - لنناجي القلب ونحادث الروح. ومناجاة القلب طهرة لمن شاء أن يتطهر، وصفاء لمن أراد التبرؤ من الرجس والدنس. ومحادثة الروح عروج إلى سماء النور والملائكة، وصعود إلى عالم الفيض والإلهام. نجتمع الليلة لنهجر الأجسام زمناً ونفرغ إلى نفوسنا حيناً. والجسم والنفس كانا ولا يزالان في صراع دائم ومعركة مستمرة، يقدر فيها لأحدهما الفوز تارة وللآخر أخرى. وقد يبدو غريباً أن نتحدث عن فيض وإلهام وروح ونفس في عصرنا الحاضر الذي طغت فيه المادة على كل شيء، فأصبحنا لا نؤمن إلا بكل مشاهد، ولا نسلم إلا بكل مرئي. بيد أنا حتى في هذا العصر المادي نشعر بحاجة ماسة إلى كشف ما غاب عن أبصارنا وانطوت عليه نفوسنا، ونركن كثيراً إلى ما تمليه ضمائرنا. وما دام فينا قلب يخفق وعاطفة تتأجج، فإنا لا نستطيع إنكار لغة القلوب والأرواح؛ وإذا تتبعنا المذاهب الفلسفية على اختلافها وجدنا أنه لم يخل واحد منها من نزعة صوفية. وها هو ذا أرسطو الذي كان واقعياً في بحثه وطريقته، ورجل مشاهدة وتجربة في ملاحظاته واستنباطاته، قد انتهى به الأمر إلى أن بنى دراسته النفسية على شيء من الفيض والإلهام، ووضع في قمة الأخلاق فضائله العقلية التي هي أسمى درجة من درجات التأمل والمشاهدة الصوفية
حقاً إن الإدراكات الروحية والإلهامات القلبية قد تكون غير يقينية، أو قد يعز على الأقل إثباتها ببراهين قطعية يتقبلها الآخرون؛ إلا أنها مبعث طمأنينة وهدوء وسكون؛ ذلك لأنها معرفة شخصية مباشرة؛ والكلام إذا خرج من القلب وصل إلى القلب. وكم يجهد الإنسان نفسه في صوغ الأقيسة وإقامة البراهين لإثبات أمر ما دون أن ينعم بالهدوء والسكون اللذين يحس بهما حين يناجيه قلبه وتخاطبه روحه. وقديماً مر الغزالي بمراحل من البحث والنظر، واشتغل بدراسات كثيرة، ولكن لم تطب نفسه إلا للمعرفة الصوفية تفيض عليه فيضاً ويلهمها إلهاماً. وحديثاً شك ديكارت في كل شيء، اللهم إلا في نفسه وتفكيره. ولما انتهى إلى هذه الحقيقة الثابتة كانت أساس اليقين في رأيه ونقطة البدء لكل فلسفته. وهناك فلسفات قامت بأسرها على المناجاة الروحية والاتصال بالله؛ فأفلوطين في مدر الإسكندرية يرى أن الجذب والفيض هما السعادة التي ليست وراءها سعادة؛ وقد جد شخصياً في تحقيقهما طول حياته، ولم يحظ بهما إلا بضع مرات. ومالبرنش في القرن السابع عشر يقول باتصال مستمر بين العبد وربه. فمعرفتنا ليست إلا فيضاً من الله، وما يبدو منا من عمل خارجي ليس إلا ظروفا ومناسبات لتحقيق إرادة الله، وبهذا يتلاشى المخلوق في الخالق، ويندمج الأثر في المؤثر.
لسنا نحاول هنا التحدث عن التصوف في جملته، ولا التعرض لمختلف مظاهره وأدواره منذ نشأته، وإنما نريد فقط أن نفصل القول في نزعة صوفية سادت الفلسفة الإسلامية؛ فنتبين كيف تكونت وشبت ونشأت، ونشرح الأصول التي صدرت عنها، والعوامل التي أثرت فيها، ونحدد مدلولها ومرماها. وإذا ما تم لنا هذا استطعنا أن نوضح آثارها ونتائجها. فحديث القلب والروح الذي نحن بصدده مقصور على ما جاء به الفلاسفة المسلمون، ووقف على الجانب الصوفي في الفلسفة الإسلامية. وما كان أجدرنا في بحث كهذا أن نستعمل لغة خاصة وأسلوباً خاصاً، بل وأن نلجأ إلى مكان خاص، فان لغة العقل تعجز أحياناً عن التعبير في دقة عما يكنه القلب، وأسلوبنا المشوب بشوائب مادية قد لا يجد السبيل إلى وصف الإلهامات النفسية، والأرواح التي تسبح في عالم النور تعز مناجاتها في حيز المادة والجسم المحدود. وعلّ الصوفية مصيبون في التزيي بزي خاص، كي يتفق ظاهرهم مع باطنهم، وفي اتخاذ لغة معينة تفصلهم عمن سواهم؛ غير أن هذه اللغة زادت آراءهم تعقيداً، وكست نظرياتهم بثوب كثيف من الغموض والإبهام. وسنجتهد في أن نجلي غامضها، وأن نقربها ما استطعنا من العرف المألوف.
