الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 148/النهضات القومية العامة في أوروبا وفي الشرق

مجلة الرسالة/العدد 148/النهضات القومية العامة في أوروبا وفي الشرق

مجلة الرسالة - العدد 148
النهضات القومية العامة في أوروبا وفي الشرق
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 04 - 05 - 1936


للأستاذ عبد الرزاق أحمد السنهوري

عميد كلية الحقوق ببغداد

بقية المحاضرة الثانية

طرقها في التنظيم:

وللفاشية طرق للتنظيم. والحكومة الفاشية تتألف من الملك والمجلس الأعلى والوزراء ومجلس الشيوخ ومجلس النواب والمجلس الوطني للنقابات. ومن وراء هذا الحزب الفاشي على درجة عليا من التنظيم، وهو القيم على الحكومة الفاشية كما أن الحزب الشيوعي هو القيم على الحكومة البلشفية. ومن وراء هذا وذاك الزعيم. وهو رئيس الحزب الفاشي، ورئيس المجلس الأعلى، ورئيس الوزراء، ورئيس المجلس الوطني للنقابات. وفي يده تتركز كل السلطات

والجديد في هذا التنظيم أمران:

الأمر الأول هو أن أعضاء مجلس الشيوخ والنواب لا يأتون بطريق الانتخاب كما في الدول الديمقراطية، بل يأتون بطريق التعيين. فأعضاء مجلس الشيوخ يعنيهم الملك بناء على ترشيح الحكومة. وأعضاء مجلس النواب يعينهم المجلس الأعلى، ويصدق على التعيين الناخبون بطريق القائمة. والناخب يصوت لا كفرد سياسي، بل كشخص اقتصادي، فيفرق بين أصحاب الأعمال والعمال والقائمين بالأعمال الفكرية

والأمر الثاني هو أن هذه الهيئات المختلفة التي تتألف منها الحكومة الفاشية فيها هيئتان جديدتان لا نظير لهما في الدول الديمقراطية: المجلس الأعلى والمجلس الوطني للنقابات. أما المجلس الأعلى فهو اللجنة التنفيذية للحزب الفاشي نجح موسوليني في إدماجها في الحكومة الإيطالية. ويتألف هذا المجلس من نحو عشرين عضواً يرأسهم الزعيم. وفيهم أعضاء معينون لمدة غير محدودة، وأعضاء لمدة محدودة، وأعضاء بحكم وظائفهم. ويختص هذا المجلس بالنظر في المسائل التشريعية الكبرى، كسن القوانين الدستورية. وهو الذي تتركز فيه السلطة التنفيذية بعد الزعيم ويعين أعضاء الهيئ الحكومة الفاشية والحزب الفاشي. أما المجلس الوطني للنقابات فيتألف من ممثلين لأصحاب رؤوس الأموال وممثلين للعمال ويرأسه الزعيم. وهو ينقسم إلى فروع تتمشى مع النواحي المختلفة للنشاط الاقتصادي. فتمثل فيه الصناعة الكبرى. والصناعة الصغرى، والزراعة، والتجارة، والنقل، والمصارف وغيرها. ذلك أن أصحاب رؤوس الأموال والعمال في كل ناحية من هذه النواحي منتظمون في نقابات متدرجة من محلية إلى إقليمية إلى مركزية إلى هذا المجلس الوطني للنقابات ويتناول اختصاصه بنوع خاص توجيه النشاط الاقتصادي في البلاد

ومن هذا نرى أن الفاشية، بحكم المبادئ التي تقوم عليها، والوسائل التي تتذرع بها في العمل، والطرق التي تتبعها في التنظيم، خصم للاشتراكية من جهة، وللفردية من جهة أخرى؛ فموقفها بالنسبة للفرد موقف وسط، لا تدمجه في الدولة كما تفعل الاشتراكية، ولا تطلق له الحرية كما تفعل الفردية

النازية:

وإذ فرغنا من التحدث عن الفاشية في إيطاليا نقول كلمة موجزة عن النازية في ألمانيا. وحتى نختصر الطريق نكتفي في الكلام على النازية بأن نقارن بينها وبين الفاشية، فالحركتان تتفقان في المبادئ ووسائل العمل. ذلك لأن النازية تقدس القومية، ولكن القومية عندها لا تقوم على رابطة الوطن كما في الفاشية، بل تقوم على رابطة الجنس. فالجنس الجرماني كله، لا الأمة الألمانية وحدها، هو الذي يجب أن يتحد. والنازية كالفاشية توفق ما بين المبادئ الاشتراكية والنزعة الوطنية، فهي وطنية اشتراكية ذات صبغة عملية. والنازية كالفاشية لا تؤمن بالجامعات الدولية، فهي ترى عصبة الأمم جامعة خيالية، وتقيم حربا عواناً على البلشفية. وقد انتظم هتلر الشيئين في خطبته التي ألقاها منذ شهر عقب الحوادث السياسية الأخيرة، فهو يقول: (إن الأمم كانت فريسة للخيالات والأوهام عندما آمنت بعصبة الأمم، وإن السلام الذي كان يجب أن يكون حجراً يقفل به ضريح الحرب إلى الأبد أصبح مباءة تنمو فيها بذور ارتباكات جديدة، وإن الثورة الشيوعية لم تقتصر على وضع طابعها على إمبراطورية من أعظم الإمبراطوريات في العالم، بل اتجهت أيضاً إلى الشعوب المجاورة. فهناك جيوش مؤلفة من ملايين الرجال تذهب إلى الحرب لإشعال ثورات عالمية من أجل الشيوعية، وتجند هذه الملايين بدعوى السعي إلى إبطال الحروب. .)

