الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 150/إنسان ناجح

مجلة الرسالة/العدد 150/إنسان ناجح

بتاريخ: 18 - 05 - 1936


للأستاذ أحمد أمين

صخري الوجه، صلب الجبين، لم يعرف يوماً حمرة الخجل، ولا برقع الحياء، لا يتوقى شيئاً، ولا يبالي ما يقول

إن كان لكل الناس وجه ولون ولسان، فلهذا المخلوق أوجه وألسنة وألوان

هو صديقك وعدوك حسب الظروف الخارجية، لا حسب ما يصدر منك، وهو مادحك وذامك حسب ما يدور في المجلس، لا حسب رأيه، وهو عابس لك يوماً باسم يوماً حسب ما يقدر هو أنه في مصلحته، لا حسب ما تستحق أنت منه

له حاسة زائدة عن حواس الناس الخمس هي سر نجاحه، ولهذه الحاسة خصائص: فهو يدرك بها أي نوع من الوزارات ستتولى الحكم ليحول نفسه على وفقها، وليتهجم لأعدائها، ويتقرب من أحبابها؛ ويشم بها مواطن المال في كل ظرف، ويرى بها من يجلب له النفع، ويؤقلم وفق ذلك نفسه، فيتشكل بأشكال في منتهى الظرف والطلاوة، فإذا عدوه اللدود بالأمس صديقه الحميم اليوم

ويعرف بها - في مهارة عجيبة - موضع الضعف من كل إنسان يهمه، فأن كان يعبد النساء حدثه أعذب الحديث في النساء والجمال وحسن الشكل، وبدع المحاسن، وجمال الملامح، وأستعرض نساء الفرنج، وأية حوراء العينين، كحلاء الجفون، ساجية الطرف، فاترة اللحظ، وأية أسيلة الخد، ممشوقة القد، وأية بيضاء اللون، شقراء الشعر، زرقاء العين. وأية سوداء العين، سمراء اللون سوداء الشعر. وأية ممتلئة البدن؛ ضخمة الخلق، شبعى الوشاح، وأية دقيقة الشبح نحيلة الظل مرهفة الجسم، وتفنن في ذلك ما شاء أن يتفنن حتى يملك لبه، ويستعبد عقله، فإذا هو طوع بنانه ومستودع أسراره

وإن كان سكيراً حدثه الحديث الممتع في الشرب والشراب، والكؤوس والأكواب وآداب النديم، وروى له أحسن الشعر في الخمر وحدثه عما يمزج ومالا يمزج، وخير الخمور ومواردها وتواريخها وما يلذ صبوحا وما يلذ غبوقا - وتعرف ما يستحسنه صاحبه فأفرط في مدحه وادعى الإعجاب به، وأنه لا يفضل عليه غيره، وأن ذوقه من ذوقه وشرابه من شرابه ومزاجه من مزاجه، وأسكره من حديثه كما أسكره من كأسه، فإذا هما صديقان وثقت بينهما الكأس والطاس

وأن كان شرها في المال حدثه عن الضياع ومحاسن الأراضي وكيفية استغلالها، والعمارات وجبايتها، ووازن بين أنواع العقار وكم في المائة يمكن أن تغل، وأعانه في مشاكله وبذل له كل أنواع معونته، فوجد فيه صديقه النافع وخليله المواتي

وهدته حاسته هذه أن يعمد إلى عدد من الرؤوس الكبار ذوي النفوذ فينصب لهم حبالته، ويوقعهم في شبكته، بما يبذر من حب ذي أشكال وألوان، فإذا تم له ذلك خضع له الصغار من تلقاء أنفسهم وطوع أرادتهم، وضرب لهم مثلاً بقضاء حوائج لبعضهم ما كانت تقضى من غيره، فهو مقصد جميعهم ومحط آمالهم وموضع الرجاء منهم، يعملون كلهم في خدمته على أمل أن ينالوا شيئاً من جاهه، فإذا هو سيد على الصغار والكبار، وإذا هو عظيم حيث كان، يقابل بالإجلال والإعظام، ويملق من أتباعه وإخوانه، ويحسب حسابه في دائرته وأوسع من دائرته

إلى جانب هذه الحقائق القليلة قدر كبير من التهويش، فهو يزعم أنه في كل ليلة جليس الكبراء والوزراء، كم يتغزلون فيه ويطلبون القرب منه وهو يتأبى عليهم، ويبتعد عنهم، وهو لو شاء لكفت إشارة منه لأن يرفع من شاء في أعلى عليين، ويخفض من شاء إلى أسفل سافلين - الوزارات في يده، ومصالح الحكومة في إصبعه - والإنجليز يخشون بأسه، والفرنسيون يقضون مصالحهم على يده - وبريده كل يوم من خارج القطر ينوء السعاة بحمله، ثم لا أدري كيف اتصل بالجرائد فهي تشيد دائماً بذكره، فإذا تحرك حركة أعلنتها على الناس كما تذاع حركات الملوك، فهو مسافر إلى الإسكندرية، وقادم من الإسكندرية، ومبحر إلى أوربا، ومنتقل في عواصم البلدان، وعائد إلى مصر بعد أن رفع شأنها، أعلى مكانها، حتى لم يبق إلا أن تخبرنا ماذا أفطر، وكيف أفطر، وفي أي ساعة تناول غداءه، وماذا كانت أصنافه، وهل غفا قليلا إلى زوجه وأولاده

