مجلة الرسالة/العدد 151/عالم الإيحاء
→ من روائع عصر الأحياء | مجلة الرسالة - العدد 151 عالم الإيحاء [[مؤلف:|]] |
من الموضوعات التي نالت الجائزة في المباراة ← |
بتاريخ: 25 - 05 - 1936 |
َالَمُ الإيحاء
للأستاذ عبد الرحمن شكري
إذا مجد المنطق أمام الإنسان في الحياة نشأ على احترام المنطق إلى حد كبير، حتى ليعد العقل كأنه طاحونة منطق، وحتى يظن أن وسائل التأثير مقصورة على مقتضيات المنطق وأن لا إقناع إلا الإقناع المنطقي، ويخفى عنه أثر الإيحاء الذي يتخذ قوى النفس وميولها ونزعاتها وعواطفها وإحساسها وسائل يستخدمها بطرق تعجز أحياناً تتبع المنطق وتقصيه. وإذا اعتقد الإنسان أن الحياة مؤسسة على أسس من المنطق فحسب، وفاجأته بعكس هذا الاعتقاد إذا اختبرها، صعب وقع تلك الخبرة في نفسه. فإن تجاريب المرء في الحياة تعلمه أن الحياة ليست مؤسسة على الإقناع المنطقي فحسب، وأن المنطق نفسه يستخدم لكل غرض حتى غرض الإيحاء، وأن المنطق خليق أن يشبه بالخادم الذي يعمل في بعض البيوت فيغسل أماكن دورات المياه تارة، وتارة يطهي ويقدم الطعام للأسرة والزوار. والحقيقة هي أن للإيحاء أثراً كبيراً في الحياة حتى أنه ليسيطر على المنطق في بعض الأحايين ويستخدمه لأغراضه، وفي بعض الأحايين يغري المرء بعكس ما يغري به الإقناع المنطقي
وقد يعتمد المرء على مقتضيات المنطق لنيل العدل بين الناس في الحياة أو ما يراه عدلاً؛ فإذا لم ينله انهارت دنياه ودهش إذا لم يكن عالماً أن وراء حياة المنطق حياة أخرى تدين للإيحاء، وأن عليه أن يحدد موقفه في عالم الإيحاء هذا، وأن يتخذ عدته له وأن يبحث مخبآته وأسراره، فإن قيمة الناس والقضايا في ذلك العالم ليست إلا بقدر ما تستطيع أن تستخدمه من وسائل الإيحاء ومؤثراته، ولا يخلو أحد في الحياة من الخضوع لعوامل الإيحاء والتأثر بها سواء في ذلك التاجر والموظف
يحكى أن أشعب الثقفي قد أولع الغلمان بمعاكسته يوماً فقال لهم ليصرفهم عنه: إن في شارع كيت وكيت أفراح عرس تنثر فيها الدنانير على الجمهور؛ فصدق الغلمان قوله وتركوه وجروا إلى المكان الذي وصفه في قوله، فلما رأى أشعب تصديق الغلمان أغراه ذلك وجرى خلفهم إلى المكان الذي وصفه في قصته التي لفقها كي يصرف الغلمان عنه. والناس في الحياة على شاكلة أشعب فيما يشيعون من الخير والشر عن أنفسهم أو عن غيرهم، يقولون ما ليس بحق ثم يصدقونه إذا رأوا تصديق الناس له، وهذا بسبب تأثير الإيحاء في أنفسهم. ولا يستطيع المرء أن يفهم الناس إلا إذا فهم هذا الإيحاء، وإلا إذا فهم أن النفس قد تجمع بين النقيضين في وقت واحد، فتجمع مثلاً بين أثر الإيحاء وبين الدليل المنطقي الذي ينقضه
خذ مثلاً آخر: يقول لك علي أن أحمد قد هجاك، وأنت تعرف أن علياً كاذب فيما نقل عن أحمد، ولكن من المستطاع أن تجمع في نفسك بين تكذيب علي وبين الامتعاض من أحمد الذي تعرف براءته، والامتعاض هذا من أثر الإيحاء
والإنسان يستطيع أن ينقل الكلام المحكي من عالم المنقول إلى عالم المدرك بالحس بسبب أثر الإيحاء أيضاً، حتى أنه لو قيل لجماعة أن إنساناً ينظر إليهم شزراً لم تعدم بينهم من يرى ذلك أو يظن أنه يرى ذلك وإن لم يحدث؛ وبعض الناس أكثر تأثراً بالإيحاء من غيرهم. وقد حكي أن بعض فقراء الهنود يرمون بحبل إلى السماء فيظل ممدداً حتى يستطيع غلام أن يصعد إلى طرفه الأعلى؛ وفسر بعض الكتاب هذه القصة بأنها من أثر الإيحاء في نفوس بعض النظارة، وبسبب أن المرء ينقل الكلام المنقول المحكي إلى عالم حسه فتنشأ دعوى المشاهدة. وهذه الصفة في الإنسان كثيراً ما تخدعه ويخدع بها غيره من الناس في أمور كثيرة من أمور الحياة. وقد ينخدع بها ويصدقها وهو يعرف أنها وهم؛ وقد يجمع بين تصديقها وتكذيبها في نفسه في وقت واحد
ويعتقد كثيرون أن الإيحاء يؤثر في الحيوان أثره في الإنسان. ومن المشاهد أن احساسات الإنسان من ذعر أو حب أو فرح أو خوف قد تنتقل إلى الكلاب مثلاً عن طريق الإيحاء. وقد بالغ بعض الناس فادعى أن أثر الإيحاء قد ينتقل إلى الجماد أيضاً. وعلل إسقاط كهنة زنوج أواسط أفريقية الأمطار بهذا الأثر. والعلم لله في هذا الأمر