والنازية كالفاشية تجعل الحكم للأقلية الصالحة، ويقول هتلر في هذا المعنى: (نريد رجالاً قليلين من الطبقة الحاكمة الجديدة، هم الذين يؤمنون بأن لهم الحق في أن يحكموا لتفوقهم، ويبسطون سلطانهم دون تردد على السواد من الجماهير). على أن هذه الأقلية الحاكمة تدين كلها بالخضوع والولاء للزعيم الأكبر

والنازية كالفاشية في نزعتها الاستعمارية العسكرية. فهي تذهب إلى أن العلم الحديث يولد إيماناً لا يتزعزع في القيمة الخلقية العليا للحرب. ويقول الدكتور جوبلز: (إذا حاولت أن تقمع الحرب، فأنك تكون كمن يحاول أن يقمع حركات الطبيعة)

والنازية كالفاشية في الظروف التي نشأت فيها. فقد قامت النازية عقب خروج ألمانيا من الحرب مهزومة. وكان للاضطرابات التي أحدثها الاشتراكيون الألمان، والإضرابات التي نظموها، أثر حاسم في هذه الهزيمة. وقد سام الحلفاء المنتصرون ألمانيا المهزومة في شروط الصلح خسفا جرح كبرياءها، وفي وسط هذه الغيوم المتلبدة سطع نجم مؤسس النازية، بعد أن أقام حركته لمقاومة البلشفية، ولإنقاذ الوطن الجرماني، وبعثه من جديد

والنازية كالفاشية أخيرا في شخص الزعيم. ففي إيطاليا موسوليني القائد المحرك وفي ألمانيا هتلر القائد المرشد هذا وراءه النازي فرقاً منظمة وهم ذوو القمصان السمراء، وذاك وراءه الفاشستي أي فرق الكفاح، ذوو القمصان السوداء. وقد لجأ الرجلان إلى أساليب واحدة في تنظيم معسكريهما: خضوع مطلق لسلطان الزعيم، ونظام عسكري دقيق، وروح وطنية حربية، وشبان يحتشدون بالألوف، ويدخلون أفواجاً في هذا الدين الجديد. وكل من الفاشية والنازية دين ينطوي على إيمان عميق. ولهذا الدين فرائضه ومناسكه، تتمثل أوضاعاً ورسوما، فمن حركات عسكرية، إلى أعلام خفاقة، إلى إشارات رمزية، إلى شارات موضوعة، إلى أناشيد محفوظة، إلى لباس خاص

والرجلان قد رزقا موهبة الخطابة وقوة البيان، والقدرة على اجتذاب شعور الجماهير. وهما إنما يبشران بدين وأيمان، وقوة الإيمان يغذيها سحر البيان. والرجلان من رجال العمل لا من رجال الفكر، فهما لا يترددان، ولا يتمهلان، بل يسيران قدماً إلى الأمام والرجلان يتشابهان نشأة وتربية وقوة وسطوع نجم. نشأ في المتربة والمسغبة، موسوليني أبوه حداد، وهتلر أبوه مستخدم صغير في الجمارك النمساوية. وعاش الاثنان عيشة الكفاف ثم هجرا بلديهما، فذهب موسوليني إلى جنيف، حيث اشتغل عاملاً فبناء؛ وذهب هتلر إلى فينا، حيث اشتغل عاملاً فرساما. وقد تربى كل منهما في مدرسة واحدة، هي مدرسة البؤس والشقاء، تلك المدرسة التي كثيراً ما تبنت عظماء الرجال. فتعلما فيها صلابة العود، وقوة العزيمة، ومجالدة الفاقة، ومنازلة الأخطار، وتخرج كل منهما قوي الشكيمة شديد المراس. وأتما تربيتهما معاً في مدرسة أخرى، هي مدرسة الحرب الكبرى، إذ تقدم كل منهما إلى هذه الحرب، فخاض غمارها، واصطلى بنارها، وعانى أهوالها، وجرح في معاركها، وأبلى فيها بلاء حسنا، وخرج منها وقد استكمل النضوج، واستوفى الرجولة، وسار إلى ما هيأته له الأقدار

