الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 152/النقد أيضا

مجلة الرسالة/العدد 152/النقد أيضا

مجلة الرسالة - العدد 152
النقد أيضا
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 01 - 06 - 1936

ً

للأستاذ أحمد أمين

أثار ما كتبه أخي الزيات في موضوع (النقد) معاني أخرى في نفسي تتصل بتاريخ النقد العربي في السنين الأخيرة.

ذلك أني أوازن بين النقد من نحو عشرين عاماً والنقد الآن، فأجده ليس خاضعاً لسنة النشوء والارتقاء، بل لسنة التدهور والانحطاط، حتى وصل إلى حالة من العجز يرثى لها.

فقد كان الكِتَاب إذا ظهر هبت الصحف والمجلات لعرضه ونقده؛ فاللغوي ينقده نقداً لغوياً، والمؤرخ ينقده نقداً تاريخياً، والأديب ينقده نقداً أدبياً؛ وتثور معركة حامية بين أنصار الكتاب وأعداء الكتاب، وتظهر في التأييد والتفنيد مقالات ضافية، وبحوث عميقة شائقة. ولست أنسى ما كان يقوم به الأستاذ إبراهيم اليازجي من نقد (لمجاني الأدب) و (أقرب الموارد) ونحوهما من الكتب، كما لست أنسى ما نُقد به كتاب (التمدن الإسلامي) والأخذ والرد اللذين قاما حوله؛ وكان شوقي أو حافظ يقول القصيدة، فيقوم ناقد معترض يبين معايبها، ومادح مقرظ يبين محاسنها؛ ومن هذا وذاك يستفيد الأديب، ويرقى الأدب، وتتجلى حقائق كانت خافية، وتتهذب أذواق كانت نابية، وكان يؤلَّف الكتاب الديني مثل كتاب (الإسلام وأصول الحكم) فتنشب معارك حامية، وينقسم المفكرون إلى معسكرين، وفي كل معركة شحذ للأذهان، ودرس للمتعلمين، وتمحيص للحقائق. قد كان في نقدهم أحياناً هُجر وقذع، وهجو وسباب؛ ولكن كان بجانب ذلك حقائق تذاع، وبحوث تنشر؛ وكان كل من السباب والنقد العفيف علامة حياة أدبية، وثورة فكرية، وعقل باحث، وقلم نشيط

تعال فانظر معي الآن إلى ما وصلنا إليه! لقد كثرت الكتب يخرجها المؤلفون، وأصبح الإنتاج الأدبي أضعاف ما كان، في كل ناحية من نواحي الأدب، من قصص وقصائد وموضوعات اجتماعية، وكتب تاريخية؛ وكثر الكلام في الأدب، وخصصت أكثر الصحف صفحات للمقالات الأدبية، وكان معقولاً أن يساير النقد هذه الحركة فيرقى معها، ويتسع باتساعها، وتتعدد نواحيه بتعددها، ولكن كان من الغريب أن تحدث هذه الظاهرة، وهي رقي الأدب وانحطاط النقد

نعم، أعتقد أن الأدب العربي ارتقى عما كان عليه منذ عشرين سنة في جملته لا في ك ناحية من نواحيه، فقد يجوز أننا لم نجد من يخلف (شوقي) و (حافظاً) في ناحيتهما الشعرية، ولكن الأدب - بمعناه العام - أصبح خيراً مما كان، فغزرت معانيه بعد أن كان لفظياً، وعمق بعد أن كان سطحياً، وجادت القصة فيه نوعاً ما، واتسع أفقه وموضوعاته قدراً ما، وتأثر الأدبَ الغربي وقلده في مناحي رقيه. أما النقد فانكمش وأنكمش حتى ضمر وذبل وأشفى على الهلاك

