الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 15/احساساتي

مجلة الرسالة/العدد 15/احساساتي

بتاريخ: 15 - 08 - 1933


للشاعر الفيلسوف جميل صدقي الزهاوي

قال الأستاذ حفظه الله من كتاب خاص:

نزلت قبل أسبوعين تقريباً من السيارة عند باب السوق. أريد مقابلة أحد الكتبيين فسقطت مغمى عليّ، فحملوني في عربة إلى داري. وبعد انتباهي قلت لعل يومي قد أقترب، ونظمت قصيدة (حساساتي) ورجحت نشرها في رسالتك الغراء.

قد أنَى يا منيتي أن تعودي ... بي إلى حيث كنتُ قبل وجودي

حيث لا أقتني شعوراً يُريني ... كيف أدنو للفوز بالمقصود

حيث لا نبض في عروقي ولا ضر ... بُ لقلبي ولا حراك لعُودي

هوِّني يا نفس فعلّكِ تستطي ... عين عن هوة الردى أن تحيدي

ليت أن الحياة ترجع في يو ... م إلى جسم الميِّت الملحود

ليس من هنا الموت يا نفسُ بدُّ ... فهو للناس من تراث الجدود

يا أمانيّ فارقيني ويا نف ... سُ وداعاً ويا حُشاشةُ جودي

بعد أيام قد تقاربن مني ... أنا يا نفسي وداعاً لا محالة مودي

وسواء عليّ من بعد موتي ... أن تبيدي معي وألا تبيدي

وسواء أكنتُ أحيا سعيداً ... قبل موتي أم لم أكن بسعيدِ

وإذا كنتِ لا تبيدين، نفسي ... تبعاً لي فأستبشري بالخلود

وإذا الشيخ بات يشكو الوَنَى وال ... وهن فالموت عنه غيرُ بعيدِ

سيقولون شاعر غاب في اللح ... د وكم غاب مثله في اللحود

لا تخافي عليَّ فالموت سهل ... لا كما ينعتونه بشديدِ

لا تخافي، فالموت ليس على الأر ... ض ولا في سمائها بجديد

سبقتني إلى المقابر موتي ... أنا في الراحلين غيرُ وحيد

من قضى نحبه فنام بقبر ... لا يبالي طول الليالي السود

غير أني ما سئمت حياتي ... وهبوطي وهادَها وصعودي

فأرى راحة بقبري وان نا ... لت على وجه الأرض مني جهود أننا، والفراق صعب، سننقض ... إلى غير ملتقى وشهود

جمع الدهر حقبة شملنا ث ... م رمته يداه بالتبديد

ما بلغنا من اللبانات يا نف ... سي سوى النزر بعد جهد جهيدِ

أنت يا (ليلى) كنت ماثلة لي ... كلَّ يوم في يقظتي وهجودي

أنا ماض إلى لقاء المنايا ... بخُطىً ليس مشيها بوئيد

عانقيني قبل النوى لوداعي ... وضعي الجيد ساعة فوق جيدي

وانظريني بأعين باكيات ... ترسل الدمع مثل دُر نضيد

لهف نفسي على صُبابة عيش ... هو لولاك لم يكن برغيدِ

أبِّنيني يا نفس فوق ضريحي ... بقواف رقيقة وأعيدي

غن لي يا هزار أغنية النو ... م على قبري كي يطيب رقودي

ولعلَّ الصبا تمر رخاءً ... فوق ملحودتي فتنعش عودي

لستُ أدري أللفناء سنمضي ... بعد ما قد نموت أم للخلود؟

حبذا لو حظيت من بعد موتي ... بحياتي التي انتهت من جديد

أنني في شك وان ملأ واسم ... عي بوعدٍ يروونه ووعيد

لا تثق بالجمهور يا عقل يوما ... أن رأي الجمهور غير سديد

ولعلي رجوت ما ليس يرجى ... ولعلي حمدت غيرَ حميد

بعد نومي على فراشٍ وثيرٍ ... عن قريب أنام في أخدودِ

لا أنيس ولا نسيم ولا نو ... رٌ يزيل الظلام من ملحودي

آه يا نفس إن ذلك سهل ... لو نسينا ما فيه من تجريد

يوم لا نبصر الربيع ولا نص ... غي لأنغام البلبل الغرِّيد

شاعر الروض يرسل الشدو شجواً ... جاثماً فوق ناعم أملود ِ

يوم لا تطلع النجوم علينا ... باسمات من السماء كخُودٍ

يوم لا يسفر الصباح لنا من ... جانب الشرق قائماً كعمود ٍ

يوم أيدي الردى تجردني من ... كل مالي من طارفٍ وتليدِ

أنا يا صحبي واحدٌ كنت منكم ... فاذكروني ولا تنسَوا عهودي أنا في قبري اليوم عنكم بعيدٌ ... وأنا عنكم فيه غير بعيدِ

