مجلة الرسالة/العدد 148/قصة المكروب
→ صور من القرن الثامن عشر | مجلة الرسالة - العدد 148 قصة المكروب [[مؤلف:|]] |
الإسلام والمدنية والعلم ← |
بتاريخ: 04 - 05 - 1936 |
كيف كشفه رجاله
ترجمة الدكتور أحمد زكي
الدفتريا
بين واجد سمها الفرنسي، وكاشف ترياقها الألماني
وصل الفائت: وجد لفلار مكروب الدفتريا، ووجد رو أن هذا
المكروب يحتل زور الطفل، ولا يخرج عنه، وإنما يفرز سما
يدور في الجسم فيقتل، وحقن بارنج مادة كيميائية هي كلورور
اليود في خنازير غينية. ثم حقن مكروب الداء فيها فصمدت
له. فأخذ من مصل دم هذه الخنازير المحصنة وحقن به
خنازير أخرى حقنها بعد ذلك بالمكروب فصمدت له. فعرف
أن هذا المصل الحصين يحتوي ترياقاً. فاتجه إلى الشياه يفعل
بها ما فعل في الأرانب ليحضر مقادير كبيرة من المصل
الواقي بترياقه
بهذا بلغ بارنج من بحثه حداً لا ينفع فيه التثبيط. فقد كان كأمير الجند غزا الأعداء فسفك وهزم، فملأته فتوحاته الأولى ثقة بنفسه. فلم يعد يثنيه عن بغيته شيء. فأخذ يضرب بمحاقنه في الأرانب والشياه والكلاب، وهي مليئة بمكروب الدفتريا تارة، وبسمها تارة، وبكلورور اليود تارة أخرى، وحاول أن يتخذ من أجسام هذه الحيوانات وهي حيّة مصانع تصنع له هذا المصل الواقي، هذا المصل الذي يقتل سم الدفتريا، وأسماه الأنْتيتُكْسين - ولْنسمّه نحن الترياق، ونجح في الذي حاوله، ولكن بعد أن قتّل من هذه الحيوانات ما شاء، وقطّع من أوصالها ما أراد، وبعد أخطاء أتاها كثيرة هي دائماً مقدّمات النجاح، ولم يمض طويل من الزمن حتى نجح في تحصين الشياه تحصيناً قوياً، واستدرّ منها دماً كثيراً واستخلص منه مصله، ثم قال: (لا شك أن الترياق الذي بهذا المصل يقي من الدفتريا)، ولم يكن يعلم عن حقيقة هذا الترياق، ولا عن كيميائيه شيئاً
وحقن مقادير صغيرة من هذا المصل في عدد من الخنازير الغينية، وفي اليوم الثاني حقن فيها بشلة الدفتريا، وهي حية قاتلة، فما كان أجمل مرأى هذه الخنازير بعد ذلك وهي تنط وتلعب ولا أثر للداء فيها، كذلك كان مرأى صويحباتها الأخريات التي حُقنت بالبشلة دون المصل، وهي تموت بعد الحقنة بيومين أو ثلاثة، فموت هذه الأخيرة هو الذي أقنع بأن المصل فيه الوقاية وفيه الحصانة، وأجرى بارنج مئات من هذه التجارب الجميلة، وكان الآن يحذق التجريب فلم يكن في يده تذبذب واضطراب كالذي كان بها قديماً. وتساءل أعوانه في قنوط متى يفرغ سيدهم من هذه المجزرة المتكررة، متى يفرغ من تحصين طائفة من الخنازير ثم إعطائها الداء، ثم من قتل طائفة أخرى ليثبت بها حقاً أنه خلّص بمصله الطائفة الأولى، ولكن بارنج لم تعوزه العلة يفسر لنا بها كثرة ما قتل من هذه الخنازير. قال في أحد تقاريره الأولى: (لقد جربنا من هذه التجارب عدداً كبيراً لنثبت لكوخ، وهو المحقق المدقق القليل التصديق، إلى أي حدّ بلغ بنا الإيمان بحصانة هذه الحيوانات)
نجح بارنج فيما أراد إلا أمراً واحداً أفسد عليه طعم الثمرة التي اجتناها. ذلك أن حصانة الخنازير لم تدم طويلاً، فالخنازير لم تكن تصمد للحقنة الكبيرة من سم الدفتريا من بعد تحصينها إلا أياماً معدودات، فإذا مضى على التحصين أسبوع أو أسبوعان لم تعد تصمد لها، ولكما استطال الزمن أخذت حصانتها تقل تدريجا، وأخذ مقدار السم الذي يكفي لقتلها يصغر تدريجا. وعمد بارنج إلى لحيته يشد شعراتها وهو يتمتم لنفسه: (ليس هذا من العمليّ الممكن في شيء، فليس بالمستطاع الطواف بكل أطفال ألمانيا لحقنهم بمصل الشياه كل أسبوعين أو ثلاثة). ومما يؤسف له أنه نفض يده بعد ذلك من البحث الجميل الذي هو فيه، وترك المطلب الأسمى الذي كان يطلب به طريقة لمنع داء الدفتريا أن يحدث واستئصاله فلا يكون، واستعاض عنه يطلب دواء له إذا هو كان، فنزل بنفسه منزلة دنيا رجاء أن يأتي بأمر جليل تفتح له السلطات من الدهش أعينها واسعة
قال: (إن هذا الكلورور اليوديّ له أثر سيئ في الخنازير الغينية لا ينقص كثيراً عن أثر المكروب ذاته. ولكن هذا المصل الواقي ليس له أثر سيئ فيه، فهو لا يلهب جلدها ولا يحدث خُرّاجات فيه. . . وأنا على يقين أنه لا يؤذيها. . . وأعلم غير هذا أنه يحصنها فيقتل فيها سم الدفتريا إذا هو جاءها بعد التحصين. . . فليت شعري أيقتلها كذلك إذا هو جاءها قبله؟. . . واختصاراً أيكون في هذا المصل شفاء من الداء بعد كينونته؟)
وجاء بارنج بطائفة كبيرة من الخنازير الغينية وحقن بشلات الدفتريا فيها. فلما كان الغد وجد المرض قد دبّ فيها، واصبح الصباح التالي فإذا بها ملقاة على أظهرها في همود منذر وهي تتنفس جاهدة. عندئذ قام بارنج فحقن في بطونها مقادير وافية من مصل الشياه الحصينة. فوقعت المعجزة الكبرى، فأخذت الخنازير، إلا قليل الأقل منها، تسترجع أنفاسها بعد برهة قصيرة. ولما جاء الغد أرقدها بارنج على ظهرها، فإذا بها تنط فتقوم على أرجلها، وعلى أرجلها ثبتت. وفي اليوم الرابع تمت سلامتها فكأن الداء لم يصبها أبدا. أما الأخريات التي حقنت بالمكروب دون المصل فحملها الخادم هامدة باردة إلى حيث تحمل الميتات.