وهو يستغل هذا كله في قضاء مصالحه، فطلباته ناجزه نافذة، والمستحيل لغيره جائز له، والأموال تكال له كيلا، والهدايا تنهال عليه انهيالا، وه مع كل ذلك لا يشبع، كلما نال مطلبا تفتحت له مطالب، فهو في طلب دائم، ومن بيدهم الأمور في إجابة دائمة، حتى ليوشك - إذ لم يتعود الرفض - أن يطلب النجوم تزين غرفته، والسحاب يمطر في الصيف حديقته، والحر والبرد يتأدبان في حضرته، والشمس تكسف لطلعته

ومن غريب أمر الناس فيه أنهم يكرهونه من أعماق نفوسهم، ويمقتونه من صميم قلوبهم، ويرون فيه السخافة مركزة، واللؤم مجمعاً فإذا لقوه فترحيب وتهليل، وإعضام وملق، يبسطون ألسنتهم فيه بالسوء غائباً، ويبطنون في مدحه حاضرا، فهو معذور إذ يشعر أن الناس مجمعه على حبه، حتى ليخشى عليهم أن يموتوا به غراما أو يُجَنُّوا به هياما، شهدته مرة وقد أتى عملا شنيعا حتى كان مضغة الأفواه ومعرة القوم، وظننت الناس إن رأوه ازدروه - على الأقل - بعيونهم، وكلموه ببعض شفاههم، واستهانوا بمقدمه، وأقل ما يفعلونه ألا يحلفوا به، وليأبهوا بمقدمه، فما كان أشد عجبي أن رأيتهم - إذ حضر - قد انتفضوا من أماكنهم، وأفسحوا له مجالسهم، وأجلّوا شأنه، واعظموا ورفعوا منزلته فوق من يقدرون فضله ويجلون خلقه

فهو - حتى في هذا - ينتفع بإعظامهم وإجلالهم، ولا يضره كرههم الذي لا يعدو قلوبهم - فكرهم لأنفسهم، وإعظامهم له، وماذا يضيره كرهٌ محتقن وخير منه حب مصطنع، وماذا يضيره سب صادق في إسرار، وخير منه مدح كاذب في إعلان؟ لاشك أنه في كل ذلك ناجح حتى في الكرة والذم

قال صاحبي: وهل تعد ذلك نجاحا؟ لو كان النجاح بقضاء المصالح والأغراض والحصول على المال فحسب، لعددنا السارق يجيد السرقة ويفلت من العقوبة ناجحاً، ولكان أنجح الناس من حصل على المال من أقرب الوجوه ولو كان من أخسها - إن هذا الذي ذكرت قد كسب المال وخسر الشرف، حييت مطامعه ومات ضميره، وخدم من يظنهم كبراء أو عظماء بضعة نفسه ومت حسه، بأي مقياس أخلاقي قسته لم تجده شيئاً، إن قسته بمقياس الفضيلة الباتة الحاسمة لم تجده سعيداً، إنه يتمتع ويأكل كما تأكل الأنعام، فان كان الحمار أو الخنزير سعيداً سعيد، وأين منه لذة ذي الضمير الحي ينعم بمواقف الشرف والنبل، ويلذهما لذة لا تعدلها ما ذكرت من مال وجاه؛ إن الرجل الفاضل سعيد حتى في آلامه لأنها آلام لذيذة خصبة، هي كالنار تنضج النفس ولا تحرقها، أما لذة صاحبك فسم في دسم، ونار تحرق ولا تنضج - وبعد قليل من حياته يفقد حتى لذة المال والجاه، وتصبح لذتهما كلذة من يتناول الحلوى صباح مساء تتهوّعُ نفسه وتتقبض شهيته - فان اللذة الباقية الدائمة هي لذة الروح لا الجسم، ومن عجيب أمر الروح أن لذتها لذة صافية، وألمها ألم مشوب بلذة، ثم لذة هذا المخلوق لذة مشروطة بشروط، فهو يعتقد أن لذته مرتبطة ببقاء صاحبه في الوزارة، وصديقه في الوكالة، وحميمه في منصبه، لأن قيمته ذاتية، ونجاح مثل هذا في أمة عنوان فشلها وسوء تقديرها، وضعف الرأي العام فيها - وهو مثل سيئ يشجع البذور السيئة على النماء والبذور الصالحة على الخفاء - قد يكون هذا المثل في كل أمة، ولكنه في الأمة الصالحة نادر، ويحتاج في نجاحه إلى كثير من الطلاء حتى يخدع الناس ويوهمهم بصلاحه. أما أن يجرؤ ويظهر بمظهره الحقيقي ثم ينجح فذلك فساد الأمة وسبه الدهر

قلت: ربما كان ما تقول صحيحاً فدعني أفكر

أحمد أمين