مجلة الرسالة/العدد 156/الحياة الأدبية في تونس
→ ضوء جديد على ناحية من الأدب العربي | مجلة الرسالة - العدد 156 الحياة الأدبية في تونس [[مؤلف:|]] |
من الأدب الإنكليزي ← |
بتاريخ: 29 - 06 - 1936 |
للأستاذ محمد الحليوي
(يجب أن يصف أدباء كل قطر من الأقطار الحياة الأدبية في
قطرهم، ومبلغ قوتها وضعفها. . . . . . لنتعاون جميعا على
علاجها ومداواتها. . . .)
علي الطنطاوي
(الرسالة 136)
الكلام عن الحياة الأدبية في تونس يشمل الكلام عنها من ناحيتين مختلفتين. فان كان المراد بالحياة الأدبية كثرة المشتغلين بالأدب، والمهتمين بالحديث عن رجاله، والمقبلين على مجالسه ونواديه، والمطالعين لكتبه ومجلاته، ففي تونس حياة أدبية لا بأس بها. والظاهرة البارزة في الأوساط المثقفة هي حب الأدب، والتطلع إلى كل ما يمت إليه بصلة. فالشاب التونسي يصرف هواه وجل نشاطه ومجهوده في الاشتغال بالأدب ولواحقه؛ ومجالس الشيوخ والكبراء يغلب عليها الحديث عن الأدب والأدباء، والميل إلى المطارحات الأدبية، والمساجلات الشعرية؛ وكل فكرة جديدة، أو خبر أدبي، أو كتاب ناجح تجد له صداه في كل الأوساط المتعلمة.
ولكننا إذا أردنا بالحياة الأدبية الإنتاج الأدبي والمجهود الفردي لخدمة الأدب بواسطة التأليف والنشر، فتونس ليس لها حياة أدبية تليق بمكانتها التاريخية ومركزها الجغرافي في أفريقية الشمالية. وإنه ليعي الباحث أن يدل دلالة واضحة ملموسة على القسط الذي ساهمت به تونس في تكوين هاتة النهضة الأدبية المعاصرة في الشرق العربي، وأن يبين أن للأدب التونسي ناحية خاصة تميزه، ومعالم معروفة لا يمكن أن ينكرها مُنكر، أو يتجاهلها متجاهل.
وها نحن أولاء نستعرض بعض مظاهر الحياة الأدبية في تونس، ونقول فيها كلمة الحق، وإن كان من الحقائق ما هو مؤلم.
الشعر هنالك في تونس شعراء كثيرون، ودواوين شعرية مطبوعة كديوان (خزنه دار)، وديوان سعيد أبو بكر، وديوان مصطفى آغه، ومجموعة للأدب التونسي المعاصر في أربعة أجزاء جمعها زين العابدين السنوسي صاحب مجلة (العالم الأدبي)، وترجم فيها لما يزيد على ثلاثين شاعراً، وأنتخب من شعرهم منتخبات مطولة. ولكن الشعر التونسي في مجموعه لم يبلغ من القوة والابتكار والاستقلال الفكري والمميزات الفردية، وظهور الشخصيات القوية، ما يجعله يقوى على تحمل المقارنة بالشعر العالي أو ينعت بالأدب الرفيع. ومن سوء حظ تونس أن الفرد الوحيد الذي استطاع أن يعلو بشعره إلى مكانة الشعر الراقي ويضاهي به أنبغ شعراء العرب والغرب قد مات في العام الماضي في ريعان الشباب؛ وبكته تونس في حفلة رائعة اشترك فيها كثير من أدباء الأقطار العربية.
والشعر التونسي المعاصر يسيطر عليه تقريباً الشعراء الشيوخ وهم الذين يخصون فنون الشعر القديمة بجل عنايتهم؛ وشعراء الشباب يغلب على شعرهم الميل إلى التجديد في المعاني والأغراض وحتى الأوزان والأساليب، ولكن الذي يعاب عليهم هو غلبة تفكير الجرائد ومواضيعها على أدبهم، وفقر شعرهم من المعاني القوية والصور الشعرية، واحتياجهم إلى الثقافة العامة القائمة على سعة الاطلاع والإحاطة بتاريخ الحركات الأدبية والفكرية في مختلف العصور؛ ويعاب عليهم أيضاً هذا النوع من الأدب الباكي الذليل، فلا يكاد أحدهم يشدو في نظم الشعر حتى تراه ينظم في البؤس وتوابعه، ويتشاءم من كل شيء في الحياة؛ فنحن نقبل هذا النوع من الكهول والشيوخ الذين دخلوا معركة الحياة وتمرسوا بآفاتها، ولكننا نرفضه من الشباب، لأن الشباب أمل وعزيمة وحب للكفاح والغلبة.
