مجلة الرسالة/العدد 147/شكوى إلى الله
→ الحياة الأدبية في فلسطين | مجلة الرسالة - العدد 147 شكوى إلى الله [[مؤلف:|]] |
الألم. . . ← |
بتاريخ: 27 - 04 - 1936 |
وداع. . .
هذه خطبة معلم فرقوا بينه وبين أولاده فودعهم بها ووصاهم وبكاهم، وإني لآسف أن يكون في صاحبنا المعلم الأديب هذا الضعف وهو يدعو إلى أدب القوة، ولكن ماذا يصنع؟ أليس له قلب؟ أليس بإنسان؟. . .
أولادي!
انتظروا! لا تخرجوا كتبكم، ولا تفتحوا دفاتركم، فما جئت لألقي عليكم درساً، وإنما جئت لأودعكم. إن الوداع صعب يا أولادي لأنه أول الفراق، وما آلام الدنيا كلها إلا ألوان من الفراق: فالموت فراق الحياة، والثكل فراق الولد، والغربة فراق الوطن، والفقر فراق المال، والمرض فراق الصحة. . .
إن الوداع صعب ولو إلى الغد، فكيف إن كان المودَّع صديقاً عزيزاً، فكيف إن كان ولداً، فكيف إن كانوا أولاداً؟
أنتم أولادي، أولادي حقيقة لا أقولها مجاملة ولا رياء، ولا أسوقها كأنها كلمة تقال، ولكن تنطق بها كل جارحة في، واحسها من أعماق قلبي!
ولم لا؟ ألستم تحبونني وأحبكم؟ ألم أفكر فيكم دائماً وأخاف عليكم؟ ألم تروني آلم إذا تألم أحدكم، وأثور إذا تعدى أحد عليكم؟ ألم أفتح لكم قلبي حتى اطمأننتم إلي وأنستم بي، وخرقتم حجاب الخوف الذي كان بيني وبينكم، كما يكون بين كل معلم وتلاميذه، وغدوتم تدعونني لأشارككم في ألعابكم، وتقصون علي أخباركم وتبثوني أحزانكم، وتنبئوني بأسراركم، وتشكون إلي ما يصيبكم من آبائكم وأهليكم؟ فأي صلة بين الآباء والأبناء أوثق من هذه الصلة، وأي سبب أقوى من هذا السبب؟
أنتم أولادي. فهل رأيتم أباً يودع أولاده الوداع الأخير ثم يملك نفسه أن تسيل من عينيه؟ لقد شغلتم نفسي زماناً، وأخذتم علي مسالكي في الحياة، فلا أرى غيركم ولا أفكر إلا فيكم، وأقنع بصداقتكم هذه الخالصة المتعبة المرهقة، عن الصداقة الكاذبة، والود المدخول
فكيف أقدر أن أملك نفسي وأنا أقوم بينكم لألقي عليكم كلماتي الأخيرة، ثم أمضي لطيتي لا أدري أأراكم بعد اليوم أم لا أراكم بعد أبداً؟. . .
أما أنتم فاملكوا أنفسكم - لا تحزنوا ولا تأسفوا ولا تبكوا لأني علمتكم كيف تكونون في طفولتكم أكثر منا في شبابنا رجولة وصبرا - ونشأتكم على القوة التي فقدناها، والبعد عن العاطفة التي ربينا عليها، وإنكار الألم الذي لا نزال نهرب منه، والمغامرة التي نكرهها ونجهلها لأرى صبركم في مثل هذا اليوم
أنكم الآن تجتمعون حولي، ولكنكم ستتفرقون في المستقبل، وستنثرون على درجات السلم الاجتماعي نثراً، وسيكون منكم الغني والفقير، والكبير والصغير، والتاجر والصانع، والموظف الكبير، والمدير والوزير. ولكن قلبي سيتبعكم، وحياتي ستمتد فيكم، ومبادئي ستبقى في قلوبكم، لا تستطيعون أن تتناسوها، وكلماتي سترن في آذانكم لا تقدرون أن تتغافلوا عنها، وستسمعونها تدعوكم باسم الواجب في ساعات الهوى، وباسم الحق في جولة الباطل، وباسم الفضيلة في غمار اللذة. فطوبى لمن لبى وسمع واستجاب، وويل لمن نسى وأنكر وأعرض واستكبر!
