مجلة الرسالة/العدد 156/الكتب
→ من هنا ومن هناك | مجلة الرسالة - العدد 156 الكتب [[مؤلف:|]] |
بتاريخ: 29 - 06 - 1936 |
البراجماتزم
الأستاذ يعقوب فام
أصدرته لجنة التأليف والترجمة والنشر
بقلم الأديب ت. الطويل
يقول الأستاذ الجليل أحمد أمين في المقدمة التي مهد بها لقصة الفلسفة اليونانية: (لا بد للأديب الحق من وقوف تام على علم النفس وعلم الاجتماع وعلم الجمال وبالجملة على فروع الفلسفة، فذلك يجعل نتاجه أقوم، وتفكيره أعمق، وأفقه أوسع، ومنابع تفكيره أغزر، ويحمله على أن يفلسف الأدب؛ ولا يتسنى ذلك إلا إذا أَدَّبنا له الفلسفة).
وقد أدب الأستاذ وزميله الفلسفة اليونانية فأحسنا تأديبها، والتزما في عرضها مسالك الأدب في الكشف عن خواطره في أسلوب يجمع بين السلاسة والرصانة. واستفرغا الوسع في العمل على رفعة القارئ إلى مستوى الكاتب. . . ثم أخرج الأستاذ يعقوب فام كتابه في (البراجماتزم) وسلك فيه مسلك العلماء في تبيان خواطرهم وعرض آرائهم. وتبسيط المعقد من أفكارهم. لم يقف حيث هو في ذروته ويمد يده إلى القراء ليرفعهم إليه ويعلو بهم إلى مستواه. بل هبط إليهم وتبسط معهم وأخذ يتألفهم ويترضاهم في إسراف - قد يدعو إلى الملل أحياناً - رغبة منه في اكتساب مرضاتهم عنه حتى يقبلوا اصطحابه إلى حيث يعيش. . فأنت تقرأ الكتاب فلا تحس وأنت ماض بين صفحاته إلا أن الأستاذ يعقوب مدرس يلقى على تلامذته الصغار درساً في الفلسفة، فهو مشفق عليهم من وعورة مسالكها وظلمة سراديبها ورحابة آفاقها، يعرضها عليهم فكرة بعد فكرة في تفصيل وإطناب، ولا يترك رأياً إلا دار حوله بعد الإسهاب في شرحه متوهماً أن بعض التلاميذ لا يزالون يعالجون الفهم فيستعصي عليهم، ولكنه يعود فيتذكر أنه يكتب كتاباً ستتناوله أيدي فئات من القراء تتفاوت في المدارك قوة وضعفاً، فيتعذر لقارئه عن الإطالة ويستأذنه في المضي إلى طريقه؛ ويعود سيرته الأولى موضحاً رأيه بأسلوب يمتاز بالسهولة والبساطة وإن لازمته الركاكة، ويسوق لتلامذته الأمثلة المستمدة من حياتهم اليومية، حتى إذا فرغ من شرحه عاد فلخص ما أسلف فيه القول، ولم يبقى عليه بعد هذا إلا أن يضع لهم طائفة من الأسئلة يتناول بها آفاق الموضوع شأنه في ذلك شأن المدرسين الذين يضعون لتلامذتهم مصنفات تتناول برامج الدراسة المقررة. .!
والأستاذ أحمد أمين أديب عالم، ولكنه قد سلك مسلك الأدباء في الكتاب الذي صنفه بالاشتراك مع زميله الأستاذ زكى نجيب مؤثراً هذه الطريقة مقتنعاً بها راضياً عنها. وكذلك قل في الأستاذ يعقوب وإيثاره للطريقة التي أسلفنا الإشارة إليها الآن؛ وأكبر الظن عندي أنه لا يستطيع غيرها إن لم يكن مقتنعاً بها.
وأنه غير نادم على عجزه عن (تأديب) الفلسفة. لأنه لا يحترم الأدب ولا يكبر أهله. فالأديب رجل مُخَرِّف لا تعنيه إلا زخرفة اللفظ وبهرجة الأسلوب اللغوي. .! فان كان القارئ قد تملكه العجب لهذا التعبير فليسمع نَصَّ ما يقوله الأستاذ يعقوب فام ص 72:
(هل العقل الإنساني مرآة فقط ليس لها من عمل سوى أن تعكس الحقائق الخارجية دون تصرف أو تدخل من ناحية؟ أم هو كالفنان الذي يتناول قطعة الحجر ويصنع منها تمثالاً جميلاً منظماً متناسباً؟ أم هو لا هذا ولا ذاك وإنما يشبه الأديب الذي يخلق الأشخاص والحوادث والبيئة المحيطة بهذين خلقاً من العدم؟ (العفو!) على الإجابة عن هذا السؤال يتوقف الشيء الكثير. فلو قلنا إن العقل كالمرآة كنا من أتباع فلسفة الواقعيين؛ وإن قلنا إن العقل كالأديب يخلق الكون خلقاً، وإن الأشياء لا وجود لها في ذاتها وإنما وجودها يتوقف على العقل وحده كنا من أتباع الفكريين يزعمون أن الحقيقة هي عقل أو فكر وأن المادة شيء وهمي لا وجود له. وأما إن قلنا إن العقل يكيف الحقائق الخارجية كما أن. . . . . الخ).
