مجلة الرسالة/العدد 15/بين النيل والاكروبول
→ ../ | مجلة الرسالة - العدد 15 بين النيل والاكروبول [[مؤلف:|]] |
لغو الصيف ← |
بتاريخ: 15 - 08 - 1933 |
إلى الشباب أسوق الحديث
رحلت إلى بعض بلاد الغرب وإلى بعض أمم الشرق فلم أجد شعبا كهذا الشعب هان وجوده على نفسه، وأنطمس تاريخه في ذهنه، فأعطى الضيم عن يد وهو صابر!!
أسرف في اللين حتى رمي بالجبن، وأمعن في التسامح حتى وصف بالبلادة، وأفرط في التواضع حتى نسى الأنفة، وبالغ في إكرام الغريب حتى أصبح هو الغريب!!
فليت شعري يا ابن العرب أو يا سليل الفراعين من أين داهمتك هذه الذلة؟!
نسب يزحم النجوم، وحسب يَطُول الدر، وماض كالشمس نفذ إلى كل أرض وسطع في كل أفق، وواد كرفرف الخلد زخر بالغنى وفاض بالنعم! فكيف لا يرفع رأسك هذا النسب، ولا ينصب صدرك هذا الماضي؟
مالك تمشي في أرضك خافت الصوت، خافض الجناح، ضارع الجنب، كأن النيل يجري لغيرك، وكأنما الآثار تتحدث إلى سواك؟!
لقد أصبحت في بلدك المنكود تحيا حياة الجسم كما يحيا الأجير والخادم، أما حياة الروح التي ينبض فيها القلب بعزة القومية وصلف الوطنية، فقد أماتها فيك الوباء الوافد من كل مكان!
إن إخوانك في سورية لا يحبون الغريب إلا صيفا، وان إخوانك في العراق لا يكرمون الأجنبي إلا ضيفا، أما الدود الذي يمتص الدم ويقذي العيون ويغثى النفوس فلا يجد مغذاه ومرواه إلا على النيل!! وليت الذي قاسمنا أنعُمَ الوادي الحبيب يذكر فضيلة الإحسان، ويشكر عطف الإنسان على الإنسان!! إنما يتمتع بخيرنا تمتع الغازي الفاتح، في يمناه سيفه، وفي يسراه قانونه، فإذا عاملناه احتقرنا، وإذا عاتبناه انتهزنا، وإذا ضج المغبون، أو صاح المسروق، أو صرخ الجائع، ضربه (الخواجة) ضربته، ثم استعدى عليه دولته!!
في أي بلد من بلاد العالم اليوم يأتي محام أجنبي، ليدافع عن مجرم من جنسه أجرم على هذا البلد، فيجد له القضاء في قلب قضاء هذا البلد، وقانوناً بجانب قانون هذا البلد، وقوة فوق قوة هذا البلد، ثم يقوم بين يدي قضاة من جنسه فيقول في بلاغة ديمستين وحماسة مَنْ، لا أدري: (أظهروا أيها السادة أنكم قضاة تنشقون هواء الأكروبول، وانكم لا تخوضون في ماء النيل العكر)
معك الحق كله يامتر بابا كوس! لقد تركت أثينا في اليونان ثم عبرت البحر فوجدت أثينا في مصر!! فالفنادق للروم، والمطاعم للروم، والمقاهي للروم، والمواخير للروم، ودور السينما للروم، وقاضيك من الروم، وجانيك من الروم، وبقالك من الروم، وحلاقك من الروم، وخادمك من الروم! وإذا طلبت الماء، أو أردت الكهرباء، أو ركبت الترام، أو دخلت البنك، أو قصدت المتجر، وجدت كل ذلك في أيدي أقوام سحنتهم غير مصرية، ولغتهم غير عربية!! فإذا سألت (مخالي) عن المصريين قال لك أنهم أجراء عند (خريمي) في المزرعة، أو سكارى عند (يني) في البار!! معك الحق كله يامتر بابا كوس أن تهين شعبا يسمع إهانته في كل يوم وفي كل مكان فيغضي ثم يمضي! وأي إهانة آلم وأشنع من (الامتيازات) وهي طعن في إنسانيته وقدح في كفايته وتجريح لعدله!! ولكن الحق يبرأ منك حين تقول وأنت وريث أرسطو ومِدْرَهُ أثينا إنك لم تقصد بهذه الجملة إهانة مصر، وإنما هي: (عبارة من عبارات البلاغة التي يستعملها المتكلم عادة) فلسنا من البلاهة بحيث يخدعنا عن جد الجريمة هزل الاعتذار!!
رحم الله أستاذنا المهدي! لقد كان يرى الرجل المتمدن يرمي الرجل المتمدن بالكلمة العوراء يندى لها جبينه، ويغلي منها دمه، فما هو إلا أن يقول الشاتم المتمدن للمشتوم المتمدن (سحبتُها) حتى يجف عرق الجبين، ويكف غليان الدم! فيقول الأستاذ بلهجته العربية:
(عجيب!! كلمة قيلت كيف تُسحَبْ! ولطمة أصابت كيف تُسترد؟!)
لا نريد من شبابنا أن يدفعوا البغي بالبغي، وإنما نريد منهم أن يفهموا الواغلين أن كدر النيل ليس من أهله، وأن الطريق الذي يسفي عليه الغبار والأقذار هو الطريق الذي فتحه لهم الاقتصاد المستعمر، فإذا ملناه ونظفناه عادت إلى نيلنا نقاوته، وإلى شعبنا كرامته
ليس على الأجنبي من حرج في أن يزاحمك في بلدك، فإنما جهاد الدنيا زحمة، وهو حين ينافسك ينافسك في حمى القانون، ويغالبك في حدود الطبيعة، وإنما الحرج كله عليك إذا ظللت تشتري وهو يبيع، وتغرم وهو يغنم!!
نضَّر الله الشباب العاملين!! لقد أخذوا يَجْلون عن وجه مصر الجميل غيرة القرون وذلة الأحداث وإهانة الدخيل! نزلوا ميدان الاقتصاد جنودا متطوعين، وعمالا متواضعين، فعرفوا أين تكون المعركة الفاصلة بين الاستعباد والحرية، وبين الاستعمار والحق، وشقوا الطريق القاصد إلى إنقاذ مصر من احتلال دولي شديد الخطر قبيح الأثر لإتكائه على العدل واعتماده على القانون
إن (عيد الوطن الاقتصادي) و (مشروع القرى) و (تعاون الشباب) و (تعاون الطلبة) و (جماعة تمصير مصر) وشركات الدخان والألبان والإعلان والجزارة والمقاهي. . . فتح مبين في جهاد مصر الفتاة، وإن تَحَلَل الشباب المثقفين من ربقة التقاليد وإسار العرف فلا يرون غضاضة في أن يقيموا المشارب والقهوات في مولد النبي ومولد الحسين يكونون فيها الطهاة والباعة والنُّدُل والمديرين، لهو تحلل لحاضر الطموح الناهض، من قيود الماضي القنوع العاجز. وليس على أولئك الشيوخ الذين مكنوا بجمودهم وقعودهم للأجنبي فطغى بيده، وبغي بلسانه، إلا أن يطووا معهم هذه الصفحة المخزية من تاريخ مصر، ويتركوا الشباب يجدد ما بلى، ويدعم ما وهى، ويسد ما خلَّ
إن شطط المبشرين قد انقلب إلى تبشير بالإسلام ودعاية إلى المؤسسات الخيرية، فهل تنقلب سفاهة (الممتازين) إلى إعزاز القومية المصرية، وتحقيق الأماني الوطنية؟؟
احمد حسن الزيات