مجلة الرسالة/العدد 153/ذات الثوب الأرجواني
→ في النقد | مجلة الرسالة - العدد 153 ذات الثوب الأرجواني [[مؤلف:|]] |
المغالطة في الوسائل والغايات ← |
بتاريخ: 08 - 06 - 1936 |
للأستاذ عبد القادر المازني
- 1 -
(ملاحظة - الكلام ليس شخصياً وأن كان بلسان المتكلم، وذات
الثوب المذكورة هنا لاوجود لها في الخيال)
لم يكن الأرجواني ثوبها الوحيد - وكيف يمكن أن يكون؟ - ولا كان كل ما تلبس حين تبرز، ولكنه كان أحلى ما تكتسي وأشبهه بخديها - في رأى العين، وفي إحساس القلب أيضا ً - وقد رأيتها في ثياب شتى وأردية متنوعة - في الشفوف والأفواف، وفي السبائب المضلعة، والمطارف المربعة، وفيما عليه من الخطوط كأفاويق السهم، ومن النقوش كهيئة الطير، ومن الصور كرسم العيون، وفي الأبيض والأخضر والأزرق، ولكنه لم يقع من نفس شيء من هذا كله كموقع هذا الثوب الأرجواني الذي لا نقش فيه ولا صور ولا ترابيع ولا تداوير ولا تضاليع ولا خطوط ولا وشي ولا نمنمة. ومن العسير أن يعلل المرء هذا الشعور بوقع ثوب معين؛ وأحسب أني لو قلت ما يجول في خاطري ساعة أراها بادية فيه - أو مجلوة على الأصح - لظنني القارئ عربيداً مستهتكا، وما أنا من هذا في قليل ولا كثير. وليصدق القارئ أو لا يصدق، فما يعنيني ماذا يظن بي. وقديماً قلت - أيام كنت أقول الشعر:
قد أفعل الشيء لا أبغي به أملا ... ولا أبالي الورى ماذا يقولونا
هي ضميري - فأن أرضيته فعلى ... رأي العباد سلام المستخفينا
ومازلت كما كنت يوم قلت هذا، بل لعلي أسرفت في قلة المبالاة، حتى صرت إلى الاستخفاف المطلق.
ولأرجع إلى ذات الثوب الأرجواني، فأنها أحق بالكلام وأولى به مني، وكم قلت لنفسي وأنا أراعيها: (بأي شيء يا ترى يمكن أن تتوسل إلى مثلها؟. . . لا أنت جميل ولا محتمل. . . ولا لك مال. . . ولا في رأسك هذا عقل. . . أو ليس لو كنت تعقل أما كنت حرياً بالانصراف عن هذا العبث؟. . . ماذا ترجو منها؟. . . إنها دونك سناً، وأنت دونها في ك شيء. . . فلا خير فيك لها أو لمثلها)
ثم أعود فأقول لنفسي: (عن أي شيء تتكلم يا هذا؟. . . الجمال؟. . . سبحان الله العظيم! إن الجمال هو سلاح المرأة، فحظها منه ينبغي أن يكون موفوراً، وإلا زهد فيها الرجال، إذ كان لا مزية لها في غير ذلك. . . ولكن الرجل شيء آخر، وسلاحه في الحياة قوته وقدرته على الكفاح. . . لا هذه الأصباغ والألوان التي لا تلبث أن تحول. . فدع الجمال، فأنه شيء يطلب في المرأة ولا يطلب في الرجل. . . وماذا غيره؟. . . إنك غير محتمل؟؟. . لماذا بالله؟؟ لماذا تظلم نفسك وتبخسها هذا البخس؟. . ومع ذلك هذا شيء يترك لتقدير الغير ولا يجوز أن تكون أنت الحكم فيه. . . يعني ماذا؟. . . أتراني أهرب بهذه السفسطة من التقدير؟. . . لا. . . ولكن ينقصني أن أعرف الرجل الذي يستحيل أن يهتدي إلى امرأة تحبه، مهما بلغ من رأي الرجال فيه أو من سوء رأيه هو في نفسه. . . أو لم تسمع بالمثل القائل: (كل فوله لها كيال؟)، ألسنا نقول ذلك كلما رأينا رجلاً ثقيلاً تحبه امرأة جميلة كانت تستطيع أن تجد ألف عاشق لها غير هذا الجلف أو السمج، أو ما شئت غير ذلك من الأوصاف التي لا تهون على النفس؟ ومع ذلك هذه مبالغة، فما أنا بحيث أحتاج إلى التعزي بأن كل فولة لها كيال. . . أعوذ بالله. . . بقي المال والعقل. . . والكلام في هذا كلام فارغ. . . فليس من الضروري أن يكون المرء نداً لروتشيلد لكي تحبه المرأة مهما بلغ من جمالها. وليت من يدري بماذا فاز روتشيلد من حب الجميلات في حياته؟ ومتى كان المال يشتري الحب؟ كذلك ليس من الضروري أن يكون المرء سقراطا أو غيره من أصحاب العقول الضخمة ليكون محبوباً. . ومع ذلك سل سقراط عن تعذيب امرأته له، وتنغيصها حياته، وتسويدها عيشه!. . . ماذا ترى تفعة عقله وفلسفته؟. . . لا يا سيدي! الحب شيء لا ضابط له إلا تقدير المرأة للرجل الذي تحس بغريزتها أنه أصلح لها من سواه؛ وقد تكون مخطئة، ولكن هذا هو العامل الموجه لها في اختيارها. . . إذن هناك أمل؟. . . بالطبع!. . . ما هذه الحمارية!. . . إنها ولاشك عادة التفكير الطويل في كل أمر. . . وهي عادة تضعف الثقة بالنفس، وتفقدها الشجاعة اللازمة للأقدام)
ودارت في نفسي كلمة الأقدام بعد أن نطقت بها - في سري، وهل أنا مجنون لأتكلم بصوت عال يسمعه من في البيت فتكون النتيجة أن يخربوا بيتي؟ - فلم يسعني إلا أن أسأل نفسي: (الأقدام على أي شيء؟. . هذه فتاة أراها - وتراني هي أيضاً فما يسعها إلا أن ترى، أعني تراني - ومن طول ما اعتدت أن أراها صرت أحس أنها أصبحت تشغل مكاناً في نفسي. . مغالطة!!. كأن كل الذنب في حبها أني رأيتها مراراً. . ولولا ذلك لما حفلت نفسي بها!؟! أهذا ما أريد أن أقوله أو أدعيه؟؟. لا يا سيدي!. . يحسن مادمت أناجي نفسي أن أكون صريحاً معها وإلا فما الفرق بين نجوى النفس ومحادثة الأغراب؟؟. وأعود إلى الأقدام. . وأسأل عن أي شيء؟. . على أي شيء؟؟ أو ليس الأمر بديهياً؟. تشير أليها. . تظهر لها هذا الحب. . كيف بالله تريد منها أن تعرف أنك تحبها وأنك تروم أن تبادلها هذا الحب؟! (تشم على ظهر يدها) كما يقول المثل العامي؟؟. حسن. . وصحيح هذا بلا شك، ولكن ألا يمكن أن تعرف من نظرة العين وحدها؟؟ بلى!. وإن للمرأة قدرة على الإحساس بشعور الرجال نحوها، ولو كان بينهم وبينها ألف سور وسور. . . ما هذه المبالغة؟. مبالغة؟! ألم أسأل امرأة هذا السؤال فكان جوابها أني أكون سائرة في الطريق فاشعر بنوع النظرة التي يرميني بها من يتفتق أن يكون سائراً خلفي؟. فإذا أسقطنا المبالغة من هذا الكلام كان مؤداه أن المرأة يسعها أن تدرك أتحبها أو لا تحبها من نظرة عينك؟. بل هذا يسع أي إنسان لا المرأة وحدها. . . ولكن إذا اكتفينا بالنظر ودلالته، فماذا يكون بعد ذلك؟! هل تروم منها أن تبدأك هي بالكلام وتقول لك: (يا سيدي أنك أعرف أنك تحبني فأنا أشكرك على تشريفي بهذا الحب الذي لا أستحقه، وأؤكد لك أني لست أهلاً لحب رجل عظيم مثلك؟ سبحان الله العظيم. . ما هذا البرود؟. إن الرجل حين يحب امرأة يكون معنى هذا أنه يريد أن يستولي عليها - هذا إذا كان رجلاً عادياً سليماً لا مريضاً - والرغبة في الاستيلاء تجعل من واجبه هو أن يسعى للتغلب على ما عسى أن يكون هناك من مقاومة، وليس ثم فرق بين غزو قلب وغزو مدينة؛ والحقيقة الجوهرية في كلتا الحالتين واحدة، وإن اختلفت المظاهر؛ وكما أن هناك مدناً لا يكاد الجيش يزحف عليها حتى تسرع إلى التسليم، كذلك تجد قلوباً لا تكاد العين تفوق إليها سهما حتى تذعن وتفتح بابه. غير أن هنالك قلوباً لا يسهل إخضاعها ولا بد من الكر عليها، وليست كل امرأة ككل امرأة، فالذي يجدي مع هذه لا يجدي مه تلك لتفاوت الأمزجة واختلاف الطباع؛ وما أظن صاحبتنا ذات الثوب الأرجواني بالعسيرة، وإن لي لمعواناً عليها من شبابها وغرارتها ومن حياة العزلة والحرمان التي تحياها. والشباب هو زمن الفورة والاضطرام في العواطف، والحرمان والعزلة يجعلان العواطف الطبيعية أشد استعداداً للاضطرام السريع والتسعر لأقل اتصال. وهل طبيعي ألا تعرف الحياة فتاة في عنفوان صباها إلا من النافذة وإلا من كتاب - أو رواية - تقرأه وهي في الشرفة؟. ماذا تعرف عن هذه الحياة؟. وماذا خبرت من أحوال الناس وأساليبهم؟. كيف تستطيع أن تقاوم ما تهدد به؟ بل كيف تعرف أنها مهددة بشيء حتى تفكر في المقاومة؟؟ هذه هي في الشرفة واقفة تنظر من هذا الارتفاع الذي لا يمكن أن تستبين منه شيئاً. . . لماذا تلبس هذا الثوب الأرجواني الأنيق الذي يبدي للعين خطوط جسمها جميعاً وانحناءاته كلها ويجلو مفاتنها ولا يحجب شيئاً منها؟. . أليست تلبسه لتبدو فيه كأجمل ما تكون وفي أفتن صورة؟. . تعرض محاسنها هذا العرض البديع ولا تجد في مكانها العالي هذا من يقدرها!!. والناس لا يشعرون بالحرمان منها لأن غيرها في الدنيا كثيرات. . . ولكن هي. . . هي. . . أليس المعقول - وهي تنظر إلى الرائحين والرائحات والغادين والغاديات - أن تشعر شعوراً حاداً بما هو مكتوب عليها من الحرمان؟. . ومع هذا الشعور المستمر ماذا تقدر أن تكون النتيجة إذا أتفق أن اتصلت أسبابها أو هي اتصال بأسباب رجل يصفو بوده إليها وتأنس هي منه هذا الميل؟. يخفق قلبها على الرغم منها. . وتلفي نفسها معنية بهذا الرجل الذي يوليها العناية التي حرمتها في حياتها، ويظهر لها الحب الذي لا يستطيع أن يظهره لها أخوها أو أبوها لأنه من نوع آخر، ولا يغني عنه حب الأم والأخت ومن إليهما. . وتشغل خواطرها بالتفكير في هذا الإنسان لا يفتأ ينظر إليها وفي عينيه نور الحب. . . وقد يكون كاذباً أو مخادعاً، ولكنها لا تستطيع أن تعرف هذا لأنها غريرة لم تجرب الناس ولم تعرف الحياة إلا من نافذة بيتها. . . فتراها تبدو في حفل من الزينة - ولم تكن تعني بأمر زينتها كل هذه العناية - وتكون واقفة مع صاحبها لها تحدثها فتتحول عينها إليك وتخالسك النظر. . . ويكون الكلام عادياً جداً لا يستدعي كل هذه الحركة ولا يستوجب هذه الضحكات المتوالية التي يميل لها الجسم كل مميل. . . ولا تزال وهي تتكلم تهز رأسها وتسوي شعرها بيديها وتخرج وتدخل ولا شيء هنالك تدخل له، ولكنه الشعور المتقد القلق، والعواطف المشبوبة لأنها محبوسة تريد أن تنفجر من طوال الكبت. . . وهذا الدبوس التي تشيله وتحطه لم يكن قلقاً في موضعه من شعرها ولكن نفسها هي القلقة، فيدها لا تهدأ ولا تسكن ولا تستطيع أن تكف عن الحركة. . . وهذا الثوب الجديد الذي لم يفصل والذي تنشره في الشرفة لزائرتها كان في وسعها أن تعرضه عليها في الغرفة ولكنها حركة عصبية تشي بالاضطراب النفسي. . . وهذا النبات الذي اتصل بعضه ببعض على جانب الشرفة والذي يحجب من فيها عن عيون الجيران هل تظنه أنه يحتاج إلى تسوية؟. لا. ولكن يدها مع ذلك لا تزال وأنت ناظر إليها تعبث بأوراقه النضيرة وقد تنظر إليك عن عرض وهي تفعل ذلك. . . ولا تحسب أنها تغازلك فما تفعل شيئاً من ذلك ولكنه لا يسعها إلا أن تنظر إليك خلسة من حين إلى حين، لأنه يسرها أن تراك ناظراً إليها وأن تعلم أنك مشغول بها حتى ولو أبدت الضجر من ذلك أحياناً. وإذا لم ينظر الرجل إلى المرأة فماذا يكون مصيرها؟. وماذا عسى أن تصنع بنفسها!. .
