مجلة الرسالة/العدد 147/حِيَلُ الضمير
→ قصة المكروب | مجلة الرسالة - العدد 147 حِيَلُ الضمير [[مؤلف:|]] |
النيل ← |
بتاريخ: 27 - 04 - 1936 |
للأستاذ عبد الرحمن شكري
الضمير عند بعض الناس ترس الخائف الذي يحتمي بمجنه، وهو عند غيرهم سلاح الصائل، وعند آخرين آلة نصب واحتيال، وعند غيرهم بمنزلة الثياب الجدد التي يلبسونها أيام الأعياد والمواسم والصلوات ويخزنونها في الأيام الأخرى وهو تارة كالمصباح المنير
وترى كثيراً من الناس يكثرون من ذكر ضمائرهم أو يفعلون ما هو أدهى من ذلك فيكثرون من ذكر العدل والحق، وهي لقيمات يطريها كل منهم ويود أن يضعها في فم غيره، وهي أحمال وأثقال يمدحون الاضطلاع بها وكل يود أن يضعها على كتف غيره أو على عنقه، وما ذلك إلا لأن الناس ينشدون السعادة، والسعادة لا تكون إلا إذا اصطلح شر الحياة وضمير الإنسان، وإذا اصطلح المثل الأعلى ومثل الحياة الدنيا، وقد يكون فكر المرء وقوله خيراً من خلقه وفعله، لأن أعمال المرء رهينة بإحساسه لا بفكره وقوله، وقد يكون فكره نبيلاً وقوله جليلاً ولكن إحساسه يدفعه إلى سبيل غير سبيل هذا النبل والجلال في القول والفكر
ولما كانت الرذيلة أحوج الأشياء إلى مظاهر الفضيلة عم الكذب والرياء بين الناس انتفاعاً بمظاهر الفضيلة وحقيقة الرذيلة من كسب أو متعة. وهذه المظاهر تجوز على الناس ويحسبونها فضيلة أو هم يدعون الانخداع لها رغبة في التقرب إلى صاحبها والانتفاع برضائه عن انخداعهم بظواهر نفسه، وهذا منشأ انقلاب أوضاع الحياة، وهم يطلبون منه أن يدعي الانخداع بظواهر نفوسهم كما ادعوا الانخداع بظواهر نفسه، والمسألة كلها مسألة كسب يتبادل فيتعاونون على الحياة بتزكية كل منهم الآخر
وللضمير وسائل أخرى لتزكية النفس كأن يخلع صاحبه عيوب نفسه على غيره، ويلج في معاداته كي يبرئ نفسه فتكون لجاجته في خلع عيوبه على غيره دليلاً على عيوبه كما تكون لجاجة الأجرب في الحك دليلاً على موضع الجرب منه في نظر الطبيب
وكثيراً ما يتحمل الضمير الأعذار من أجل رغبة صاحبه في الأذى ولذته في الإساءة إلى الناس، وعوامل الشر في نفس المسيء قد لا تكون في حاجة لمسوغ يثيرها ولكنها تكون في حاجة إلى فرصة تستخدمها حتى ولو لم يكن لها مسوغ، فإن مسوغ الإساءة في كث من الأحايين في نفس المسيء لا في عمل من أسيء إليه لأن كثيراً من النفوس بها شهوة إلى الأذى إذا أرضتها أحست راحة وسعادة في إرضائها، غير أن بعض شهوات الأذى لا يرضيها إلا ما أرضى نفوس قدماء الرومان عند رؤية الوحوش تفتك بالأجسام، وبعض شهوات الأذى تكتفي بالغيبة والنميمة والكذب، وعواقب هذه قد لا تقل عن عواقب تلك جرماً وجناية وإن كان صاحبها لا ينعت بالمجرم الجاني وإن كان ضميرها أهنأ الضمائر بالاً وأرواحها خاطراً
والضمير كثيراً ما يكون في الحياة كالسفينة الصغيرة في البحر المحيط الذي هاجته الأعاصير فقد لا تغرق السفينة كما لا يغرق الضمير ولكنها تضطر أن تسير في مهب الإعصار كما يسير الضمير في مهب أعاصير الميول النفسية وما تقتضيه من كذب ونفاق