خير قبرٍ يسقى تراب حفيري ... هو يا صحبي عبرةٌ من ودودِ

وإذا كان للفقيد بقلبٍ ... خافقٍ مثوى، فهو غير فقيدِ

ولعل البكاء غير ' مُسلٍ ... ولعل البكاء غير مفيدِ

تأكل الأرض كل حيٍّ فلا تُب ... قي على والدٍ ولا مولودِ

اسألوها هل امتلأت تقل من ... شرهِ في الجواب، هل من مزيد؟

أممٌ كلها تبيد فتأتي ... أممٌ أخرى بعدها للبيود

سوف يقفو ركب إلى الموتِ ركباً ... ثم لا أشدو خلفه بنشيدي

إنني إن أهلِك فَمنْ لقريضي ... يتغنى به ومن لقصيدي؟

حشروني والجامدين، على ما ... أخذوا من آبائهم، في صعيد

إنني منذ كنت أشدو بشعري ... كان يُوحي إليَّ بالتجديد

أنا لا أدعي الزعامة فيه ... غير أني أبث فيه وجودي

قلت شعراً فكاد يأكلُ لمّا ... سمعوه كالنار قلب الحسودِ

فدَعوني مقلداً ينظم الشع ... ر كما كان في زمان الرشيدِ

كذبوا أنني إلى اليوم ما قلد ... ت غيري، مالي وللتقليد؟

حبذا الليل والنهار بعيني ... إنني مغرم بكلِ جديدِ

وجديد القريض قرب ' معاني ... هـ وبعدٌ له عن التعقيد

وشعورٌ كأنه فلق الصب ... ح إذا فاض ضوءه من بعيدِ

لا تُرد للشعور مني حداً ... فهو شيء يسمو عن التحديد

حبذا النقد لم يكن حين يغزو ... نائلاً من كرامة المنقودِ

لا أغالي، فربما قلت شعراً ... لم أكن في قرضي له بالمًجيد

ليس في الأرض شاعر قد نجا في ... كل ما قاله من التفنيد

منه بكر يطري، ومنه عوان ... لم تحن رتية الكعاب الخريد

قلته لاهياً به في شبابي ... من هموم الهوى وبرح الصدود

يومَ للغيد كنت أصبو ومن ذا ... ليس يصبو إلى الحسان الغيد؟ ثم أرهفتُه فكان سلاحي ... ثم غنيتُه فكان نشيدي

ثم صيّرته مِجَنّاً يقيني ... في (فَروقٍ) من شرّ عبد الحميد

ثم أودعته حقائق تسمو ... فأتى جامعاً لكل مفيدِ

حِكَمٌ تهدم التقاليد قد كا ... نت تُراعي من أهلها للجمود

عاب في الروض العندليب غراب ... قائلاً صه فأنت غير مجيد

فمضى العندليب في شدوه غي ... ر مبالٍ بقول ذاك البليد

قائلاً ليس للغراب بروض ... زهرُه الغضُّ باسم أغرودي

أنا للورد قد تفتَّح أشدو ... فهو إن أصغى تم لي مقصودي

يمّمي يا نفسي السماء فاني ... لا أرى في الثرى طريق الخلود

هي ممتدة لغير تناه ... وهي منبثَّة لغير حدود

اهتدي بالشعرَى وبعد خفاهاً ... من بياض للفرقدين استفيدي

إنما خشيتي ضلالُك في تل ... ك المحاني الكثيرة التجعيد

لا تهابي فلستِ أول روح ... وَغَلت في هذا الفضاء المديد

لا تهابي فأنتِ يا نفس بعدي ... مثل صمصامٍ ليس بالمغمود

ربما جاءوا يمنعونك فيها عن ... وصول إلى المقام الحميدِ

أنهم قد يثبطونك عنه ... بشهاب يلقونه من بعيدِ

فاصدميهم بما لديك من القوة ... في صولة الكَمَيِّ العنيد

وإذا ما قسوا عليك فلاقي ... هم بقلب أقسى من الجلمودِ

وإذا ما والوك ِفيها فوالي ... وإذا ما عدوا عليك فذودي

ولقد كان الحق في كل جيل ... ضائعاً بين سائد ومسود

إن تلك السماء كالأرض هذي ... حومةُ تدمى للكفاح الشديد

لا يخيفنّك اللقاء بحرب ... هي بالنار تلتظي والحديد

أنتِ حاربتِ للتحرر أعوا ... ماً طوالاً فحاربي من جديد

أنتِ في الأرض ما تطأطات حتى ... تخضعي في السماء أو تستفيدي

إنما أنت للتمرد لا لل ... خسف والرسف في ثقال القيودِ وإذا ما لاقيت سداً منيعاً ... فأخرقيه بجرأة الصنديدِ

أسرعي واجتازي عوالم تحشو ... سُدُماً قد أسرفن في التحشيد

مسرعات إلى التوسع لا ير ... ضين ألا أخذ المكان البعيدِ

ليست الطالعاتُ يفجأن، الا ... رُسلاً جئن من وراء الوجود

إنما مستقر قافلة الأر ... واح في غير العالم المشهود

للذي يبتغي الولوج جريئاً ... ليس باب السماء بالمسدودِ

أنت روح ترقى إلى حيث شاءت ... لا حجاب لها عن التصعيد

لا تخافي هلكاً من الضرب فيها ... أنت روح والروح ليس بمودِ

إنما العز من نصيب الذي يج ... رأ والذل حصة الرِّعديدِ

أنتِ إن تعزمي يَهُنْ كلُّ صعبٍ ... لا ينال المرادَ غيرُ المُريدِ

أحمد البارئ الذي يتساوى ... عنده أيماني به وجحودي

قيل أن الشهيد يحيا لدى الر ... بِ فمن ذا في الأرض غير شهيد؟

إنما هذه حقائق صرَّحْ ... تُ بها صادعاً بلا تمهيدِ

فأسمعيها ولا تبوحي بها لل ... ملأ الأعلى حول عرش المجيدِ

كلنا مؤمن يسبّح للرح ... من في ظل عرشه الممدودِ

إنني ما سجدت يوماً لغير ال ... له فالله وحده معبودي

اسألي الله أن يخفف سجني ... في حفيري وأن يفك قيودي

وسلامٌ عليك يوم فراقي ... وسلامٌ عليّ يوم همودي