مجلة الرسالة/العدد 149/لعبرة في وفاة الملك
→ الأدب بين الخاصة والعامة | مجلة الرسالة - العدد 149 لعبرة في وفاة الملك [[مؤلف:|]] |
الحياة الأدبية في الحجاز ← |
بتاريخ: 11 - 05 - 1936 |
ديمقراطية الموت
للأستاذ محمود غنيم
الموت آية، ولكن موت الملوك آية كبرى؛ والموت عظة، ولكن موت الملوك عظة بالغة
بالأمس تهجم الموت على ذلك الحرم المقدس، واقتحم أسوار هذا الحصن المنيع الذي تغضى العيون حياء من مهابته، ولا تلجه الشمس إلا بعد استئذان؛ اقتحم الموت بلاط ابن إسماعيل، وحفيد إبراهيم، والجالس على عرش فرعون، فلم يحدِّد للزيارة ميعاداً، أو لم يحدَّد له ميعاد، ولم يلزم الباب حتى يُسمح له بالدخول كما تقضي المراسيم عند زيارة الملوك، ثم مد يده في أناة ورفق، بل في عنف وقسوة، فسل روح الملك من جسمه، كما تُسل كل روح من كل جسم، ثم انصرف هادئاً مطمئناً، كأن لم يفعل شيئاً، فإذا الحرس واجم، والسلاح كليل، والطب يطرق حياء، وجبين العلم يتصبب عرقاً، وإذا الشرارة تنطلق في القصر، فيندلع لهيبها في مصر، ويسمع دويها في الخافقين!
يا لله! أيمرض فؤاد كما يمرض أي فرد ممن يظلمهم عرش فؤاد؟ كنا نظن عرشه حمى تتحاماه الأسد، وتتقيه عوادي الدهر، فما بال جراثيم المرض تنفذ إلى ذلك الحمى، وما بال ميكروباته تتسرب إليه، وما بال أهون خلق الله شأناً يفتك بأعظم خلقه شأناً؟ حقاً إنه الموت! ديموقراطي، لا يميز بين الملوك والسوقة، ولا يدين بالفروق بين الطبقات
يمرض الفقير، فيرمى أهله بالتقصير؛ يقولون: تهاونوا فاستفحل الداء، أو أساءوا اختيار الأطباء، فما بال الملوك يتقلبون على فراش المرض، ويقاسون ألم النزع، ويتجرعون كأس الحمام؟
أيها البرق، توعك مزاج الملك فطير الأنباء. أيتها الطيارات، احملي من مختلف الأصقاع نطس الأطباء. أيها العلم هات أحدث ما تمخضت عنه معامل الكيمياء. وأنت أيها الموت ما لك جامداً في مكانك لا تريم، هازا كتفيك استخفافاً، مفتر الثغر عن ابتسامة مروعة، تسرح طرفك بين هؤلاء وهؤلاء، في سخرية واستهزاء؟
أهكذا يُفعل بالملوك؟ لك العزاء والسلوة أيها الفقير! ليس المرض وقفاً عليك، وليس الموت وقفاً عليك. إنك لا تتعذب وحدك أيها المسكين، ولكن الملوك أيضاً يتعذبون! الملوك الذين تنظر إليهم نظرة التقديس، وتخلع عليهم ثوب الألوهية، وتغبطهم في يقظتك، وتحلم بنعيمهم في منامك، والذين تعتبرهم مثلك الأعلى، وتعتقد أن الخطوب لا ترقى إليهم، وأن لهم عيشاً أنعم من الحرير وألين من الماء: هؤلاء يمرضون أيضاً ويموتون، ولعلهم في عيشهم محسودون بما هم منه يبكون!
هذا هو ابن إسماعيل، وحفيد إبراهيم، تُستأصل نواجذه بلا مخدر، فيحتمل راضياً أو كارهاً تعلقا بالحياة؛ وتُشق لثته ثم تخاط بلا مخدر، فيحتمل راضاً أو كارها تعلقا بالحياة؛ وتُحرّم عليه الأسرة، فينطرح على كرسيه ثم ينام أو لا ينام، فيحتمل راضياً أو كارها تعلقا بالحياة؛ وأخيرا هاهي ذي الحياة، تتدلل تدلل الهيفاء، وتجفو فتسرف في الجفاء. وهاهو ذا شبح الموت يقتحم البلاط، رغم كل احتياط!