وحسبك دليلاً أن ترى أشهر الكتاب في العالم العربي يخرجون الكتاب تلو الكتاب فلا تكاد تجد ناقداً يعتد به، وتقرأ ما يكتب عن ذلك في أشهر الصحف والمجلات فلا تجد إلا سراباً يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً؛ وأكثرها يكتفي باسم الكتاب وعرض موضوعه والاستعانة على ذلك بفهرسه ومقدمته ثم صيغة محفوظة متداولة من المدح والتقريظ. فان كان نقد فمظهر لا مخبر، هو نتاج فقر عقلي وخمود ذهني، ثم ينتهي الأمر ويغلق الباب. فلا معارك ولا مساجلات ولا بحوث حول الكتاب، ولا أخذ ولا رد، ولا مظهر من مظاهر الحياة الأدبية. لا يشعر الناقد أن عليه واجباً يؤديه للقراء، وأن منصبه يتطلب منه قراءة عميقة، وآراء صريحة، وتقديراً دقيقاً، وأن ذمته لا تبرأ إلا ببحث شامل واف ثم إبداء لرأيه في غير تحيز ولا مواربة، ولكن كل ما يشعر به أن المؤلف أهدى إليه الكتاب فهو يلقي على عاتقه العبء بكتابة كلمة خاملة، ووصف فاتر، ونقد سطحي.

ليس النقد مجرد استحسان الناقد أو استهجانه. فكل ما كان مبنياً على ذوق الناقد وحده، ومجرد ادعائه أن هذا بليغ وهذا ليس ببليغ وهذا راقِ وهذا غير راقِ لأنه يتذوقه أو لا يتذوقه، واكتفاؤه أحياناً بأن يصوغ عبارته في الاستحسان أو الاستهجان في قالب جميل، كل ذلك ليس من النقد في شيء. إنما النقد ما عُلّل وبينت فيه أسباب الحسن والقبح، وأسس على قضايا ثابتة. فبهذا يستفيد المنقود، ويرقى الأدب، ويسمو الذوق؛ وبهذا وحده لا يكون النقد فتاتاً لموائد الأدب، ولا متطفلاً على نتاجه، إنما يكون هادياً للأديب ومرشداً للجمهور وموجهاً للأدب نحو الكمال

ولكن ما علة هذه الظاهرة في الأدب العربي، وليس من الطبيعي في الأمم أن الأدب إذا رقي ضعف النقد، فإننا نرى الظاهرة في الأدب الغربي أن يرقى الأدب فيرقى النقد ويؤثر كلاهما في الآخر تأثيراً محموداً - فيجب أن تكون علة ضعف النقد العربي علة محلية لا علة طبيعية

يظهر لي أن هذا الضعف في النقد يرجع إلى أسباب عدة:

أهمها أن النقد الصريح الصحيح يحتاج إلى شجاعة أدبية قوية من الناقد، ورحابة صدر من المنقود. وقد حدث في تاريخ مصر الحديث أن جماعة تسلحوا بالشجاعة الأدبية فأظهروا آرائهم في صراحة تامة ولم يبالوا الرأي العام سواء في ذلك بحوثهم ونقدهم؛ وكانت هذه البذرة الأولى للشجاعة الأدبية في مصر، فألفوا كتبا عبروا فيها عن آرائهم في جلاء ووضوح، وكتبوا مقالات تعبر عما يختلج في نفوسهم وإن لم تكن على هوى الجمهور، ونقدوا أدب الأدباء وإن بلغوا القمة في نظر الناس، فكان صراع بين القديم والحديث، وبين التفكير الحر والتقاليد، وبين الأدب الناشئ والأدب الموروث. ولكن هذا الصراع انتهى بهزيمة هذه الطليعة من المفكرين، وتعرضوا للخطر في مناصبهم وأرزاقهم، ونالوا من العسف والعنت ما ليس في طاقتهم. وهذا يحدث مثله في كل أمة من الأمم الأوربية، ولكن كان هناك فرق كبير بيننا وبينهم: ذلك أن أصحاب الرأي الجديد في البلاد الراقية إذا أوذوا في العصر الحديث رأينا من مقلديهم وأتباعهم في الرأي من يمدونهم بالمال وبالمعونة، وكم رأينا من المال يجمع ليستعين به من نكب في منصبه بسبب رأيه أو بسبب سياسته، يتبرع به أغنياء اعتقدوا صحة رأيه أو وجاهة سياسته، فعطفوا عليه، وتحول عطفهم إلى اتخاذ وسائل لدرء الخطر عنه فاستمر في خطر شجاعته، وشعر بأن تضحيته يقابلها عطف، وأنه إن ضحى بالكماليات لا يُصاب في الضروريات؛ بل وإن أصيب في الضروريات وبلغ ذلك فقدان القوت فقد ضربت له أمثلة عدة أيام الثورة الفرنسية وقبلها وبعدها، فتأصلت الشجاعة الأدبية، ونمت بذرتها وأصبحت غير قابلة للفناء. أما في مصر فكانت بذرتها هي البذرة الأولى، وشعر القائمون بهذه الحركة الجديدة أنهم أصيبوا في سمعتهم وفي منصبهم وفي مالهم، ثم رأوا أن أتباعهم تخلوا عنهم في أوقات الضيق؛ ومن عطف عليهم منهم فعطف أفلاطوني، عطف يتبخر، عطف لا يمكن أن يتحول إلى مال أو مجهود. وكان الرأي العام قوياً مسلحاً فتغلب وانتقم وأصبحت له السلطة التامة، وانهزم أمامه فريق المفكرين الصرحاء هزيمة منكرة؛ ولم تكن له أمثلة كثيرة في تاريخه القريب فاضطر إلى التسليم، بل وفي بعض الأحيان رجع عن رأيه إلى آرائهم، وعن منهجه إلى منهجهم، وتعود المجاراة بدل المقاومة، والمداراة مكان الصراحة، فلم يعد هناك معسكران ولم يعد صراع، إنما هو معَسكر واحد ولا قتال. وتعلم الجيل اللاحق من الجيل السابق فاختط خطته ونهج منهجه وأخذ الدرس عن أخيه الأكبر ففضل السلامة. وبذلك اختنق النقد الأدبي في مهده، وأصبح الأدب مدرسة واحدة يختلف أفرادها اختلافاً طفيفاً، في العرض لا في الجوهر. لا مدارس متعددة تتناحر وتتعاون، وتتعادى وتتصادق، وفي عداوتها وصداقتها الخير؛ ولا أمل في عودة النقد الصريح إلا ببذرة جديدة وروح جديد على شرط أن تكون البذرة صلبة تتحمل حوادث الدهر وعوادي الأيام.