إنني لقنتكم مبادئ الحق والفضيلة ولكنكم ستجدون في تطبيقها عناء كبيراً؛ ستجدون أول خصومها معلميكم في المدرسة وأهلكم في البيت ورفاقكم في الطريق، فالسعيد السعيد من ثبت على الحق، وأوذي في سبيله؛ والبطل من درأ بصدره السهام عن أمته، وأطفأ بدمه النار التي تحرق وطنه. أن في أمتكم طاعوناً أخلاقياً مروعا أصيبت به منذ خمسمائة سنة فذلت واستكانت، وفقدت عزتها وصبرها وقوتها، وقد جاء الوقت الذي تبرأ فيه الأمة. أنها لن تبرأ إلا على أيديكم. . .
لقد دللتكم على الطريق، ووضعت في أيديكم مفتاح النجاح، فعلمتكم فضائلي كلها مع ما عرفت من فضائل، وجنبتكم نقائصي كلها مع ما عرفت من نقائض، فاحترمتكم لتحترموني، وأخطأت أمامكم لتردوني، ورجعت عن خطئي لتتعلموا مني، وأنصفتكم من نفسي لتنصفوا الناس من نفوسكم، وعلمتكم معارضتي إذا جرت لتتعلموا المعارضة لكل جائر، ولم آت في ذلك بدعا. فهذه مبادئ الإسلام الذي علمتكم اتباع سبيله، والوقوف عند أمره ونهيه والفخر به، والجهر باتباع شعائره، وربيتكم على الطاعة في غير ذل، والعزة في غير كبر، والتعاون على الخير، والثبات على الحق، والقوة في غير ظلم، والنظام الكامل من غير أن يفقدكم النظام شخصياتكم واستقلالكم كنت أذكر ما كنت أستاء منه في المدرسة مما كان يصنع معنا معلمنا، فلا أصنع معكم منه شيئا: كنا نفر من المدرسة لأننا لا نجد فيها إلا جباراً عاتيا، عبوس الوجه، قوي الصوت، بذيء الكلمات، فجعلتكم تحبون المدرسة لأنكم تلقون فيها أباً باسماً شفيقاً يحبكم ويشفق عليكم، ويحرص على رضاكم كما يحرص على نفعكم
وكنا نكره الدرس لأننا نجده شيئاً غريبا، وطلاسم لا نفهمها ولا ندرك صلتها بالحياة، ونعاقب على إهماله، ونجازي على الخطأ فيه، فجعلتكم تحبون الدرس لأنكم ترونه سهلاً سائغا، تدركون صلته بحياتكم، وفائدته لكم، وتحفظونه لأنه لازم ومفيد لا خوفاً من العقاب ولا هرباً من الجزاء
وكنا ننتظر المساء لننجو من المدرسة، لأننا نسجن فيها سجنا، لا نستطيع أن نميل أو نتلفت أو نتكلم، ولا نسمع من الأستاذ إلا عبارة الدرس المبهمة وألفاظ الشتائم المؤلمة. فجعلتكم تكرهون المساء لأنه يفصلكم عن المدرسة التي تقولون فيها ما شئتم من طيب القول، وتفعلون ما أردتم من صالح العمل، وتقرءون مازلتم نشيطين للقراءة، فإذا مللتم من الدرس سمعتم قصة لطيفة، ونكتة حلوة، هي أيضاً درس من الدروس، ووجدتموني أحادثكم كما أحادث الرجال لا الأطفال. كنا نشعر بأننا أذلاء في المدرسة لأننا لا نقدر أن ندافع عن حقنا، أو نطالب بما لنا، وإذا قلنا كلمة فالعصا نازلة على رءوسنا، أو رددنا على المعلم لفظة، فالبلاء مستقر على عواتقنا، فجعلتكم أعزة أحرارا، تدافعون عن حقكم، وتطالبون بما لكم، ولكن بأدب واحترام، واتباع لقوانين المجتمع وأنظمة المدرسة. . .