الحياة الكتابية
فنون الكتابة كثيرة، فأية كتابة عندنا وأي كتّاب؟ نقول في الجواب إنه يوجد عندنا الكاتب الاجتماعي والمؤرخ والصحفي. . . فقد نشر في تونس في هاته السنوات الأخيرة كتب بعضها في التاريخ ككتب الأستاذة حسن حسين عبد الوهاب، وعثمان الكعاك، وأحمد توفيق المدني؛ وبعضها في الأدب والاجتماع، ككتاب أبو القاسم الشابي عن الخيال الشعري، وكتاب الطاهر الحداد عن المرأة، وكتاب محمد المرزوقي عن مسائل من الفن والجمال.
وهناك خمس صحف أسبوعية، وجريدتان يوميتان، ومجلة أدبية لم يستطع صاحبها أن ينفخ فيها الحياة، فهي تحتضر منذ سنوات! وعدا ذلك فليس في تونس من يمثل تمثيلا مشرفاً أدب القصة والمسرح، وأدب الأطفال، والأدب القومي؛ وكذلك الناحية النقدية والعلمية في الأدب. وتاريخ تونس لما يكتبْ.
فصفة الكاتب عنيت بها ما يفهم من لفظها أجمالاً وإطلاقا، أما إذا عنينا بالكاتب رجلاً له نظريات خاصة، وأفكار فردية، يخصص حياته لنشرها والدفاع عنها حتى تنتصر، كلفه ذلك الدفاع ما كلفه، فهذا عزيز في الناحية الأدبية. فإذا قلنا مثلاً إن طه حسين كاتب، فليس معنى ذلك في مذهب العقل والتاريخ أنه يجيد رصف اُلجمل وتأليف الكتب، وإنما معناه أنه رجل يفرض فكرته على الناس فرضاً، ويكتب ما يراه حقاً وإن خالف ما رآه غيره، ولا يضيره أن يوجه قُراءه بغير ما ألفوا سماعه، ويصدمهم بآراء ليست هي آراءهم التي اقتنعوا بها؛ وبعبارة أشمل يرفعهم اليه، ويبعثهم على التفكير والتأمل واعدة النظر فيما ناموا عليه من المبادئ والحقائق؛ وما يزال بهم حتى يكوّن من أنصاره فكرته ومخالفيها مدرسة تنشر تعاليمها وتصادم تعاليم خصومها. فهذا هو الكاتب الذي يحي الأدب ويجدد الأدب، وبهذا وحده يكون الكاتب مثقف عقول، ومغذي عواطف، وقائد أفكار.
أما في تونس فالقارئ هو الذي يقود الكاتب. فعلى الصحفي أن يصلح ما يحب الرأي العام أن يصلح، ويجتنب ما يغضبه ويبهجه. وعلى الكاتب أن يكتب ما يريد قراؤه، وأن يتناول من المواضيع ما يسمحون له بتناوله؛ وحذارِ أن يكون له رأي خاص يخالف رأيهم - وإذا كتب في نقد الأدب القديم فالواجب أن تكون كتابته تقديساً لأصحاب ذلك الأدب، وكلمة الإلحاد وما اشتق منها ما تزال رائجة الاستعمال تُلصق بكل من يظهر نوعاً من الاستقلال الفكري في الأدب؛ وجمهور القراء لم يحسن إلى الآن التفريق بين ما هو أدبي وما هو دينى، فكلّ أديب يقول بالتجديد الأدبي فهو متهم في عقيدته. فكانت نتيجة هذه الحالة فقر أدبنا من الكتاب ومن كثير من فنون الكتابة.
معاهد الثقافة والمؤسسات
وأول مسؤول عن ركود الأدب في تونس هي معاهده الثقافية ومؤسساته الأدبية، فانتشار الأدب لا يكون إلا بكثرة القراء، وعلى قدر نصيبهم من المعرفة والفهم يكون إقبالهم على تتبع الحركة الأدبية وتقويتها بشراء كتبها ومجلاتها. ونحن نريد أن ينتشر الأدب وتقرأ كتبه ونشراته، لأننا في حاجة إلى تقويم العقلية التونسية وتثقيف ذهن سائر الطبقات، وتصحيح المقاييس التي نقيس بها كل شأن من شؤون الحياة؛ وليس شيء كالأدب يحي ميت الهمم ويبعث خامل العزائم ويشذب شاذ الغرائز؛ وكل مدينة قامت في التاريخ كانت منبعثة من نهضة أدبية أو مصاحبة لها.
فما هو نصيب معاهدنا في هذا العمل وماذا نرجو منها؟ أما المدارس الابتدائية فلا رجاء في أبنائها لأن المعلومات العربية التي يخرجون بها من هاته المدارس لا تؤهلهم لقراءة الكتب الجدية ومطالعة الصحف الراقية، وهم حين يغادرون المدرسة يرجعون إلى أشغال آبائهم في القرى والبوادي، وليس لهم من الثقافة إلا ذلك النزر القليل الذي يمكنهم بعض التمكن من قراءة رسالة أو كتاب عامي سخيف من تلك الكتب المملوءة بالخرافات ولأوهام.
