الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 154/من الأدب الإنكليزي

مجلة الرسالة/العدد 154/من الأدب الإنكليزي

بتاريخ: 15 - 06 - 1936


برسي شلي

-

بقلم خليل جمعه الطوال

لشلي فكرةٌ متوقدةٌ، وعاطفةٌ ذائبةٌ، بل قلب يجيش بالوجدان الحي، ونبع يتفجر بالشعور الصادق، فقد كان شاعراً من أفذاذ الشعراء مشبوب المخيلة، وكاتباً متضلعاً من الكتابة، نظم وكان لا يزال في غضارة الصبى، عديد القصائد التي ما زلنا نطالعها، فندرس فيها مثال الحياة الأعلى، وكمال النفس الأسمى، ونمق كثير المقالات التي ما زالت، ونحن نتصفحها، تحدث في مشاعرنا ضروباً شتى من التأثير والانفعال، فلا عجب إذا كتب لشعر الخلود والبقاء، وسجل لاسمه صفحة حافلةً بجليل الأثر في سجل الزمن وتاريخ الأدباء.

توفي شلي، وكان لا يزال من العمر في مقتبله، وقد أقبل الأدباء على أشعاره يتدارسونها، وهرع النقاد إلى عيوبه وسقطاته يستقصونها، فما كان لأولئك وإن أعياهم الدرس أن يبلغوا شأو غايته، ولا لهؤلاء وإن أعماهم التغرض أن يضعوا من مقدار عظمته. لقد اختلفت فيه المذاهب وتناحرت عليه الآراء، فمنهم من نسى أو تناسى وفاته الباكرة وحياته القصيرة، وراح يبحث في أشعاره عن آية القدر وأعجوبة الزمن، فلما لم يجدها تناوله بألسنة حداد ودحضه بشتى الأحكام الجائرة، بعد أن خضَّل جدثه بوابل من المثالب الجارفة، التي يترفع عنها الأدباء وتنبو عن سماعها آذان الحكماء، وبعد أن نال من سمعته وحط من مكانته ما شاءت له رغائبه وسولت له أهواءه.

وتمثل لهذا النفر من الرجال الذين أعماهم التغرضُ الممقوت (بوليم هزلت) ولوليم هذا مكانة في الأدب، مرموقة بالأنظار، محفوفة بالاحترام والوقار، وخليقة بعدم التحامل السفيه، وبالأعراض عن التشيع الكريه، ومنهم من أسدل على هفواته - وجل من لا يهفو - ستر الجهل وقناع التجاهل تشيعاً للرجل لا للحق، وراح ينشد آياته البينات، ويتغنى بأشعاره النيرات، كتوماس أرنولد، وكان من معاصريه ومناصريه. وهكذا فقد كانوا فيه جميعاً بين القائل من كرامته لم يسلم من الإسراف والتحذلق، أو مطنبٍ في مدحه لم يسلم من آفة الغلو والإغراق.

وكم نود لو أن لنا من صائب النظر في مهنة النقد ما نعمد به إلى مؤلفاته - وهي خير ما بقي لنا من آثاره التي تترجم عن آرائه، ونتبين بين غثها وسمينها مقدار عبقريته، وحقيقة نفسيته، بعد أن بقي طيلة هذه المدة مجهول الهوية مكتوم الطوية، ونرجع بذلك فيصل الحكم إلى نصابه، وحسام الحقيقة إلى قرابه.

أما وليس لنا من قدرة النقد ما أسلفنا، فلا أقل من أن نعرض لحياته الطافحة بالألغاز والمبهمات جهد المستطاع وغاية الميسور آملين فيما نقرره أن نبلغ جدة الصواب.

مولده وأخلاقه

ولد برسي شلي في الرابع من شهر أغسطس لعام 1792، وقضى طفولته في لندن تعصف به الهموم والأحزان، وتنتاشه مخالب البؤس والأشجان، وذلك لما كان يلقاه من فقر والده ونكد طالعه، وكان - على ما يصفه لنا السير توماس هوج في كتابه - سري الخُلق سوي الحلق ذا عينين نجلاوين، هزيل الجسم أزهره، ناتئ المفاصل كبيرها، جعدي شعر الرأس قصيره، وضاء البشرة، جميل الأنف، مليح الفم، أمرد باسر الوجه، تعلو غضون حاجبيه المقطبين من شدة ما تجرعه من كأس الحياة المريرة سحابةٌ من الحزن، ولذا كان يكره دور الملاهي وينفر من الحانات. ويروى أنه كان بالغاً من الطول حد التحدب، ومن الجمال درجة التأنت، حتى أن منظره ليملك القلب ويستهوي الخاطر. وكان دائماً يحدب على المستضعفين ويرفق بالفقراء والمساكين، ويصبر على كيد أعدائه الظالمين.