إذن لقد شَفىَ المصل من الدفتريا!
وزاط المعمل العتيق من أجل هذا الفتح الجديد التي أتاه بارنج العالم الشاعر، الخاطئ الصائب، العاثر الناهض. وملأ الأمل القلوب بأنه لابد سيشفي الأطفال من بعد هذا. وأخذ يعدّ أول مصل يحقنه في طفل على وشك الموت بالداء. وبينا هو يتجهز لهذه التجربة الخطيرة جلس يكتب تقريره الشهير ويصف فيه كيف تأتى له أن يخلص حيواناته من الموت بحقنها بمادة جديدة عجيبة غريبة اصطنعها لها في أجسام أخوات لها جازفت بحياتها في سبيل ذلك من أجلها. كتب بارنج: (ليس لدينا طريقة مؤكدة لتحصين الحيوانات). وكتب (وهذه التجارب التي قيدتها لا تتضمن مجهوداتي الناجحة وحدها). وصدق في هذا، فهو قد أثبت فيها مجهوداته الفاشلة وأظانينه الخاطئة إلى جانب ما حباه به الحظ من توفيقات صائبة نال بها هذا النصر الدمويّ العظيم
لشد ما أعجب كيف استطاع هذا الشاعر أن يسبق إلى كشف ترياق الدفتريا، وأن يفوز بهذا المجد الخالد! ولكني أفكر فأجده إنما تحسس فاهتدى كما تحسس من قبله واهتدى رجال قدماء، لا نعرف لهم اليوم أسماء، اخترعوا الأشرعة التي تحمل السفائن عبر البحر في سرعة البرق الخاطف. هؤلاء الرجال الأبطال المجهولون، كم منهم من انقلب به السفين، وكم من جثثهم ما أشبع البحار! أليست هذه دائما هي سبيل الكشوفات جميعها؟
وفي أواخر عام 1891 كان في شارع إبريك ببرلين دار للتمريض تُدعى دار برجمان وكان بها أطفال فعلت الدفتريا بهم فعلها فهم ينتظرون الموت القريب. وكانت الليلة ليلة عيد الميلاد. ففي هذه الليلة دخلت إبرة صغيرة لمحقن مليء بنصل لأول مرة في جلد طفل لم يعد له في الشفاء رجاء. فصرخ الطفل ورفس برجله قليلا
ما أبهر النتائج التي جاءت من هذه الحقنة الأولى ومن أخوات تَبِعْتها! نعم بعض الأطفال مات. ونعم كذلك مات طفل كان ابن طبيب شهير في برلين ميتة غريبة غير منتظرة عقب الحقنة مباشرة فحصل من جراء ذلك أخذ ورد وجلبة كبيرة. ولكن لم تمض الأيام حتى قامت مصانع كيميائية كبيرة بألمانيا تصنع هذا المصل في قطعان كثيرة من الشياه. ولم تمض ثلاث سنوات حتى بلغ الأطفال الذين حقنوا بهذا الترياق عشرين ألفا. وسار الخبر سريعاً كالشاعة في الناس. وكان بِجْز مدير الصحة الأمريكية الشهير في أوروبا، فلما اطلع على أمر الترياق، هزّه ما وجد منه فبعث البرقية الآتية وهو متأثر ثائر إلى الدكتور بَرْك بنيويورك:
(ترياق الدفتريا ناجح. ابدأ بصنعه)
وكان كوخ أساء إلى ناس كثيرين بسبب علاجه الفاشل القاتل للسل، وبسبب الأرواح الكثيرة التي ضاعت من جرائه. وكانت أقوام كثيرة لا تزال في حزن قريب بسبب من فقدوا. ولكن كشف بارنج أنساهم ما هم فيه، فغفروا لكوخ الشيخ زلته لأنه أنجب هذا الصبيّ البارع
(يتبع)
أحمد زكي