عني الباحثون من قديم بدراسة التصوف الإسلامي في جملته مدفوعين غالباً بما في الموضع من طرافة، ومحاولين أن يكشفوا ما احتواه الإسلام والشرق من حقائق وأسرار. ويغلب على الظن أن الأبحاث الصوفية أول موضوع استلفت أنظار المستشرقين؛ ولا تزال هذه الأبحاث محل عنايتهم حتى اليوم؛ ومؤلفاتهم فيها تزيد كثيراً على ما كتبوه في الدراسات الإسلامية الأخرى. ولا غرابة فالغرب متعطش دائماً إلى تعرف صوفية الشرق. وكأن هذا الأخير وهو مصدر النور والضوء أبى إلا أن يكون في الوقت نفسه مقر القوى الخفية والأسرار الغامضة. ودون أن نعرض لكل من اشتغلوا بموضوع التصوف من كبار المستشرقين نكتفي بأن نشير إلى رجال القرن العشرين، ونخص بالذكر منهم جولد زيهير النمسوي الذي عقد للتصوف فصلاً ممتعاً في كتابه (عقيدة الإسلام وقانونه) بجانب أبحاث أخرى قيمة؛ والأستاذ مكدونلد الأمريكي الذي وضح كثيراً من آراء الغزالي الصوفية، والأستاذ نكلسون المدرس بجامعة كمبردج، والأستاذ ماسنيون المدرس بكليج دي فرنس، والدكتور محمد إقبال العالم الهندي المشهور؛ وعلى رأس هؤلاء جميعاً أن نضع نكلسون وماسنيون، فانه يرجع إلى الأول الفضل في نشر كثير من مخلفات الصوفية القيمة والتعريف عنها؛ أما أستاذنا ماسنيون فقد رسم في التصوف طرائق جديدة، وقدم لنا الحلاج صورة غنية بالألوان والمعاني الدقيقة في كتاب يعد أوسع مؤلف في تاريخ التصوف الإسلامي.
غير أن آراء فلاسفة الإسلام الصوفية لم تدرس بعد ولم توجه إليها العناية التي تستحقها. حقاً إن مهرن المستشرق الدنمركي، تنبه إلى بعض مؤلفات ابن سينا الصوفية، وقام بنشرها وترجمتها. كما أن البارون كارادي فو لمح لدى الفارابي نزعة صوفية واضحة. إلا أن هذه الأبحاث ناقصة وغير ناضجة. وعلى هذا لا زلنا نجهل أفكار فلاسفة الإسلام الصوفية كما نجهل نظرياتهم الفلسفية بالمعنى الدقيق. وكل ما نرجوه أن نكشف الغطاء عن هذه الناحية وأن نوجه الأنظار إليها.
إذا شئنا أن نعرف أقدم صورة للأفكار الصوفية عند فلاسفة الإسلام، وجب علينا أن نصعد إلى أبي نصر الفارابي. فانه أول من صاغ الفلسفة الإسلامية في ثوبها الكامل ووضع أصولها ومبادئها. نحن لا ننكر أن الكندي تنبه قبله إلى دراسة أفلاطون وأرسطو وعرض لبعض نظرياتهما بالشرح والاختصار؛ ولكنا لا نجد لديه مذهباً فلسفياً كاملاً بكل معاني الكلمة، بل هي نظرات متفرقة ومتعلقة بمواضيع مختلفة لا رابطة بينها. أما الفارابي فقد لم هذا الشعث وأقام دعائم مذهب فلسفي متصل الحلقات. ومن أهم أجزاء هذا المذهب وعلى قمة هذا البناء نرى نظرية صوفية امتازت بها الفلسفة الإسلامية من كثير من الفلسفات الأخرى. فالتصوف إذن قطعة من مذهب الفارابي الفلسفي لا ظاهرة عرضية كما يزعم كارادي فو. ولا أدل على هذا من أن هناك رباطاً وثيقاً يربطه بالنظريات الفارابية الأخرى نفسية كانت أو أخلاقية أو سياسية. وقد أثر هذا التصوف تأثيراً عميقاً فيمن جاء بعد من فلاسفة الإسلام.