وترى الجهال في الحياة يستخدمون وسائل الإيحاء لمنفعة النفس أو منفعة الصديق ومضرة العدو بطرق منظمة تحسبها نتيجة دراسة الإيحاء والبحث في علم النفس، وما هي بنتيجة دراسة وعلم، ولكنها السليقة التي تبصر الإنسان بوسائل الإيحاء. ولو علم الصائلون بإيحائهم المقتدرون به الجالبون لأنفسهم ولأودائهم به الخير أن بين العامة من لا يقل قدرة عن الخاصة في استخدام الإيحاء ما افتخروا بمهارتهم في استخدام وسائل الإيحاء ولا عدوها من دلائل العقل والحكمة، ولا حسبوا أنهم فازوا في الحياة بهمها، ولو علم العقلاء الحكماء أن وسائل الإيحاء أقرب إلى النجاح من وسائل العقل، وأن الإيحاء يستمد من السليقة ما غالوا بعقلهم وحكمتهم كل المغالاة، ولا حزنوا إذا أبصروا انخذال وسائل العقل وانهزامها أمام وسائل الإيحاء
والتأثر بالإيحاء من صفات القطعان، سواء القطعان البهيمية والقطعان البشرية؛ فإذا أحدثت بهيمة في قطيع صوتاً أو اتخذت طريقاً تابعتها بهائم القطيع. وهذا هو ما يحدث أيضاً في القطيع الإنساني بسبب أثر الإيحاء والمحاكاة التي هي من أثر الإيحاء. والقطيع البشري أكثر تأثراً به بسبب إحساسه وخياله الناميين. والإيحاء قد يكون في النوم أو في اليقظة، وكثيراً ما كان يعتمد السحرة على الإيحاء وأثره في النفس، وتأثر الجسم بما تعتقده النفس
وقد تتذبذب وتتحول نفوس الناس ساعة بعد ساعة، أو يوماً بعد يوم تذبذباً لا حد له في الأمور اليومية والاحساسات المتغيرة العارضة بسبب اختلاف أنواع الإيحاء ومراميه، حتى ليشبه تذبذبهم تذبذب السراب أو ذرات الهباء في أشعة الشمس، ولكنهم لا تأخذهم الدهشة من أنفسهم لأنهم لا يفكرون في أنفسهم ولسرعة التذبذب كما لا تحس دورة الأرض، ولأنهم ثابتون على بعض عقائد ومبادئ عامة لا مناص لهم من الثبات عليها، فتلهيهم عن تذبذبهم المستمر بسبب اختلاف نزعات الإيحاء، والتذبذب النفساني ينشأ عنه تذبذب جثماني لاختلاف حركات الوجه والجسم حسب الأهواء والميول والنزعات النفسية. والبيع يشبه الاحتيال من ناحية الاعتماد على الإيحاء إلى حد كبير، وإن اختلفا فيما عدا ذلك، ويسمي الناس وسائل البيع والاحتيال التي تعتمد على الإيحاء الطريقة الأمريكية في البيع، والطريقة الأمريكية في الاحتيال والنصب، وهي طريقة شائعة في النفوس عامة وفي كل أمر من أمور الحياة من تجارة أو مهنة أو صداقة أو محبة أو عداوة، وإنما تختلف باختلاف النفوس ولا تمنع من اقترانها بنصيب من الفضيلة أو الصدق أو النزاهة أيضاً، لأن النفس تجمع بين النقيضين. ويستخدم الإيحاء كثيراً في الإعلانات عن العقاقير والكتب والمؤلفات وغيرها
ومما يزيد الإيحاء قوة أن المتأثر به الذي نقل أثر الإيحاء إلى عالم حسه ومشاهداته كما أوضحنا يصبح شاهداً يستشهد به صاحب الإيحاء كأن شهادته ليست نتيجة أثر إيحائه، إذ المتأثر بالإيحاء بعد أن ينقله إلى عالم حسه ويدعي أنه من أثر مشاهدته ومن أثر اقتناع حواسه ينأى بنفسه ويترفع عن أن يكون ذنباً لصاحب الإيحاء تابعاً له، فيدعي الاستقلال في الرأي والمشاهدة، حتى لقد يخدع صاحب الإيحاء، فيتأثر به صاحب الإيحاء، ويتناسى أن رأيه من أثر إيحائه
ولقد أتقنت وسائل الإيحاء للإعلان عن ممثلي وممثلات الصور المتحركة، كما أتقنت وسائل الإيحاء عندما تنشر دولة الدعوة العالمية ضد دولة تعاديها أو تحاربها
والإيحاء قد يطرد في شكل سلسلة من الحلقات من إنسان إلى ثان ثم إلى ثالث ورابع الخ، حتى يختفي مصدر الإيحاء وأوله ومنشؤه. وإذا كان إيحاء المرء لغيره سهلاً ميسوراً فإيحاؤه لنفسه أسهل وأيسر، لأنه أملك لها؛ وقد يفطن إلى أن إيحاءه لنفسه مغالطة، ولكنه يقدس تلك المغالطة كما يقدسها لو كانت من أثر المنطق والإقناع المنطقي، بل قد يقدسها أكثر من تقديس ذلك الإقناع، فترى أن وراء هذا العالم المادي الظاهر، ووراء ما يبحثه به الباحث من منطق يوجد عالم آخر حقيق أن يسمى عالم الإيحاء
عبد الرحمن شكري