هذه هي نظرية الأستاذ إلى الأدب وأهله. ولست أعرف في الأدب مذهباً يتيح لصاحبه أن يخلق من العدم أشخاصه وحوادثه وبيئته - إن كان في وسعه أن يفعل ذلك - والغريب أن يفرق الأستاذ الكريم بين الأدب والفن هذه التفرقة العجيبة التي لم أسمع بها على هذا النحو من قبل اليوم. ثم كيف يخلق الإنسان من العدم بيئة تعج بالحوادث والأشخاص؟ أبا لخيال؟ إن عجبك ليشتد وينمو حتى يملأ شعاب نفسك حين ترى الأستاذ يقول ص 83 ما نصه:
(هذا الشعور الخفي بالحق (عند المتصوفة) يقابل الخيال عند الرجل العادي. فالخيال ينتج من التفاعل بين مجموعة الاختيارات التي جازها الفرد في حياته اليومية، ومن نشاطه بين أفراد نوعه، ومن الغرائز الموروثة. هذا التفاعل بين الاختبارات والدوافع الموروثة عند الفرد هو الذي ينتج الخيال. ومع أن النتيجة قد تكون واحدة إلا أن الفرق بين التصوف والخيال واضح، فالأخير مبنى على العقل والاختبار، والأول مبنى على القوة الخارقة للطبيعة التي تلقى بالمعارف إلى الإنسان إلقاء. الخيال إنما هو قفزة يقفزها الإنسان إلى الامام، والتصوف هو الاستسلام للاتصال الخفي بين الفرد وعالم الأرواح، أو الفرق بين الرجل العادي ذي الخيال الخصب، والرجل الصوفي هو هذا:
الأول منهما متصل بالحياة وبالاختبار وبنشاط الجسد من مشاهدة وحس بأنواعه. . .).
هذا هو الخيال عند الرجل العادي كما يفهمه الأستاذ يعقوب، أما الخيال عند الأديب كما قال، فهو توهم ما لا وجود له، وتصوير ما لم تره عين، وتسمع به أذن، ولم يدركه حس؛ هو نوع من الرجم بالغيب والحدس باللا معلوم! لا تقل إن الأديب في عرف الأستاذ رجل مجنون، فان المجنون لا يفعل في تصرفاته أكثر من أن يستعيد صوراً ذهنية عن مدركات حسية في شكل مبالغ فيه إلى حد يتجاوز حدود العقل ويتخطى نطاق العرف. فالمجنون أقرب إلى الحياة من الأديب في رأى الأستاذ. .! ولهذا ارتقى إلى ذهني الظن بأن الأستاذ غير نادم على أنه لم يكن أديباً. . كما أشرت إلى هذا قبلاً.
وأكبر الظن أن الأستاذ يعقوب قد اختلط عليه معنى الـ في الفلسفة ومعناها في الأدب. ففي الفلسفة يراد باللفظة (التصوريون) - وأنا أوثر هذه الترجمة على (الفكريين) التي يستعملها الأستاذ حتى لا يختلط معناها بالعقليين - وهم الذين يظنون أن الحقيقة فكر، وأن المادة لاوجود لها، كما أبان الأستاذ، ثم يراد بلفظة الـ في الأدب (المثاليين)، وهم الذين ينزعون إلى تصوير المثل العليا، والتحدث إلى الناس عما ينبغي أن يكون. فهي في الفلسفة مشتقة من أي فكرة أو صورة ذهنية. وهي في الأدب مشتقة من أي مثل أعلى. والأديب المثالي لا يخلق من العدم شيئاً، وإنما يدرس (الكائن) في هذه الدنيا فلا يعجبه ولا يروقه فَيَحِنّ إلى كمال يعوض هذا النقص، ويصور المثل الأعلى الذي يحقق ما ينبغي أن يكون. وهو في تصوره إنما يعتمد على المدركات الحسية في أرحب معانيها، وخياله لا يؤلف له الصور الحبيبة إلى النفس إلا بالاعتماد على ما يعرفه من مدركات الحس. فان كان للمذهب التصوري وجاهته في الفلسفة فهو بمعناه الفلسفي هراء في عرف الأدب وأهْله.