لعل أخص خصائص النظرية الصوفية التي قال بها الفارابي أنها قائمة على أساس عقلي. فليس تصوفه بالتصوف الروحي البحت الذي يقوم على محاربة الجسم والبعد عن اللذائذ لتطهر النفس وترقى مدارج الكمال، بل هو تصوف نظري يعتمد على الدراسة والتأمل. وطهارة النفس في رأيه لا تقصد عن طريق الجسم والأعمال البدنية فحسب، بل عن طريق العقل والأعمال الفكرية أولاً وبالذات. هناك فضائل عملية جسيمة ولكنها لا تذكر في شيء بجانب الفضائل العقلية النظرية، ولئن كانت الأعمال الحسنة والخلال الحميدة بعض الخير، فالخير كل الخير في مسألة نتدارسها وحقيقة نكشفها ومعرفة تتهذب بها نفوسنا وتسمو عقولنا. وذلك أن العقل البشري سالكاً سبيل رقيه وتطوره يمر بمراحل متدرجة بعضها فوق بعض. فهو في أول أمره عقل بالقوة، فإذا ما أدرك قدراً كبيراً من المعلومات العامة والحقائق الكلية أصبح عقلاً بالفعل. وقد يتسع مدى نظره، ويحيط بأغلب الكليات فيرقى إلى أسمى درجة يصل إليها الإنسان وهي درجة العقل المستفاد أو درجة الفيض والإلهام. وعلّ في هذا ما يبين كيف اتصل التصوف عند الفارابي بعلم النفس، ونظرية المعرفة.
ولن يقف الأمر عند هذا الحد، بل التصوف الفارابي متين الصلة بالنظريات الفلكية والميتافيزيقية، فان الفارابي يتخيل نظاما فلكياً أساسه أن في كل سماء قوة روحية أو عقلاً مفارقاً يشرف على حركتها ومختلف شؤونها، وآخر هذه القوى وهو العقل العاشر موكل بالسماء الدنيا والعالم الأرضي، فهو نقطة اتصال بين العالمين العلوي والسفلي، وكلما اتسعت معلومات المرء اقترب من العالم العلوي ودنت روحه من مستوى العقول المفارقة، فإذا وصل إلى درجة العقل المستفاد أصبح أهلاً لتقبل الأنوار الإلهية وأضحى على اتصال مباشر بالعقل العاشر. فبالعلم والعلم وحده يمكننا أن نربط السماوي بالأرضي والإلهي بالبشري والملائكي بالإنساني، وأن نصل إلى أعظم سعادة ممكنة. والمعرفة النظرية الميتافيزيقية هي أسمى غاية ينشدها العقل الإنساني. وإذا ما انتهينا إلى هذه المرتبة تحررت نفوسنا بتاتاً من كل ما هو مادي وجسمي والتحقت بالكائنات العقلية واطمأنت إلى حالها هذه راجية أن تبقى فيها إلى النهاية
هذه هي السعادة التي تنحو نحوها الفلسفة والأخلاق ويوصب إليها النظر والعمل ويسعى إليها الإنسان بدراسته وسلوكه، هي الخير المطلق وغاية الغايات ومنتهى الرفعة الإنسانية وجنة الواصلين، يقول الفارابي: (والسعادة هي أن تصير نفس الإنسان من الكمال في الوجود بحيث لا تحتاج في قوامها إلى مادة، وذلك أن تصير في جملة الأشياء البريئة عن الأجسام، وفي جملة الجواهر المفارقة للمواد، وأن تبقى على تلك الحال دائماً أبداً، إلا أن رتبتها تكون دون رتبة العقل الفعال، وإنما تبلغ ذلك بأفعال إرادية، بعضها أفعال فكرية وبعضها أفعال بدنية، وليست بأي أفعال اتفقت، بل بأفعال محدودة مقدرة تحصل عن هيئات ما وملكات ما مقدرة محدودة. وذلك أن من الأفعال الإرادية ما يعوق عن السعادة، والسعادة هي الخير المطلوب لذاته، وليست تطلب أصلاً ولا في وقت من الأوقات لينال بها شيء آخر؛ وليس وراءها شيء آخر أعظم منها يمكن أن يناله الإنسان. والأفعال الإرادية التي تنفع في بلوغ السعادة هي الأفعال الجميلة. والهيئات والملكات التي تصدر عنها هذه الأفعال هي الفضائل؛ وهذه ليست خيراً لذاتها، بل لما تجلب من سعادة. والأفعال التي تعوق عن السعادة هي الشرور والأفعال القبيحة. والهيئات والملكات التي تصدر عنها هذه الأفعال هي النقائص والرذائل والخسائس).
(يتبع)
إبراهيم بيومي مدكور
مدرس الفلسفة في كلية الآداب