أما المعاهد الثانوية والعالية فهناك جامع الزيتونة الأعظم والمدرسة الصادقية والمدرسة العليا للآداب واللغة العربية. فأما جامع الزيتونة فهو حصن العربية الأشم، وهو بمثابة الأزهر بمصر، وخريجوه هم صفوة العلماء والحكام والقضاة والعدول، وهم من الطبقة الوحيدة ذات الثقافة العربية المحصنة؛ وأما المدرسة الصادقية ومدرسة اللغة والآداب العربية، فأن الدراسة تقع في هما باللسانين، وربما غلبت فيهما الثقافة الفرنسية على العربية خصوصاً من ناحية الترجمة والعلوم الرياضية، ومن هاتين المدرستين تخرج جلُّ كبار موظفي الإدارة الفرنسية ومترجميها، وعن طريقهما سافرت البعثات العلمية التي تتكون اليوم منها نخبة طيبة من الأطباء والمحامين والمهندسين، ولكن أطباءنا ومحامينا قلما يكتبون أو يؤلفون بالعربية. وكم كنا نود لو إن دكاترتنا كانوا كدكاترة مصر الذين قامت على سواعد أكثرهم نهضة مصر الأدبية والعلمية.
أما المؤسسات الأدبية فهناك الجمعية الخلدونية، وهي اقدم المؤسسات التونسية، ثم جمعية قدماء تلامذة المدرسة الصادقية، وأخيراً جمعية الكتاب والمؤلفين - فأما الخلدونية وقدماء الصادقية فأغلب نشاطهما منصرفٌ إلى تنظيم المسامرات الأدبية والعلمية، وإقامة الحفلات لأحياء ذكرى نوابغ الأمة العربية في القديم والحديث؛ وأما جمعية المؤلفين والكتاب التونسيين فأنها افتتحت أعمالها بإقامة حفلة ذكرى الشاعر العبقري المرحوم أبى القاسم الشابي. ثم لم تفعل بعدها شيئاً إلى الآن خصوصاً وقد علقت عليها آمال ضخام في انتشال البلاد من هذا الركود الأدبي بتوحيد جهود أدبائه وتسهيل نشر كتبهم بواسطة القروض التي تسبقها والدعاية التي تقوم بها للمؤلفات.
أسباب ركود الأدب
إذن فأسباب ركود الأدب كثيرة، ولكن يمكن تلخيصها في سببين:
الأول: قلة القراء في الأواسط الشعبية نظراً للأُمية الغالبة على السواد. ثم جهل كثير من الشباب لغته القومية أو نزارة معارفه التي لا تسمح له بالاستفادة من الأدب والصحف الجدية.
الثاني: عدم وجود من يأخذ بيد الأديب إذا هو أراد أن ينتج وينشر، فطبقة القراء القليلة تزهد في كل عمل تونسي، ولا تُقبل على تأليف تونسي، كما تقبل على التأليف المصرية والشامية، والصحف اليومية لا تقوم بأي مجهود لاستكتاب الأدباء، وحمل القراء على المطلعة الأدبية، وإذا نشرت شيئاً من الأدب فالأغلب أن يكون من الأدب السهل الرخيص.
والخلاصة أن الأدب في تونس لا يعدو كونه هواية من الهوايات، ولا يوجد الأديب المحترف، وإن وُجد الصحافي. والمؤلف يقاسي الأمرين من فقدان الناشر والقارئ. وليس هناك من المشجعات للأديب ما يجعله دائب الإنتاج والعمل.
فلا مكافآت، ولا جوائز، ولا مجاملات لنشر آرائه، ولا حرية لمن أراد أن يفكر باستقلال؛ والأصوات التي ارتفعت في تونس وترقّب منها كلُ مخلص أن تكون في يوم من الأيام داويهً في العلم العربي خفتت وصمتت لتكاتف هاته العوامل عليها.
رجاء
على أنه لا يسعني أن أختم هاته الكلمة دون أن أنوه بما يبديه؟ الشباب التونسي في هاته المدة الأخيرة من النشاط والحيوية. فهنالك جمعيات للشبيبة لا زالت توالى الجهود في إقامة الحفلات المختلفة وإلقاء المسامرات في مختلف المواضيع، ونشر النشرات التي يرى القارئ من خلال سطورها هاته القلوب الفتية التي تتقد إيماناً بمستقبل الأمة التونسية، وحباً لأدبها ولغتها القومية. وإنه وإن كان نشاط هاته الجمعيات مقصوراً على العواصم وفي أواسط مخصوصة، فأنا لنرجو أن توفق إلى تعميم هاته الحياة في كامل البلاد بكل وسائل النشر والدعوة؛ فان الأمة التونسية لفي أشد الحاجة إلى حيوية شبابها وعزيمته الصادقة وإيمانه القوي باسترداد مجد تونس الزاهر وعصرها الذهبي.
(راداس - تونس)
محمد الحليوي