الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 149/الملك أحمد فؤاد الأول

مجلة الرسالة/العدد 149/الملك أحمد فؤاد الأول

بتاريخ: 11 - 05 - 1936


كمسلمٍ وعالمٍ

للأستاذ عبد الله مخلص

عضو المجمع العلمي العربي

لما نعى الناعي المغفور له الملك أحمد فؤاد الأول عاهل مصر العظيم ملك الحزن على مشاعري وأخذ اليأس من نفسي كل مأخذ، لا لأني من الذين تربطهم به أو بملكته رابطة شخصية فيريد أن يفي بعض حقهما عليه، ولا لأني أبتغي من وراء اصطناع الأسى أجراً أو شكوراً، بل لأني من أولئك المسلمين الذين يقدرون مصر الإسلامية حق قدرها ويعتبرونها اليوم أم البلاد وقبة الإسلام ومنبثق النور وبلد العلم في العالم العربي، وأن المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها مدينون لها ولمسجدها الأزهر منذ ألف عام فهم يستنيرون بنورهما ويستهدون بهديهما، ولذلك يرون لزاماً عليهم أن يعنوا بشؤون مصر ومصيرها وأن يشاركوها في سرائها وضرائها، ولأني بدافع من هذه الدوافع الكثيرة من الذين سمعوا وعرفوا من خلال الملك الراحل وخصاله الغر الميامين ما يستحق الإجلال والإكبار من الناحيتين الإسلامية والعلمية فلم أتمالك عن كَتْب هذه السطور التي هي نفثة مصدور فأقول:

الملك أحمد فؤاد كمسلم

منذ نصف قرون ونيف والإسلام تتجاذبه عوامل الأخذ والرد بسبب هذه الثقافة الجديدة التي يظن حملتها أن لا بأس من إدخال التطور في جميع مناحي الحياة حتى فيما يتعلق بالعقائد والأديان والعرف والعادة حتى رأينا من بعض الأمم الإسلامية بعض الشذوذ تحت ستار التمدين فصار الإلحاد مدنية ونبذ العقيدة رقياً، وأخذنا نسمع بما لم نألفه من نظريات علمية هدامة تنكر الله والرسل وسارت بعض الأمم شوطاً في هذا المضمار الشائك الذي سينتهي بها حتما إلى الهاوية وبئس المصير

في مثل هذا الحوائق اعتلى عرش مصر الملك المرحوم فلم تبطره بهرجة الملك، ولم تؤثر على عقيدته تلك النزعات والنزغات بل ظلّ على إسلامه الصحيح وعقله الرجي وإذا اعتبرنا أنه رحمه الله تعالى قضى أيام شبابه في بيئةٍ أجنبية أيام دراسته في معاهد الغرب الكبرى التي لا تمت إلى الإسلام بصلة فإن بقاءه مستمسكاً بعروة دينه محتفظاً بيقينه كان من نعم الله عليه وحجته على قوة إرادته

وإن ننس فلن ننسى له المحافظة على زيه الشرقي في عواصم الغرب بينا نرى بعض ملوك المسلمين وأقيالهم يقلدون الغربيين تقليداً أعمى حتى بلغ من بعض ملكاتهم النسج على منوال الملكات الغربيات والظهور بمظهر المدنيات الراقيات، وليس في ذلك من رقيٍّ ولا مدنية، بل فيه خروج على التقاليد واللياقة وطعن في صميم الكرامة وتبذّل غير محمود

فالملك فؤاد اقتعد الذروة في هذا الخلق الإسلامي الكريم وضرب مثلاً أعلى للمسلمين ملوكهم وسوقتهم

الملك أحمد فؤاد كعالم

لو أننا تركنا جميع مآثر الملك المرحوم العلمية جانباً واقتصرنا فقط على أثره الخالد وهو لا يزال في الإمارة نعني به الجامعة المصرية التي كان أول العاملين لها والحادبين عليها لكفاه شرفاً ونبلاً

فهذه الجامعة التي ترأسها وتعهدها وصرف من قوى نفسه ونفيسه على نموها وازدهارها هي مفخرة المفاخر بما قدمته لمصر من الخدم العلمية الجلىّ. وهانحن أولاء نرى ثمارها دانية القطوف على أيدي أساتذة جهابذة يخرجون لنا في كل عام مئات من الناشئين يملئون أرض الكنانة وبلاد العرب علماً وحكمة

والحق أن الجيل المصري الذي عاصر أيام حياة الملك المرحوم كان سعيد الحظ بما وجد أمامه من المسهلات والمشوقات والمرغبات العلمية الكثيرة

وأنا كرجلٍ يُعنى بالتاريخ الإسلامي أذكر للمليك الراحل عمله المشكور في تدوين تاريخ رسمي للدولة المصرية، فقد أمر رحمه الله تعالى بتأليف لجنة لهذا الغرض ووضع تاريخ يستخرج من الدفاتر والوثائق الرسمية، وكان صديقي المرحوم أحمد تيمور باشا من أعضاء هذه اللجنة، وهو الذي أعلمني بذلك في حينه

وكان من دواعي الغبطة للمؤرخين الإسلاميين ظهور مجموعة عزيزة المنال، تتضمن الأوامر الصادرة من حكام مصر إلى عامل الواحات من زمن الفاطميين إلى زمن الخديو إسماعيل رحمه الله تعالى، وهي الأوامر نفسها لا صورها

يقول المرحوم أحمد تيمور باشا في كتابه لي: (ولا أظنّ نظيراً لهذه المجموعة في الدنيا، وقد بحثت عن سبب حفظ هذه الأوامر جميعها كل هذه المدة في تلك الجهة النائية، فأخبرت أن العادة فيها من القديم أن يُحفظ كل ما يصدر من الحكام إلى عاملها في مكان خاص بالمحكمة الشرعية، وبها تيسر حفظها. وقد رأيت بها من توقيعات الملوك كالغوري وغيره الشيء الكثير، وكذلك توقيعات حكام الفرنسيس مدة احتلالهم لمصر وهي بالإفرنجية، ولكن الأوامر بالعربية. ولا أخفي عليكم أني متلهف إلى الآن إلى صورة شمسية من هذه المجموعة، ولكن (فيا دارها بالخيف). أهـ

إن من حسن توفيق الله ظهور هذه الوثائق الإسلامية على يدي المرحوم الملك، فلولا تفكيره في تدوين تاريخ رسمي للدولة المصرية لما استطعنا الوصول إليها، ولا الوقوف على تفكير أول قاض شرعي وضع الأساس في جمع هذه الوثائق والمستندات القيمة في تلك البلاد النائية البعيدة عن العمران المزورّة عن مدنية هذه الأيام

وأظن أن المساعي المتواصلة التي بذلت في شأن هذا التاريخ قد أنتجت نشر أجزائه الأولى باللغة الفرنسية وستتبعها النسخ التركية والإنكليزية والعربية طبعاً

إن مثل هذا الملك القوي العقيدة، الراسخ الإيمان، العالم العامل البعيد مدى التفكير، مما يُبكى عليه، ويُحزن لفقده. ولكن في خليفته وخلفه جلالة فاروق الأول خير عوض، وأحسن عزاء لنا، ورحم الله الشاعر العربي الذي قال في حالة تشبه حالتنا هذه:

هَناءٌ محا ذاك العزاء المقدما ... فما لبث المحزون حتى تبسما

ثغور ابتسامٍ في ثغور مدامعٍ ... شبيهان لا ينفكّ ذا الشبه منهما

عبد الله مخلص

عضو المجمع العلمي العربي