مجلة الرسالة/العدد 154/من أسخيلوس
→ القصص | مجلة الرسالة - العدد 154 من أسخيلوس [[مؤلف:|]] |
البريد الأدبي ← |
بتاريخ: 15 - 06 - 1936 |
لايوس وأوديب
(درامتان مفقودتان)
بقية المنشور في العدد الماضي
للأستاذ دريني خشبة
- 9 -
(ويلاه! لقد جئت أستجلي الحقيقة فضاعفوا الغموض في نفسي! أبي من هذا الذي أقتله، وأمي من تلك التي أتزوج منها، وأي شعب هو ذاك الذي أتعسه وأشقيه؟ أتكون الملكة صادقة وأكون ابن يوليبوس حقاً؟! أتكون زلة لسان من هذا العربيد أرسلها وهو لا يدري ما هي؟ إذن لأبعد في الأرض فأنا لا أطيق أن أراني أقتل يوليبوس، أبي، إن كان حقاً أبي. . . وأنا لا أطيق أن أراني زوجاً لأمي الملكة. . . إن كانت حقاً أمي!. . .)
وذهب المسكين لا يلوي على شيء، يأوي إلى الكهوف والغيران إذا جنه الليل، ويغتذي بقليل من البندق أو الجوز أو التين إذا ألح عليه الجوع، ويبل غلته من الجداول والغدران.
- 10 -
وبينا هو يطوي الفيافي والقفار، إذا به يصل إلى ملتقى طرق ثلاث، وإذا به يصل ثمة في الوقت الذي يصل ملأ كريم إلى المكان نفسه، وقبل أن يعرف أوديب أي الطرق الثلاث يسلك إذا رجل طوال يبدو عليه ملامحه أنه جندي أو قائد، يأمره بصوت خشن أجش أن ينتحي ناحية حتى يمر الركب. وكانت لهجة الرجل من الجفاف والغلظة بحيث لم يحتملها أوديب، فرفض أن يتزحزح خطوة واحدة، بل زاد فاعترض طريق الركب كأنما يتحدى رجاله جميعاً. وكيف يراد من أوديب الناشئ في بيت ملك كورنثه والذي أعدته الأيام لتولي زمام الملك أن يصدع بأمر رجل عابر طريق، مهما كان الرجل من حول ومن طول؟ إذن ليلتحم أوديب مع كل هؤلاء القوم في عراك عنيف، وليكن من الأمر ما يكون!
وصاح الرجل مرة أخرى، وأرغى من الغضب وأزبد. . . ولكن أوديب وقف مكانه كأنما سمر فيه؛ وأخذ يحدج القائد بعينين تقدحان الشرر، وتنفثان الموت الزؤام!
ولم يستطع القائد إلا أن يمتشق سيفه وينقض على أوديب كالصاعقة. . . ولكنه سقط على الثرى قبل أن يصل إليه جثة هامدة! (خذها ضربة من أوديب!!)
وذهلوا الجنود حينما شهدوا قائدهم معفرا بالتراب. . . فتكاثروا على أوديبوس. . . ولكنه صرعهم واحدا واحد بضربات كأنها سنا برق يومض خلل السحاب في يوم عاصف:
ثم نزل من المركبة التي كانت تنهب الطريق في إثر الجنود رجلٌ مسن قد وخط الشيب رأسه؛ وأقترب من أوديب وهو يهدج كالبعير الأبلق، ثم أخذ يحذره من الموت الذي يتربص به. . . (أنت شاب يا بني والحياة حلوة جميلة، وبرد الموت لا يخلق بعنفوانك. . . فانتح ناحية، ولا تركب رأسك، ولا تحسب أنك تقدر علي كما قدرت على هؤلاء. . .) وكان الشيخ يهز في يمينه سيفاً كالمنية. . . ولكن أوديب تبسم من قوله ضاحكا. . . وأعجله بضربة قدت رأسه وأضلاعه. . . وغادرته عند حيد الجبل جزر السباع. . .
وا أسفاه!. . لقد قتل أوديب والده!! ونفذ ثلث القضاء! فمتى ينفذ شطراه الآخران؟!
- 11 -
سلطت على مدينة طيبة هولة رائعة ما برحت تغتال أهلها وتعيث فيها فسادا، وكلما لقيت أحد عرضت عليه حجياً، فأن فسرها وقدر على تأويلها خلت سبيله، وإن لم يستطع غالته وأغتذت به. . . وقد عز على لايوس الملك ألا يقوى أحد على هذه الهولة فيخلص طيبة منها، ويربح من شرها العباد. فلما لم يستطع أحد يفسر حجياها أعتزم أن يذهب إلى دلفي مستخفياً في رهط من جنده، عسى أن يؤول له الكهنة ذلك الطلسم وينقذ شعبه من ذلك البلاء المبين!
وكأنما سعى لايوس إلى حتفه بظلفه! فقد لقيه ولده أوديبوس وقتله ومن معه على ما وصفنا!