شلي والمعري

جاء شلي فكأنما كان مجيئه ريحاً هادئة أذكت سعير تلك النار التي قدح المعري بزناده شرارها، وتعهد بآرائه ضرامها، والتي لا تزال تحدث ثورة في الرأي واضطراباً في العقيدة. جاء شلي، وكان ذلك الصوت الذي أهاب به المعري في ربوع بغداد، وبطاح سورية، وأرز لبنان - البلاد التي اختلف إليها المعري في أسفاره - لما يتلاش، فرجع في بلاد الغرب دوى صداه، الذي امتد من جبال (بنسين) في إنكلترا، إلى جبال الألب في إيطاليا، والذي انفجر في (ورنهام) - محل مولد شلي - فسار منها إلى مدينة روما، ثم تلاشى بين أمواج خليج (بيزا) المصطخبة.

لقد كان كلاهما روحاً سابحة في عالم الخيال، ونفساً تضطرب بين أنواء الشك واليقين. بل كان كلاهما ثورة شعواء على العرف والعادات والتقاليد، ومن أشد الناس سخرية بالدين، وزراية بما اطمأن إليه الخلق من إثابة الصالحين.

لقد كان شلي ملحداً لا يؤمن بالوحدانية، ولا بالحساب، كما كان المعري يسخر من وعيد الآخرة والثواب؛ وهل لغير الشك أن يملي على المعري قوله

لو جاَء من أهل البلى مخبر ... سألت عن قوم وأرخت

هل فاز بالجنة عمالها؟؟ ... وهل ثوى في النار (نوبنخت)

أو قوله:

زعموا إنني سأرجع شرخاً ... كيف بي كيف بي وذاك التماسي

وأزور الجنان أحبر فيها ... بعد طول الهمود في الأرماس؟

أم هل كان شلي في كتابه الذي أرسله إلى (جون جسبورن) من بيزا عام 1822، والذي جاءت فيه هذه العبارات الآتية

, ;

أي: (إنه لمن الخرافة ومحض السفسطة، أن نعتقد بأن الإنسان الذي يقضي ستين عاماً من الحياة المريرة سيذهب (بعد موته) ليقضي ستين مليوناً من السنين وهو يشتوى حياً بنيران جهنم المؤلمة) هل هذا إلا صورة عن المعري في قوله:

أموتٌ ثم حشر ثم نشر ... حديث خرافة يا أمَ عمرو؟

أو عن قوله:

خذ المرآة واستعرض نجوماً ... تمر بمطعم الأرى المشور

تدل على الحمام بغير شك ... ولكن لا تدل على النشور

وهل لغير روح أبي العلاء في قوله:

تحطمنا الأيام حتى كأننا ... زجاج ولكن لا يعاد له سبك

وقوله:

لو كان جسمك متروكاً بهيئته ... - بعد التلاف - طمعنا في تلافيه

أن تملي على شلي قصيدة الخالدة التي ينكر في بعض أبياتها لا نشور الأجسام فحسب، بل بقاء الروح أيضاً. إذ يقول:

(إن روح الإنسان تتلاشى داخل قلبه وهو في القبر كما يخبو نور مصباح طمر في باطن الأرض ضمن زجاجته. أما جوهر الخلود الذي ينير بسماتنا بشعاع الأمل، فانه يتبدد ويتشعث في عالم الأزلية: واللانهاية.)

ولم نذهب بعيداً في المقابلة والاستدلال ونظرة واحدة إلى رسالة شلي التي نشرها عام 1811 تحت عنوان ضرورة الإلحاد فطرد من جامعة اكسفورد بسببها، ترينا بأنها ليست إلا نسخة عن (رسالة الغفران) لأبي العلاء المعري، لا تختلف عنها إلا في اللغة والأسلوب!

لقد أنكر كلاهما كثيراً من العقائد والمذاهب، فنالا من مرارة النقد ولاذع التقريع ما لم تكسر الأيام من حدته.

أضف إلى اشتراكهما في الرأي والعقيدة ائتلافهما في المزاج وفي نوع المعيشة الزاهدة الوادعة، وترفعهما عن إيذاء الغير وإسرافها في عمل البر. وكل ما يختلفان فيه - إن صح هذا الادعاء - هو أن المعري يعترف بالوحدانية وينكر البعث بينا شلي ينكر البعث والوحدانية.

شلي وبيرون

لا نكاد نمر بصفحة من حياة شلي إلا ويتردد فيها ذكر اللورد (بيرون) فقد كان رئده وصديقه، ومن الذين شهدوا إحراق جثته على خليج بيزا، فلا ندحة لنا عن أن نعرض لسيرتهما معاً ولو بشيء من الإيجاز.