وأسس موسوليني أول فرقة للكفاح في ميلان سنة 1919 من مائة وأربعين رجلاً، وتزايدت فرق الكفاح، ونظمت تنظيماً عسكرياً دقيقاً، فأمكنه أن يحشد بعد ثلاث سنوات مائتي ألف من الرجال، استولوا على إيطاليا الوسطى وسبعين ألفاً زحفوا على روما، وقبضوا على ناصية الحكم بالقوة. وهو الآن في قصر فينسيا يصرف أقدار أمة كبيرة ويحكمها حكماً دكتاتورياً. وذهب هتلر بعد الحرب إلى مونيخ، وهناك انضم إلى حزب صغير غير معروف، فأخذ يقويه، وينفخ فيه من روحه حتى حشد فيه الآلاف من الرجال. وسجن عقب إخفاقه في ثورة أراد بها قلب الحكم في بافاريا، وكتب في السجن كتابه الذي أسماه: (جهادي ولما أطلق سراحه، جمع شتات حزبه وكان قد تفرق. وعاد إلى الجهاد؛ ثم أخذ يستولي على مشاعر الأمة الألمانية شيئاً فشيئاً، حتى ضمها تحت لوائه، وأصبح الآن هو المسيطر على سبعين مليوناً من البشر من أعظم الشعوب وأرقاها، يخضعون لإشارته، ويدينون له بالولاء

بقي أن نقول إن الفاشية والنازية تنازلان البلشفية بنفس سلاحها. فهما كالبلشفية تحكمان حكما دكتاتورياً، وهما كالبلشفية أيضاً تخضعان النظام السياسي للنظام الاقتصادي. والمعركة قائمة بينهما وبين البلشفية، فأي المعسكرين يكتب له الانتصار؟ هذا هو السر المخبوء في عالم القدر. على أن الحوادث السياسية الأخيرة وبنوع خاص تلك المحالفة التي عقدتها فرنسا مع روسيا البلشفية والتي أثارت سخط خصوم البلشفية حتى بين الفرنسيين أنفسهم، قد تعجل بالمعركة الفاصلة، وقد تغرق أوروبا من جديد في بحار من الدماء

على أنه سواء تغلبت البلشفية في المعركة القادمة، أو انتصرت الفاشية والنازية، فالواقع من الأمر أن كلا الخصمين مشبع بروح الدكتاتورية البالغة في التطرف، وأن الصريع بينهما هي الديمقراطية على كل حال. وقد صار واجبا على الديمقراطيين أن يراجعوا أصول الديمقراطية من جديد، حتى تتمشى مع ما يقتضيه هذا التطور السريع

والآن وقد انتهينا من استعراض الحركتين الفاشية والنازية وانتهينا بذلك من استعراض النهضات القومية في أوروبا منذ العصور الوسطى إلى الآن، نختتم هذه المحاضرة بإيراد بعض النتائج العامة التي نستخلصها من تطور هذه النهضات، ونكتفي منها بثلاث:

النتيجة الأولى: هي أن رابطة الدين التي كانت تسود في العصور الوسطى قد زال سلطانها في العصور الحديثة. وقد انفصلت الكنيسة عن الدولة. ولا نعني بذلك أن سلطان الدين قد زال من القلوب، فإن الإنسانية لا غناء لها عن الدين مهما بلغ حظها من التقدم. ولكن عرش الدين مكانه القلوب والضمائر. أما الروابط الاجتماعية فتتصل بالدين من جانبه الاجتماعي، لا من جانبه الاعتقادي

والنتيجة الثانية هي أن الفرد في أوروبا لم يتحرر إلا بعد أن تحرر المجموع. والديمقراطية التي حررت الفرد لم تقم إلا بعد أن تدعمت الوطنية التي حررت الأمم. وليس في هذه النتيجة العملية خروج على المنطق، ولا انحراف عن طبيعة الأشياء، فالفرد جزء من المجموع، فكيف يكون الجزء حراً إذا كان المجموع مقيداً في ربقة الأسر؟

والنتيجة الثالثة والأخيرة هي أن القوميات في أوروبا عندما تكونت أسرفت في التعصب، وتطرفت في الاستئثار. وتقهقر الجانب الإيجابي من الوطنية، وهو حب الإنسان لوطنه أمام الجانب السلبي وهو بغضه للأوطان الأخرى، وحل التعصب للدين، فكان من ذلك أن هزت الحروب أركان أوروبا، واندلعت نيران التعصب للوطن بعد أن نشأت الوطنية وترعرعت ضيقة هوجاء، وأصبحت لا تتسع للاندماج في روابط الجنس والدم. وتعاني أوروبا الآن من تقطع وشائج القرابة ما بين الأمم الأوروبية ما تقف أمامه عصبة الأمم عاجزة دون حول. فما كان أولى برابطة الوطن أن تتوثق في ظل رابطة الجنس! وما كان أولى برابطة الجنس أن تتوثق في ظل رابطة أوسع! وهكذا تدعم كل رابطة أختها، فتحقن الدماء ويسود السلام.

عبد الرزاق أحمد السنهوري