- 12 -
وقبل أن يبلغ أوديب طيبة، كان خبر مقتل الملك وجنوده قد ذاع فيها، ولكن من كان أولئك القتلة؟ فلم يكن أحد يدري. . . إشاعات فحسب! فقائل إن الهولة هي التي أدركتهم وصرعتهم جميعاً؛ وقائل إن عصابة من قطاع الطرق أحدقت بهم وذبحتهم وهم نائمون. . . . . .
وكان أوديب قد سار في طريق طويلة شاقة انتهت به إلى طيبة. فلما كان ثمة لقيه واحد من الأهالي أنس إليه، وتبسط معه وذكر له خبر تلك الهولة الفظيعة التي قتلت ربع سكان طيبة: (وإذا لم يرح المدينة منها أحد، فقد تقتلنا جميعاً!! وهي تعرض على من تلقاه حجياً يا صاح، فأن عرفها وأدرك تأويلها خلت سبيله. . . وإلا. . . فهي لا بد فاتكة به مهما كان سلاحه، ومهما كانت قوته!! وهاهي ذي قد فتكت وحدها بالملك وجنده في طريقه إلى دلفي. . . وقد أجمعت المدينة على أن من يخلصها من ذلك الشر المستطير فإنها ترفعه إلى العرش فيكون ملكا على طيبة الخالدة، ثم يحظى بالملكة الايم فتكون زوجة له!!)
- 13 -
وكان أوديب قد زهد في حياة التشرد التي شقى بها بعد مغادرته كورنثه، فصمم على أن يلقى الهولة. . . فإما قتلها وفاز بعرش طيبة وبيد الملكة. . . وبحياة ناعمة مخفرجة، وإما قتلته فأراحته من شظف العيش ولؤم الزمان.
ودله صاحبه على مكانها. . . فذهب إليها وبيده جزاره. . . أظمأ ما يكون إلى دم حار وسم زعاف!. . .
وقالت له: (مكانك أيها القادم! أفتني في مخلوق غريب إذا أنبلج الصبح درج على أربع، فإذا أنتصف النهار مشى على رجلين، فإذا أرخى الليل سدوله سار على ثلاث! قل! فأن لم تستطع، فودع الحياة)
وعبس أوديب عبسة قصيرة، وقال: (أيتها الهولة! أهذه حجياك!! إذن أسمعي وعي! ذلك المخلوق هو الإنسان من غير ريب! أليس يحبو على أربع إذ هو طفل، فإذا شب سار على رجلين، فإذا بلغ من الكبر عتياً توكأ على عصا، فكانت له رجل ثالثة؟!)
وما كاد يتم قولته حتى أربد وجه الهولة، وحتى انثنت تأخذ طريقها إلى البحر لتغيب في أحشائه، ولكن أوديب الذي ملأه انتصاره بحل اللغز عجباً وكبرياء. . . انقض عليها وخوض صدرها بجرازه. . . وتركها على الشاطئ جثة خامدة!
- 14 - وفرحت طيبة بمخلصها العظيم، ومنقذها الكريم، ورفعت أوديب إلى عرشها، ووضعت على ناصيته تاجها، ووهبت له يد الملكة فتزوجها!
وا أسفاه!
لقد تزوج أوديب أمه! وتم الشطر الثاني من النبوءة الصارمة، وأولدها ابنها أربعة أبناء أشقياء، ولدين وابنتين، كأشباح الأسى والردى، والتعاسة والمنون!!
- 15 -
وحكم أوديب فعدل، واطمأنت إلى رحمته قلوب العباد، وتقدمت طيبة واستقامت أمورها، وبلغت من الأيد والقوة مبلغاً لم تكن تحلم به. . .
غير أن النبوءة تأبى إلا أن تتم، ولا بد أن ترث ذرية أوديب التعاسة عن أوديب. ذلك إن طاعوناً أجتاح طيبة، فكان الناس يموتون بالمئين! وكلت حيلة الأطباء، فأرسل الملك من يستنبئ كهنة أبوللو في دلفي عسى أن ترفع الآلهة غضبها بكشف هذا البلاء عن بلده الأمين! وعاد رسل الملك يقولون: (يقول أبوللو ابحثوا عن قاتل لايوس وانتصفوا للملك منه. . . يرفع عنكم ذلك الطاعون!)
قاتل لايوس!! إذن يجمع أوديب شرطة طيبة، ورجال القضاء فيها، ويجري تحقيق دقيق ينتهي بالحقيقة المؤلمة. . .
(يا للخزي!! إذن أنت هو ابني يا أوديب! أنا أمك! أنا أمك! يا للعار)
وتنطلق الملكة إلى غرفتها الخاصة فتنتحر: وقبل أن تفعل ترسل وراء الخادم الذي كان قد أخذ الطفل ليقتله فيحضر! ويعترف بكل ما كان!
- 16 -
أما أوديب، فانه لا يستطيع أن ينظر إلى أمه. . . بل يجن جنونه، ويتناول دبوساً فيسمل به عينيه، وينطلق إلى البرية على غير هدى، فتتبعه أبنته أنتيجونى، تقوده إلى غاب كولونوس حيث تأوي ربات الذعر فيغتلنه. . .
وينكشف الطاعون عن طيبة
ويقتتل ابنا أوديب على العرش، فيقتل بعضهما بعضاً، وتتم المأساة!. . . . . . . . . . . .
دريني خشبة