لقد كان كلاهما من شعراء العصر الفكتوري المجيدين، ومن دعاة الحركة الابتداعية المبرزين، عاشا من الزمن فترة واحدة، إلا أنهما لم يجريا في حلبة واحدة من ميادين الشعر والأدب، فيعرف أي الاثنين محرز قصب السبق فيها؛ فبينا نرى شلي ينزع في قصائده، نزعة أبي العلاء المعري، ويسير وإياه على غرار واحد في الحكم والهوى، وفي التمرد على البيئة والتقاليد، نرى أن اللورد بيرون في قصائده يتفق مع أمرؤ القيس في أشعاره ولا سيما في معلقته الشهيرة.

فقد كان كل منهما في جميع ما يكتب إنما يعبر قبل كل شيء عن عواطفه الخاصة، ويسرد ما كان في حياته الماجنة من ضروب العبث والاستهتار، ومن لذعات الغزل الفاحش والافتخار. حتى قيل في بيرون: (إن حياته كانت محور نظمه، وقصائده فيها أحسن شعره) فشخصيته كأمير وابن أسرة عريقة في المجد والحسب تظهر في أشعاره، ظهور شخصية أمرؤ القيس كملك وابن ملك، وكشاب مسترسل في الشهوات والملذات في معلقته.

وهناك فرق آخر بين شلي وبيرون: ذلك أن شلي كان يعتمد في نظمه على التصورات الخيالة: بينا كان بيرون يعتمد على ذوب عاطفته وإدراكه للأمور العقلية ولعل ما بينهما من هذه الاختلافات يعزى إلى تباين طريقة معيشتهما، ناهيك ما للوراثة من كبير الأثر، فقد نشأ بيرون تحت ظلال المتعة الوارفة، وهو يتقلب على فراش السعادة والرخاء، ويرتشف سلاف الخمر ورحيق الهناء. فأنكب على الملاهي والمنكرات، وتمرغ في حمأة الدعارة والموبقات؛ حتى لقد كان يقاد من أهوائه بشعرة، ويلبي لشهوته كل دعوة. وهكذا ترعرع دون أن يصطدم من الأيام بما يفثأ من جذوة جنونه المتوقد، أو يفل من شباة نفسه المتحفزة، حتى ولا وجد من الأهل يداً صارمة حكيمة تقسو عليه وتكبح من جماح شهواته الثائرة، وحياته الماجنة، بينما نشأ شلي وهو يقاسي من شظف العيش ألواناً، ومن الأهل ذلاً وهواناً، ومن التعس أنواعاً واشكالاً، ثم أصطدم من الأيام الكاسرة بما تشيب له النواصي وتهتز لهوله الجبال والرواسي. فشحنت المصاعب قلبه بتيار الثورة، وبذرت المصائب في صدره بذور التمرد.

شعره وديوانه:

لم يكن شلي بالشاعر الذي يترقب هبوب العاطفة الشاعرية فينتضحها في قالب من السبك اللفظي، وحسن الأداء، يذكى بهما الحس، ويرهف السمع، ويجعل صدر القارئ أو السامع يجيش بتلك الحماسة التي اعتلج بها فؤاده وانمات لها قلبه، بل كان كثيراً ما يعتسف النظم على غير استعداد من عواطفه، ويستكره خياله استكراهاً، على أن يملي عليه قصيدة شعرية توائم رغبته وإرادته، ولكنها لا تشبع حسه وخياله، فكانت تجئ ملتوية المعنى ملتاثة التعبير، لا شيء فيها من ابتكار الفكرة، وجمال العاطفة. ولقد كان معظم أشعاره التي نظمها في ميعة الصبى وشرخ الشباب تدور في جملتها حول محور من الخيال الفسل والمعنى المبتذل، ولم يبلغ من الشعر درجة تثير كامن العواطف إلا في ضرب واحد من ضروبه، أعني به باب الغناء ولئن كان من أبطال هذا الباب وفرسانه، فأنه لم يبلغ ذروة المشاعر العليا فيه إلا في قصيدتين غنائيتين فقط، وهما: ملكة الجنيات وبروميتس غير المحدود

أما الأولى - ملكة الجنيات - فقد نظمها عام 1813 وهي تحمل بين أسطرها جراثيم الثورة والتمرد على جميع النظم الدينية والمدنية؛ إذ كان لا يراها إلا سداً منيعاً يحول دون تحقيق مثل الحياة الأعلى. وقد تنبأ فيها عن ذلك العصر الذهبي الذي يتكئ على اشرف الفضائل وأسمى المبادئ، ودعا الناس إليه بقوة، بعد أن حثهم على أن يهدموا جميع ما يعترض طريقهم من التقاليد القديمة والعادات الذميمة.

أما الثانية، بروميتس غير المحدود فقد وضع لحمتها في إنكلترا ونسج بردتها في روما بعد هجرته إليها بسنوات قلائل. وهي غرة قصائده؛ وأعملها في إذكاء الحس، وصقل العواطف، واستثارة كامل الشعور.

(للبحث بقية)

خليل جمعه الطوال