أتذكرون يوم جئتكم كيف كان أكثركم يأتي إلى المدرسة بادية أفخاذه، مرجلاً شعره، في جيبه مشطه ومرآته، وكمّتُه (بيريه) على رأسه. تفخرون برقتكم، وتعتزون بجمالكم، وتتخلعون في مشيتكم، ولا تجدون من معلميكم إلا إقرار ما تفعلون، واستحسان ما تأتون، لا تربطكم بالإسلام إلا رابطة الاسم، ولا بالعروبة إلا صلة الجنسية، ولا تعرفون من تاريخكم ما تعرفون من تاريخ الحّثيين والآراميين الذي قرأتموه مفصلاً قبل أن تدرسوا سيرة محمد بن عبد الله ﷺ، وقبل أن تعلموا من هو أبو بكر، وقبل أن تسمعوا باسم معاوية. فعلمتكم أن فخر الرجل بقوته وعلمه، واعتزازه بدينه ولغته. فاشتدت أعصابكم، وقويت نفوسكم، وتنبهت عزائمكم وصرتم تمشون كالأسود، وتلعبون كالعفاريت.
وتطالعون كالعلماء وتفكرون كالفلاسفة، وتراقبون الله كالصديقين، وصرتم وأنتم في هذه السن تهيئون محاضرة في عشرين صفحة عن عمرو بن العاص، أو عبد الملك، أو عبد الرحمن الناصر، وسمعتم أن في الدنيا علوماً إسلامية، واستقر في نفوسكم أن هذه العلوم وهذه الحضارة وهذا المجد، لابد لها من بعث كالبعث الأوربي (الرينسانس)
ولكنكم لا تستطيعون يا أولادي أن تفهموا التضحية التي قدمتها من أجلكم. لأنكم لم تعرفوا قبلي هذا الطراز من المعلمين، فحسبي أن أخبركم أنني اشتغل بالأدب. أعني أن لي نفساً تشعر وتحس، وتألم وتسرّ، وتغضب وترضى، وتثور وتهدأ، وتأمل وتقنط، وأن لي غاية في الحياة أكبر من هذه الوظيفة. وأنني أهم بأشياء غير صفارة المناوب، وعصا التأديب، وحفظ النكات الباردة لتقطيع الوقت بها، ولف رجل على رجل في عظمة جوفاء لانتظار الدرس. . .
ذلك أنني أغدو إلى المدرسة كل يوم وفي نفسي عشرات من الصور والأفكار، أبني منها هياكل فخمة لآثاري الأدبية القيمة التي لم أكتب منها شيئاً بعد فإذا بلغت المدرسة ونشقت هذا الهواء المليء بجراثيم البلادة والخمول، طار من رأسي كل شيء، وأحسست أني غدوت حقيقة معلماً أولياً
أجل. لقد ضحيت من أجلكم بفكري ونفسي. . فخسرتهما من أجلكم، وهأنذا أخسركم أنتم أيضاً
إنكم لا تعلمون أي فراغ سيدع في نفسي فراقكم، وتحسبون معلمكم واحداً من هؤلاء البشر الآليين الذين يذهبون ويجيئون ويعملون ويتركون، ولكن بلا قلوب، فسأقص عليكم قصة وقعت لي منذ أسبوع:
كان اليوم عطلة وكنت أرقبه من زمن بعيد لأستريح فيه من هذا العناء الذي هدني هداً وطمس بصيرتي، وبلغ بي إلى الحضيض الفكري، فلما أصبحت عمدت إلى المطالعة فلم أفهم شيئاً، ووجدت شيئاً يدفعني إلى الخروج، فارتديت ثيابي وأنا لا أدري أين أقصد، فإذا أنا أمشي في الطرقات التي أمشي فيها كل يوم. وإذا رجلاي تقودانني إلى المرجة حيث ركبت السيارة إلى حيّ السفح (المهاجرين) إلى باب المدرسة. هنالك انتبهت، وعدت إلى نفسي، فإذا أنا لم أقدر أن أعيش يوماً واحداً بعيداً عنكم، وإذا صوركم وبسماتكم الحلوة، وشيطنتكم البريئة، وصداقتكم الخالصة، وأصابعكم الممدودة للسؤال قيد بصري حيثما ذهبت!