ماذا تقول النشرات الطبية؟ - القيح! التعفن! التسمم! أسماء تتداولها ألسنة العامة، وكأننا كنا نخالها وقفاً على أبدانهم، وما كنا نظن أنها تعرف الطريق إلى ذوات الملوك، ذوات الملوك المصونين عن العبث، الموضوعين فوق القوانين، الذين لا تنالهم الألسن إلا بالهتاف، ولا الأفواه إلا باللثم، ولا تطأ الشفاهَ أسماؤهم إلا همسا، ولا تنالهم الأيدي إلا بالسلام إيماءً من بعيد؛ في هذه الذوات المقدسة تسري سموم الموت، وينشب أظفاره الموت، والموت ديمقراطي لا يميز بين الملوك والسوقة، ولا يدين بالفروق بين الطبقات
(لا أريد أن أموت) هكذا يقول الملك؛ والملك إذا قال فكلمته مرسوم نافذ، وإذا أشار فإشارته قانون محترم، وإذا أومأ فإيماءته أمر واجب الطاعة، ولكن الموت - قاتل الله الموت - لا يحسن الخضوع للمراسيم، ولا يعرف كيف ينفذ القانون، ولا ينحني أمام أوامر الملوك
مات الملك في الشرق وكان ابنه في الغرب، وقد فصل القضاء بين الاثنين ببحر وبرين، أليس من حق الراحل أن تكتحل برؤية ابنه عيناه قبل أن يفارق الحياة؟ أمنية يظفر بها المغمور الصعلوك، بله الأمراء والملوك؛ أمنية يظفر بها المحكوم عليه وهو من حبل المشنقة قاب قوسين، ولكن الملوك يتمنونها فلا يجدون إليها سبيلاً. إيه أيها الموت! هلا تريثت قليلا حتى يؤوب الغائب؟ إيه يا جنود سليمان! هلا حملت النازح البعيد على أجنحتك التي حملت عرش بلقيس؟ لا هذا ولا ذاك، إذن فليعتز الراحل العظيم، بكتاب ابنه الكريم، ولكن كتاب الولد البار لا يكاد يصل إلى الوالد الواقف على حافة الأبدية حتى يضن الموت أخيرا كما ضن أولا، وحتى ترتعش اليد رعشة الموت، فيتدحرج الخطاب، وينسدل بين البصر وبينه حجاب، ويلفظ القارئ نفسه الأخير، ويكون آخر ما قبضت عليه يمينه كتاب ابنه المحبوب، وآخر ما فاه به اسم ابنه المحبوب، وآخر ما انطبع في مخيلته صورة ابنه المحبوب
هاهو ذا الملك مسجى على سرير من ذهب لا يرد إليه الحياة، مغطى بأكفان من الحرير لا تخفف من خشونة الموت شيئاً؛ أمامه مباخر من عنبر لا تنفس من سكرة الردى! النعش هو النعش، حملته الأعناق، أم جرته الخيول العتاق؛ والقبر هو القبر من طين وماء، أو من مرمر ورخام، في صحراء جرداء، أو في جوف هرم من الأهرام. أطلقوا المدافع، ونظموا المواكب، وأعلنوا الحداد، ونكسوا الأعلام، فلن تغيروا من حقيقة الموت شيئا. الموت هو هو، ديموقراطي لا يميز بين الملوك والسوقة، ولا يدين بالفروق بين الطبقات
مات الملك فورث ولي عهده تاجا وصولجانا، ونهراً عذبا، ومملكة فيحاء، وأمة مطيعة مخلصة، ولكنه بجانب ذلك فقد عطف الأب البار، وحنان الوالد الرحيم؛ فليت شعري أخاسرة تلك الصفقة أم رابحة؟ وأية الكفتين هي الراجحة؟، لست أدري، ولكن الذي لاشك فيه أن كل شيء يمضي ويعود، حتى العروش والتيجان، ولكن الميت لا يعود، وأن الملك الجديد لو بذل عرشه في سبيل نظرة من أبيه أو كلمة يسمعها من فيه ما سمح الموت، لأن الموت ديموقراطي لا يميز بين الملوك والسوقة ولا يدين بالفروق بين الطبقات
هكذا تتساوى الرؤوس عند الموت بالرؤوس، أو تتساوى الرؤوس بالأذناب، كما تساوت الرؤوس بالرؤوس، أو الرؤوس بالأذناب عند انحدارها من الأصلاب، الكل من التراب، والكل إلى التراب. وما لي لا أذهب إلى أبعد من ذلك، فأزعم لك أن الناس كما يستوون في طرفي الحياة، يستوون في الحياة؛ وأزعم أن في الحياة نصيباً مشتركا من السعادة، وآخر من الشقاء، كل الناس فيهما سواء. وما دام كل إنسان لا يقنع بما هو فيه، بل يمتد نظره إلى أبعد منه، ويتمنى على دهره الأماني، فيبسط له الدهر إحدى يديه، ويقبض الأخرى، فلا يقنع الإنسان عند البسط، ولا ييأس عند القبض، فهو أبدا آمل، كادح، مخفق، ناجح؛ أقول مادام أنه لا سبيل إلى الكمال المطلق، إما لأنه غير موجود، أو لاستحالة الوصول إليه، فالناس في الحقيقة سواء، وما اختلافهم في الجاه والمال والمراكز الاجتماعية إلا أمور اعتبارية
لا أستطيع أن أعرف السعادة ما هي، غير أن الذي لا أشك فيه أنها ليست المال وحده، وليست الجاه وحده، وليست الجمال وحده، قد تكون مزيجاً من ذلك كله، وقد تكون غير ذلك كله، وقد يكون الألم جزءاً من ماهية السعادة، أو شرطا من شروطها، وإذا كان الأمر كذلك، فكيف تستطيع أن تضع الفوارق بين السعادة والشقاء، أو تومئ بإصبعك إلى شخص معين فتقول: هذا شقي، وإلى سواه، فتقول: هذا سعيد
أيها الراحل العظيم، لقد تبوأت سرير الملك
في ساعة يذر الأسرة نحسبها ... مثل النجوم طوالعاً وأفولا
ولقد خلفت سرير الملك، وما تزال الجدود عاثرة، والأسرة متناثرة؛ ولكنك عشت ملكا، ومت ملكا. والآن قر في مضجعك، فلا قرار مع الحياة؛ والتمس في باطن الأرض الراحة التي خانتك على ظهرها. إن للملك لهما، وإن للشعوب من الأحمال الثقال، ما تنوء بحمله ظهور الرجال؛ وإن لك في جوار ربك لعوضاً أي عوض. أحسن الله عزاءنا فيك، وبارك لنا في خلفك المحبوب
كوم حمادة
محمود غنيم