ويتصل بهذا أن الأدباء عندنا صنفان: صنف نضج وتكوّن واستوى على عرش الأدب، وهؤلاء هم القادة، وهم أفراد معدودون تسالموا وتهادنوا وحرمنا ما بينهم من خصومة أدبية وعلمية، وأصبح كل منهم كالعُشَراء لا تميل إلى النطاح ولا ترجو إلا السلامة. وصنف ناشئ هو في طور التكون، وهو يخشى أن يتعرض لمن استوى على العرش فيبطش به بطشة جبارة ترده إلى أسفل، فلما جامل الكبراء بعضهم بعضاً وخاف الناشئون من الكبراء، ضاع النقد بين هؤلاء وهؤلاء.

ولعل من أسباب ضعف النقد أيضاً السياسة قتلها الله، فقد تدخلت أولاً فنصرت الجمهور على القادة، وعاونت الرأي العام على المفكرين؛ وما كان الجمهور والرأي العام ينتصران هذا النصر لو وقفت السياسة على الحياد، ولو فعلت لكان الحرب سجالاً، ولظل المعسكران في قتال؛ وفي هذا تمحيص كبير للآراء، فيصد الرأيُ العام المتطرفين، ويدفع القادة غلاة المحافظين، والأمة من هذا وذاك في استفادة دائمة. أما أن تدخل السياسة فتبيد معسكراً بأكمله، فكان الضرر كل الضرر. ثم إن السياسة - ثانياً - دخلت في الأدب وقومت الأديب بلونه السياسي، ولم يستطع الناس التفرقة بين موازين الأدب وموازين السياسة، فأفسد ذلك الأدب والنقد معاً. قد تقول إن السياسة تلعب هذا اللعب في الأمم الممدنة ولم يكن لها هذا الأثر، ولكنا نقول إن الأمم الناشئة تتضرر من تدخل السياسة أكثر مما تتضرر الأمم العتيدة، وأكبر مظهر في ذلك أنه ليس بين أحزابها تنافر كالذي بين أحزابنا، ولا ينكل حزب بالأحزاب الأخرى كما يحدث بيننا، فالخصومة السياسية عندهم لا تفقد الصداقة في أغلب الأحيان، وكذلك الشأن في الخصومات الأدبية. أما الأمم الناشئة فلا تفهم من الخصومة السياسية والأدبية والعلمية إلا العداء العنيف، وفي العداء العنيف قتل للحرية

وهناك أسباب أخرى غير ما ذكرت لعل الكُتّاب يعرضون لها فيكشفون عن أسباب هذا الداء الخطير ويصفون له ما يتطلب من دواء ناجع

أحمد أمين