ولكن لا عليكم مني يا أبنائي، لا تفكروا فيّ ولا تحملوا همّي، بل فكروا دائماً في مبادئ علمتكم إياها، واذكروا في المستقبل أني كنت أستاذكم، وأنكم أحببتموني وأحببتكم، ولا تحقدوا عليّ أني كنت أحياناً أقسو عليكم أو أعاقبكم، فإنما كان ذلك لفائدتكم
وبعد. فقوموا يا أولادي، ودّعوا أباكم الذي لن تلقوه بعد اليوم. . . . . . . . .
وخرج صاحبي من المدرسة، مهدود الجسم، خائر القوى، فألقى عليها النظرة الأخيرة. فرآها من خلال دموعه، مشرقة بهية، كأنها ماسة تلمع في شعاع الشمس، ثم ولّى. . . يفكر تفكيراً مضطرباً
هذه هي حياة المعلم؛ يغرس غصون الحب في قلبه فتمزقه بجذورها، فإذا أزهرت جاءوا فنزعوها من قلبه، فمزقوه مرة ثانية بنزعها: يأخذ المعلم أولاداً لا يعرفهم ولا يعرفونه، فلا يزال يجهد فيهم، ليفهم طبائعهم، ويألفهم ويحبهم، ويقوّم اعوجاجهم ويصلح فاسدهم، حتى إذا أثمر الحب الفائدة وأتى العطف بالمنفعة وأتى العطف بالمنفعة، جاء ولاة الأمور فقطعوا بجرّة قلم واحدة هذه الأسباب كلها. وفرقوا بنقطة من حبر بين الأب وأولاده، لا لشيء. بل لوشاية سافلة أو مؤامرة دنيئة، أو لإخلاء مكانه ليبوّأه بعض الملتمسين من ذوي الوساطات
وانطلق صاحبنا يهمس في أذن نفسه:
إني أشعر بالانحطاط والضعف، وأحسّ كأنني شمعة قد أنطفأت، لم يكف أنهم أضاعوني والقوني في هذا الطرْق حتى جعلوني أسبح فيه، ثم أغوص إلى أعماقه، بينما يمرح الأدعياء واللصوص بالعيون الصافية ويقطفون وردها وزهرها!
لم يبق لي أمل. . . لقد سقطت في المعركة قبل أن أنال ظفراً، لقد بعت نفسي ومستقبلي وآمالي بتسعة جنيهات في الشهر ثمناً لخبز عيالي. . . أفكان حراماً أن أجدها من غير هذا الطريق، ألم يكن بد من أن أموت لأعيش؟. .
أستغفرك اللهم. فلا اعتراض ولا انتقاد، ولكنما هي شكوى. أفيخسر المرء ماله فيشكو، ويفقد حبيبه فيبكي، ويرى آماله تنهار أمام عينيه ونفسه تذوب وحياته تنضب ومواهبه تذوي ولا يقول شيئاً؟ إنني أشكو، ولكن إلى الله؛ فليس في الناس من يشكى إليه!
(دمشق)
(ع)