على أن هذا الكلام لا يراد به الطعن في الطريقة التي سلكها الأستاذ يعقوب. فأن تأليف كتاب يتناول هذه الآفاق الرحيبة في الفلسفة وعلاجها على هذا النحو البسيط السهل الميسور لكل قارئ لمقدرة ومهارة تستحقان كل ثناء وإعجاب. فان كنت في شك من هذا فقارن ما كتبه الأستاذ بما يكتبه أغلب الذين ينقلون إلى الجمهور نظريات علم النفس، تَرَ العجز البيّن عن تمصير ما يكتبون حتى في نقل الأمثلة التي قرءوها في المراجع الأجنبية. . . أما الأستاذ يعقوب فهو يحدثك عن أحدث مذاهب الفلسفة وأقدمها فَتُحِسّ وكأن أصحابها مصريون تحسن فهمهم وتجيد تقديرهم ولا تجد بينك وبينهم هوة في فكرة أو روح. .!
وقد انتهي الأستاذ إلى هذا التوفيق بعد جهد كان أبرز آياته الاتئاد عند كل فكرة والإطناب في شرحها حتى يطمئن على سهولة فهمها ويسر إدراكها. على أن هذا الاتئاد وإن لازمه في (شرح) الكاتب منذ بدايته حتى نهايته، فان بعض الفصول التي أضافها الأستاذ توضيحاً للمذاهب أو تمهيداً لذكرها أحكاماً يشوبها الضعف أو نقصاً في استيفاء الموضوع. أو هكذا يخيل إلىّ. . . فتراه يكتب فصلاً يدلِّل فيه على أن الناس خاصتهم وعامتهم يتفلسفون وإن أنكر بعضهم أنه يتفلسف. .! ذلك لأنهم يعيشون في الدنيا ويضربون في زحمتها متأثرين بآراء قد تولت الفلسفة البحث فيها وانتهت منها إلى نظريات ومذاهب قد يعرفها طغام الناس. وهذا رأى غريب، لأن الفلسفة ليست (عناوين) من عرفها كان من حقه أن يكون فيلسوفاً، وإنما هي (بحث) يتناول الآفاق المجهولة في رحاب الحياة، هي (بحث) مجهول للناس يتناول ما تجهله العلوم وأهلها - ونهجها في ذلك توضيحه هذه الجملة: أنى وقف التفكير العلمي بدأ التفكير الفلسفي - فالناس عامتهم وخاصتهم لا يتفلسفون وإنما تبلغهم آراء يوحي بها الدين أو يمليها العرف - بما يؤلفه من مختلف العناصر - فيعملون بها ويسيرون على نهجها من غير تفكير في أمرها؛ فان تناولوها بالجدل حيناً فسرعان ما ينحرفون عنه مقتنعين ولو بلا شئ. وليس هذا شأن المتفلسفة في آي زمان أو مكان. . . أو ترى الأستاذ يكتب فصلاً ممتعاً يتناول فيه وظيفة العلم وطريقته في البحث ويلخص لك ما ينتهي إليه ويثبته في أرقام مسلسلة ليتيسر للقارئ معرفة الفوارق بينه وبين الفلسفة، ولكنه ينسى أن يتحدث في هذا الفصل عن أولى الخواص التي لا يستطيع الإنسان في العصر الحديث أن يتصور العلم من دونها، وهي أن العلم يمتاز من سائر آفاق المعرفة الإنسانية في أنه (يبحث الشيء من حيث هو شئ) وليست تعنيه علاقة هذا الشيء بغيره من الناس. ولهذا كان العلماء آخر من يفكر في الإنسانية ويعطف عليها، لأن التفكير في صالحها يدخل في باب العاطفة، وبين العلم والعاطفة عداء مستحكم الحلقات. فمخترع الغازات السامة أو الغواصات أو الدبابات وما إليها عالم موفق قد تهيأت له أسباب النجاح في تطبيق نظريات العلم - وإن ساء فيه رأى المجتمع وجزع الناس لما أخترع - وإن قلت له إن عملك يشقي الناس أجابك على الفور:
أنا عالم، أبحث الشيء من حيث علاقته بذاته، ولا شأن لي بعد هذا بما تفضي إليه نتائج البحث وتطبيقها خيراً كان أو شرا).
على أن من العدل أن نقول إن قيمة الكتب لا يحددها اتفاق الرأي بين الكاتب والقارئ، وإن خلوها من المآخذ التي يتصورها الناقد لا يصلح أن يكون مقياساً للإعجاب بها والرضا عنها، لأن مدارك الناس في تفاوت، ثم إن خلوها من النقص محال.
وقد تثير هذه الكلمة في نفسك سؤالاً تطلب إلي فيه أن ألخص لك (البراجماتزم) ولكنى لن أجيبك إلى مطلبك إشفاقاً على نفسي من الاضطلاع بهذا العمل. وأمامك كتاب الأستاذ يعقوب فأقرأه تعلم أن لجنة التأليف والترجمة والنشر قد أنصفت في اختيار هذا الرجل للقيام بتأليف هذا الكتاب، فهو عالم يكثر الاطلاع، ويحسن الفهم، ويجيد العرض؛ ويحب أمريكا! ومن أقدر على الكلام في (البراجماتزم) من رجل تتوفر له هذه الصفات. .؟
ت. الطويل
ليسانسييه في الفلسفة