مجلة الرسالة/العدد 148/الملك العالم فؤاد الأول
→ ../ | مجلة الرسالة - العدد 148 الملك العالم فؤاد الأول [[مؤلف:|]] |
مقياس الشباب ← |
بتاريخ: 04 - 05 - 1936 |
سبحانك اللهم مالك الملك! تدبر أمرك في سمو على مدارك العقل، وتنفذ حكمك في استقلال عن هوى الناس! فلا حرص الوالد على وحيده يلطف قضاءك فيه، ولا حاجة الشعب إلى مليكه ترد بأسك عنه. حكمة ضلت فيها الفطنة ضلال الأفن، وقوة ضاعت فيها القدرة ضياع العجز، وسلطان خضع له الملك خضوع السُّوقة!
كان الملك فؤاد رحمه الله مظهراً من مظاهر القدر في الأرض. يجلس على عرش من أعرق العروش نسباً في الملك؛ ثم يأمر فيطيع شعب، ويقول فيسمع عصر، ويعمل فيسجل تاريخ، ويضع حكمه في الأمور موضع الإدارة السماوية فيكون شريعة لا تخالف، وعقيدة لا تنكر. وتلك طريقة الملك بمعناه الشرقي الموروث، تصلح مادام لها من هدى الله دليل ومن رَوْح العدالة سند؛ وشبل إسماعيل كان ملكاً بنشأته ومصلحاً بطبعه: رُبي تربية ملكية، ونُشِّئ تنشئة عسكرية، وثُقِّف ثقافة حديثة؛ ثم تقلب بين ملكية رومة، وخلافة الآستانة، وخديوية القاهرة، فارتسم على صفحة ذهنه صور من كل. ولكن عبقريته الفنية وعقليته العلمية ورجولته العملية، جعلت منه ملكاً فيه خصائص المُلك، وليس فيه نقائض الملوك. وإذا قلت إن الشرق لم ير قبل فؤاد ملكاً واسع الإحاطة شامل الثقافة قوي الإدراك لا تبعد عن الصدق
كانت مواهب الأمير فؤاد تأبى عليه إلا أن يكون كخالد ابن يزيد رجل علم إن لم يكن رجل مُلك. لذلك لم يصبر طويلاً على أن يكون حاشية للسلطان في سراي عبد الحميد أو قصر عباس، فعاد فاتبع إحدى سبيلي المجد؛ وأقبل يذكي النهضة المصرية بالعلم النافع والعمل المنتج والقوة المحركة؛ فكان رئيساً لتسع عشرة جمعية أو مؤسسة ما بين علمية واقتصادية وخيرية، كلها من اقتراح رأيه أو من ثمرة سعيه. فلما بوَّأه الله عرش مصر في ساعة مضطربة وحالة مبهمة، كان يرى لطول ما خبر الشعب، وكثرة ما عالج الأمور، ووفرة ما عرف من الوسائل، وكفاية ما تزود للإصلاح، وقوة ما ضمن لتوزيع العدل، أنه أول الناس وأولى الناس بقيادة أمته في أشد مراحلها تعرضاً للضلال والخطر؛ وهذه القيادة نوع من أنواع الحكم المطلق، يعتمد على وحي العقيدة وإخلاص الرأي كالخلافة، أكثر مما يعتمد على استبداد الزعامة وقوة الجمهور كالدكتاتورية؛ ومن ذلك كان منشأ النزاع الثلاثي الذي قام بين العرش والاحتلال والدستور حيناً على حين؛ ومن طبيعة هذا النزاع أن يتجاذب أطراف الأمة الثلاثة فتنبسط لتنقبض، وتتسع لتضيق، ولكن القوة التي كان الملك يستمدها من صبره وحكمته وجرأته وخبرته وذكائه كانت في الكثير الغالب تشد الطرف الراجح إلى يده، فيسير في الإصلاح بالقدر الذي يبقي على هذا التجاذب من الإمكان والقدرة. ومع ذلك كان التقدم في عهده على محافظته وأناته محسوس الأثر؛ فلقد تعهد منابت الثقافة فغذاها بعونه، وتفقد منابع الثروة فرفدها بعنايته، وبسط رعايته على كل أمر من أمور الدولة وكل شأن من شئون الأمة حتى لا تجد عملاً من الأعمال العامة إلا كان فيه بسطة من لسانه أو يده
ولعل أشرق وجوه الإصلاح في عهد المليك الراحل ما اتصل منها بالجمعيات الاقتصادية والمؤسسات العلمية والمؤتمرات الدولية والمتاحف الأثرية والمرافق العامة؛ أما الأعمال الفردية والجهود الأدبية فكان نصيبها من حكمه السعيد كنصيبها من حكم جده الأعلى محمد علي. على أن عناية المليك العظيم بها قد بدت بواكيرها المرجوة في مثل بنك التسليف ومجمع اللغة؛ فلو مد الله في عمره الحافل المبارك حتى تنضج لكان عصره أشبه بعصر لويس الرابع عشر
كان الملك فؤاد بالرغم من عوامل نشأته، وعلى النقيض من ميول أبيه، شديد التعلق بدينه، قوي الحرص على شرقيته؛ يكره أن يجعل من مصر قطعة من أوربا، ويجب أن تظل دولة إسلامية شرقية لها تقاليدها الخاصة، وأسانيدها المتصلة، وسماتها المميزة، فساعد الحجاب، وأيد الطربوش، وعضد الدين في كل خلاف بينه وبين التطرف؛ وكان من ذلك شيء من التصادم المكبوت بين الرغائب الوثابة الشابة، وبين هذه الأناة الملكية الحكيمة
إن من العسير على المنطق النزيه أن يحكم اليوم على أعمال مليكنا العالم العامل الكفء، فإنها إنما بدت للناس على ألسنة رجال البلاط، وعلى أيدي رجال الحكومة؛ والبلاط قد يتأثر بشهوات الناس، والحكومة قد تتأثر بنزوات الساسة. ومهما يقل التاريخ في العصر الفؤادي فسيسجل بالخط البارز أنه عصر الرخاء للنيل، وعهد الاستقلال للأمة، وفجر النهضة في مصر
عز الله مصر عن ملكها العظيم الفقيد، وبارك الله لمصر في ملكها العزيز الجديد
أحمد حسن الزيات