وهي تغيب عنك وتحتجب - يوماً كاملاً أو ساعات - لظنها أن احتجابها يسعر النار التي في صدرك ويرقى بألسنة اللهيب إلى السماء. وهي تقضي على نفسها بهذا الاحتجاب وخواطرها كلها معك وان كانت تكلم أمها وأخاها وأباها كأنما خلت بها الملهيات الحاضرة التافهة عن كل ذكر لك. وليست المرأة بشيء إذا لم تكن قادرة على هذه المخادعة البريئة. والشرفة الأخرى ليست في جانب غير هذا من البيت، بل الاثنتان على صف واحد، وليست إحداهما بأوسع أو آنق أو أحلى، ولكنها تنتقل من هذه إلى تلك لغير حكمة ظاهرة، إلا أنها تريد أن تفهمك أنها لا تحب أن تراها ولا ترتاح لطول تحديقك فيها. . وليس هذا بصحيح، ولكن المرأة هكذا أبدا. . . وتجلس في الشرفة على الكرسي وفي يدها الكتاب وتتعمد أن توليك ظهرها وأن تجعل وجهها إلى ناحية أخرى لتوهمك أنها غير راغبة فيما ترميها به من النظرات. . . ولا تقرأ شيئاً لأنها لا تقلب الصفحة إذ كان عقلها مشغولاً بك وهل لا تزال واقفاً؟. وهل تراك تنظر إلى غيرها؟. وهل أنت ضاحك أو عابس؟. وماذا كان وقع هذا الأعراض في نفسك؟. هل آلمك جداً؟. هل أغضبك؟. أو زادك تعلقاً بها وإقبالاً عليها؟. وتمد ساقها وتهزها لتلفت نظرك إلى جمالها. وتنهض واقفة وتنحني لتضع الكتاب على كرسي ثم تخرج من الشرفة - لا لحاجة - بل لتريك خط ظهرها وبراعته وفتنته. . . وترفع رأسها قليلاً - وعلى مهل - حتى تحاذي عينها حافة الشرفة لتنظر أباق أنت أم مللت وذهبت؟؟. وتراك تتهيأ للخروج فتختفي وعينها عليك من وراء الأستار - وفي ظنها أنك لا تفطن إلى ذلك - فإذا انحدرت إلى الشارع برزت في الشرفة لتلقي عليك نظرة أخيرة. . . ويجيء الليل فتجلس في الظلام وأنت في النور لتراك ولا تراها. . وإذا جاء وقت النوم أغلقت باب الشرفة بعنف لا تدعو إليه أي ضرورة سوى أنها تريد أن تؤذنك بذلك.
هذه حياة المسكينة وهذا ما يحوجها إليه ما هي فيه من العزلة والحرمان الدائم. وأي قدرة لمثلها أو عسر يمكن أن يكون فيها الأعسر السجن. . . كان الله في عونها فأني أراني أعطف عليها وأرثي لها في محنتها هذه أكثر مما أراني أحبها. وسلام عليها.
إبراهيم عبد القادر المازني