والكسب والجاه والصداقة والغرور هي العقاقير التي تخدر الضمائر بها، وهي البلسم الذي تداوي به آثار وخزاتها، وهي المادة اللزجة التي تطلى بها الضمائر كي يصطاد بها أصحابها طيور السعادة واللذات والمكاسب كما تطلى الغصون بتلك المادة اللزجة التي تلتصق بها العصافير على غصون الأشجار ثم يأتي الصائد فيجمعها أو هي المادة اللزجة الأخرى التي يطرد بها الذباب اللاذع المسمى بخواطر التأنيب والوخزات
ومن أجل ذلك كثيراً ما ترى ضمير المرء عوناً للجاني الذي يرجى نفعه أو جاهه أو وده أو يرجى منه إرضاء غرور صاحب الضمير المناصر له. والناس في سرائرهم يعرفون أن ضمائرهم ليست دائماً مصباح الهداية الذي يدعونه، والإنسان يتجنب فحص نفسه والبحث عنها، وإذا كلف أو دفع إلى ذلك حاول التخلص من فحص نفسه فيقلب فحصها إلى حديث فيحدث نفسه أو تحدثه ويمنيها أو تمنيه، ثم يعود فيقول إنه فحص نفسه وهو قلما يفعل ذلك إلا إذا دهمته مصيبة تجعله يشك في نفسه فيفحصها فإذا لم تدهمه مصيبة تجنب فحص نفسه إلا إذا كان مريضاً بداء الخوض في النفس وفحصها وقد يكون مرضاً إذا استفحل وعم وتطلب منه كل وقته، ولكن مرض البحث في النفس هذا مرض نادر في الناس وأكثرهم لا يبلغ به البحث في نفسه منزلة صغيرة أو كبيرة ولو أن هذا البحث في النفس أصبح عادة لقل شرهم من غير أن يمنعهم بحثهم من الإقدام في الحياة إلا إذا استفحل وهو قلما يستفحل فيدعوهم استفحاله إلى الشك والتردد والإحجام واتهام النفس في كل أمر ولولا أن الناس يعلمون عن عيوب ضمائرهم وضمائر الناس الشيء الذي يحاولون إخفاءه ما كثر سوء ظنهم بالنفس الإنسانية، ومن العجيب أنهم يحاولون جعل حسن الظن بالنفس الإنسانية مبدأ عاماً وهم في سريرتهم يسيئون الظن بكل نفس من نفوس الناس، وهذا الاختلاف بين المبادئ النظرية والمعتقدات العملية أمر تشوق دراسته، والقصد من تلك المبادئ النظرية حمل الناس عليها للانتفاع بها لأن كل إنسان يود أن يحسن غيره به الظن وأن يسيء هو الظن بغيره، ومن عجائب الضمائر أنها قد تغري أصحابها بأن يعتقدوا إذا حلت بأعدائهم مصيبة أن المصيبة حلت بهم لأنهم أعداؤهم
والخبرة بالضمائر ينبغي أن تحذر المرء إذا رأى متخاصمين فلا يقول إن أحدهما فاضل ذو حق والآخر ناقص ذو باطل، فقد يكون كل منهما على حق أو على شيء من الحق أو على باطل، وقد يكون الأكثر حقاً هو الأكثر حظاً من الفضيلة، أو بالعكس قد يكون الأكثر حقاً هو أقلهما حظاً من الفضيلة، وقد يكون المناصر للحق والفضيلة بشعوره وعواطفه وبيانه هو أقلهما حظاً من الفضيلة، ولكن النفوس قلما تتقصى كل هذه الأمور ولا أهون عندها من أن تحكم بغير علم وأن تورط ضمائرها فيما حكمت فيه بغير علم، ومع هذا التورط فإن الناس قد يعرفون أن جليسهم غدار مغتاب بذيء اللسان فلا يمنعهم يقينهم وعرفانهم من مؤاخاته، وتتغابى ضمائرهم وتتعامى عن عيوبه وعن شره وقبح نفسه مادام مرجو النفع، فضمائرهم تتورط في الحكم بغير علم وتمتنع عن الحكم على علم
وفي الخليقة صنف آخر من الضمائر تكون أسقاماً عند أصحابها وتعظم عيوبهم في أعينهم، وهذا مرض نادر مثل مرض إيغال المرء في فحص نفسه
وضمير صاحب الشعور النبيل له أن يطالب بألا يعاقب على نبل شعوره ولكن ليس له أن يطلب جزاء أو شكوراً، إذا كان جزاؤه في نبل شعوره وإذا كانت مسرته فيه وشقاؤه في غيره
عبد الرحمن شكري