مجلة الرسالة/العدد 151/أندلسيات
→ ملاحظات متواضعة على مشروع | مجلة الرسالة - العدد 151 أندلسيات [[مؤلف:|]] |
الحياة الأدبية في شرق الأردن ← |
بتاريخ: 25 - 05 - 1936 |
أبو الفضل بن شرف
الشاعر الفيلسوف
للأستاذ عبد الرحمن البرقوقي
(بقية ما نشر في العدد 149)
فلما سمعها المعتصم لعبت بارتياحه وحسده بعض من حضر، وكان من جملة من حسده ابن أخت غانم. فقال له: من أي البوادي أنت، قال أنا من الشرق في الدرجة العالية، وإن كانت البادية على بادية، ولا أنكر خالي، ولا أعرف بحالي. فمات ابن أخت غانم خجلاً، وشمت به كلا من حضر. وهذا ابن أخت غانم العالم اللغوي أبو عبد الله محمد بن معمر من أعيان مالقة متفنن في علوم شتى إلا أن الغالب عليه علم اللغة. وكان قد رحل من مالقة إلى المرية فحل عند ملكها المعتصم ابن صمادح، وله تآليف منها شرح كتاب النبات لأبي حنيفة الدينوري في ستين مجلدا. قال ابن اليسع في مغربه أنه حدثه بداره بمالقة وهو ابن مائة سنة وأخذ عنه عام 524. . . وغانم خاله الذي يعرف به هو الإمام العالم الأديب أبو محمد غانم بن الوليد المخزومي نسب إليه لشهرة ذكره وعلو قدره. ومن شعر الإمام أبي محمد غانم هذا قوله - وقد دخل يوماً على باديس بن حيوس صاحب غرناطة، فوسع له على ضيق كان في المجلس فقال بديها:
صيّر فؤادك للمحبوب منزلة ... سم الخياط مجال للمحبيْنِ
ولا تسامح بغيضاً في معاشرة ... فقلما تسع الدنيا بغيضين
وقوله:
الصبر أولى بوقار الفتى ... من قلق يهتك ستر الوقار
من لزم الصبر على حاله ... كان على أيامه بالخيار
وقوله في نكبة المعتمد بن عباد:
ومن الغريب غروب شمس في الثرى ... وضياؤها باق على الآفاق
وقوله: ثلاثة يجهل مقدارها ... الأمن والصحة والقُوتُ
فلا تثق بالمال من غيرها ... لو أنه دُرٌّ وياقوت
وكل ذلك من الحديث النبوي الشريف: من أصبح آمناً في سربه معافى في بدنه، معه قوت يومه، فكأنما سيقت له الدنيا بحذافيرها. ومن بديع قول أبي الفضل بن شرف المترجم من قصيدة يمدح بها المعتصم بن صمادح:
لم يبق للجور في أيامكم أثر ... غير الذي في عيون الغيد من حور
وأول هذه القصيدة:
قامت تجر ذيول العصب والحبر ... ضعيفة الخصر والميثاق والنظر
ومن هذه القصيدة في وصف السيف:
إن قلت ناراً أتندى النار ملهبة ... أو قلت ماء أيرمي الماء بالشرر
ومنها في وصف الدرع:
من كل ماذية أنثى فيا عجبا ... كيف استهانت بوقع الصارم الذكر
وكان قد وفد على المعتصم مرة يشكو عاملاً ناقشه في قرية يحرث فيها وأنشده الرائية المذكورة. ولما بلغ قوله: لم يبق للجور في أيامكم أثر. قال له المعتصم: كم في القرية التي تحرث فيها؟ فقال: فيها نحو خمسين بيتاً، فقال: أنا أسوغك جميعها لهذا البيت الواحد، وعزل عنها نظر كل وال. . . ومن شعر أبي الفضل بن شرف: -
يا من حكى البيدق في شكله ... أصبح يحكيك وتحكيه
أسفله أوسع أجزائه ... ورأسه أصغر ما فيه
وقال: -
لعمرك ما حصلت على خطير ... من الدنيا ولا أدركت شيّا
وها أنا خارج منها سليبا ... أقلب نادماً كلتا يديا
وأبكي ثم أعلم أم مبكا ... ي لا يجدي فأمسح مقلتيا
ولم أجزع لهول الموت لكن ... بكيت لقلة الباكي عليّا
وإن الدهر لم يعلم مكاني ... ولا عرفت بنوه ما لديا
زمان سوف أنشر فيه نشرا ... إذا أنا بالحمام طويت طيّا أسر بأنني سأعيش ميتا ... به ويسوءني إن مت حيا
ويروى له: -
ألحاظكم تجرحنا في الحشا ... ولحظنا يجرحكم في الخدود
جرح بجرح فاجعلوا ذا بذا ... فما الذي أوجب جرح الصدود
وأرسل إليه الشاعر ابن اللبانة بأبيات يواسيه بها ويحثه على النهوض وهي: -
يا روضة أضحى النسيم لسانها ... يصف الذي تهديه من أرجائها
ومن اغتدى ثم اهتدى لطريقة ... ما ضل من يسعى على منهاجها
طافت بكعبتك المعالي إذ رأت ... أن النجوم الزهر من حُجاجها
شغلت قضيتك النفوس فأصبحت ... مرضى وفي كفيك سر علاجها
هلا كتبت إلى الوزير برقعة ... تصبو معاطفه إلى ديباجها
تجد السبيل لهم ولا تك للمنى ... وينير سعيهم بنور سراجها
أنت السماء فما بها لك رفعة ... طلعت عليه الشهب من أبراجها
وضحت مفارق كل فضل عنده ... فاجعل قريضك درة في تاجها
فكتب إليه المترجم:
يا منجدي والدهر يبعث حربه ... شعثاء قد لبست رداء عجاجها
لله درك إذ بسطت إلى الرضا ... نفساً تمادى الدهر في إحراجها
وأرقت ماء الود في نار الأسى ... كالراح يُسكر حدُّها بمزاجها
فيَّأتِني تلك الغمام فبرّدت ... من غلة كالنار في إنضاجها
فأويت تحت ظلالها ووجدت بر ... د نسيمها وكرعت في ثجاجها
قل كيف تنعش بعد طول عثارها ... أم كيف تفتح بعد سدر تاجها
لأزيد في أمري وضوحاً بعد ما ... قامت براهين على منهاجها
فأكون إن زدت الصباح أدلة ... خرقاء تمشي في الضحة بسراجها
دعني أبرد بالقناعة غلة ... يأس النفوس أحق في أثلاجها
بكر بخلت على الأنام بوجهها ... ومنعتها من ليس من أزواجها
وصرفتها محجوبة بصوانها ... مثل السلوك تصان في أدراجها كالنور في أكمامها والبيض في ... أغمادها والغيد في أحداجها
فالنفس إن ثبتت على أخلاقها ... أعيا على النصح طول لجاجها
وإنك لترى للمترجم له مع ذلك رسائل بديعة أنيقة الوشي حسنة التحبير، تنم على دقة حسّه البياني، وذوقه الفني، وتفننه في جميع فنون المراسلات والمراجعات، وأنه مُحسْن في جميع فنون الأدب إحسانه في الطب والحكم، فهو شاعر كاتب حكيم طبيب، ولا جرم أنه انحدر من صلب ذلك الأديب العبقري ابن شرف القيرواني الذي غَمرَ ابنه هذا وأخمله حتى نحله مؤرخو الأدب العربي في عصرنا أكثر شعر ابنه
عبد الرحمن البرقوقي