مجلة الرسالة/العدد 146/صداقة تدين التاريخ
→ عقبة على شاطئ المحيط | مجلة الرسالة - العدد 146 صداقة تدين التاريخ [[مؤلف:|]] |
درس من النبوة ← |
بتاريخ: 20 - 04 - 1936 |
(ألا إن لنا قلوبا)
للأستاذ أمين الخولي
- 1 -
في واد مشرق السماء، جهم الأديم، تضطجع بين الجبال، على سيف الصحراء، تلك العذراء الممنعة (مكة)؛ تكاد تنال بإحدى يديها مياه (القلزم)؛ حين تنسم عن بعد نسيم الشرق بعراقه وفرسه، تلتفت يمنة إلى بلاد العرب السعيدة، بدفء شتائها وأسباب حياتها؛ وترنو يسرة إلى مشارف الشام بوارف ظلالها، وفتون حضارتها
في واد غير ذي زرع حول البيت المحرم، منذ بضعة عشر قرناً كانت تخفق القلوب وجلة، وتختلج النفوس متطلعة، ويشيع في أولي الألباب تشوق وتلهف، استحال اضطراباً اجتماعياً، وثوراناً روحياً، على قديم لا يرضي العقل، ولا يسعد القلب، حتى هب نشاط أناسي منهم إلى انتجاع ذلك الجديد بالرحلة إليه، والنقلة في سبيله، مثلما تلتمس أسباب الرفاهة الحيوية، من أعراض التجارة وحطام الدنيا
- 2 -
في ذلك العهد الحائر، كان سيدان من سادات قريش، قد اكتملت لهما بسطة من الجسم والحلم، وظفرا بوفر من الحسب والكرم، حين سعدا بأخلاق تشابهت في السمو، حتى تلاقت فيهما نعوت الواصفين: لا يعيشان لأنفسهما، ولا يفكرن في ذواتهما. إنما هم أحدهم ظلم يرفع، وحاجة تدفع، ومعونة على الدهر، أو اضطلاع بإصلاح إذا كشر الشر
كانا في سن متقاربة، لا تقول هما لدان، ولكنهما متقاربان، سبق أكبرهما صاحبه إلى هذه الدنيا بعامين وشيء من الأيام
كانا يضربان في حياة تشابهت وديانها، وإن تخالفت ألوانها، الكبير تاجر يصرف الدراهم والدنانير، حين كان الأكبر يرعى الشاء ويدبر البعير، على هينة في ذلك وقلة عناية
توثقت بينهما صداقة عريقة، حين كان الأكبر يشارف الأربعين، قد بقى له من عدها عام، والكبير يبعد عنها بخطوات ثلاث وعدة أيام؛ فلهما الشباب المكتمل، والعقل المتزن. وم كانت بينهما هذه الصداقة إلا عن تآلف نفس، وتمازج روح؛ وإلا ففيم يتقاربان، والكبير يعرف من سبل الكسب وطرق الثراء، ما وراء أفق البادية الجديب، ويختلف إلى اليمن والشام يثرى ويربح، على حين ينصرف الأكبر عن المال والنشب؛ قليل الكد في سبيلهما، زاهدا في أسبابهما؛ يعتزل الناس فريدا ويتحنث وحيداً، يسائل الشمس والقمر، ويستنطق الريح والصخر، أي شيء هذا؟ وفيم العناء؟ وإلام المسير؟ وأين الثواء؟ هذه حالهما حين ربطت بينهما تلك الصداقة؛ فما إن نشك في أن هذا الصديق كان يشاطر صديقه هذا التساؤل، ويبادله ذلك التفهم؛ وإن وقف في ذلك دونه، لا يتكشف له من الآفاق ما يستشرف له الأكبر، ويطالعه في قوة روح آلف لهذا وأقدر
- 3 -
تعارفا وتآلفا؛ وما هو إلا عام حتى ظهر النور الأنضر، وجاء الفتح الأكبر. . واسر الصديق إلى صديقه أنه قد همس في أذنه، وألقي في روعه، وتفتحت له جنبات السماء، وأنه لمحدثه عنها حديث الرائي المشاهد. فإذا الكبير على آلفه؛ يرى بعين الأكبر، يستشف ما في روحه، ويجد في قلبه صورة ما تنطوي عليه جوانحه، فيؤمن معه أو يؤمن به؛ وإذا حياتهما قد صارت إيماناً، جار الأنفاس، ملتهب الإحساس، متصل الأسباب بالحق الأعظم، فزاد ما بينهما قرباً أو اتحادا. وصارت صداقتهما على ما اشتهى الواثقون بطهر الإنسانية ومعنوية الحياة؛ إذا ما قال الأكبر أنت أحب الرجال إلي، قال الكبير أنت إلي أحب الناس
- 4 -
اضطلع الأكبر بعبئه أمام الدهر؛ وخرج يدفع الإنسانية دفعاً، ويدير الحياة في غير مدارها، ويخط مستقبل التاريخ، وما أشق وأهول!
إذا ما أقبل النهار، وارتفعت الشمس، خرج يرى لنفسه، ويتلطف لأمره، بين بدو همل هائمين، وعتاة مأفونين، يناديهم أنه قد حل اللغز الأعقد، وظفر بالمجد الأوحد، اتصل من الله بسبب، ووقف من السماء بمنال، ويهجو إلهتهم، ويسفه أحلامهم. . فأي سخرية يلقى، وأي عناء يواجه، وبأي نقيصة يعترف. . . هو كاهن، وساحر، وشاعر، ومجنون، وممسوس، وكذاب وو. . .
فإذا ما كاد يبخع نفسه أن لم يؤمنوا؛ وإذا ما ذهبت نفسه حسرات عليهم، تلفت فإذا صورة نفسه قائم إلى جانبه، يواسيه ويرفه عنه، يمسح عن قلبه أوضار الألم، وقذائف التهم، حين يطب لجروح قد أسالتها أحجار المغترين وقذائف السفهاء المحمولين عليه، وما يزال كذلك حتى يسلمه في الليل إلى تلك الزوجة الأمينة الرزينة، التي فهمت عنه حين جهله الناس. واطمأنت إليه حين أنكره الناس. . فهو منهما في ألفة وطمأنينة. والنفس بالصديق، آنس منها بالعشيق. .
وكانت احن ومحن طالت بضعة عشر عاماً، فقد فيها الأكبر تلك الزوج، فكان نهاره وليله لصديقه الصدوق، وعنده انتهت مؤانسته، حين كان الهم يزداد والعناء يشتد
وخشي القوم خطر تلك الدعوة الدائبة، وهاتيك المهاجمة المصابرة، فزادوها قسوة وتنكيلا، وأشبعوا من نصرها ألماً وتعذيبا، فإذا الصديق يفي لأنصار صديقه وفاءه له: يجد في إنقاذهم، ويسعى في تحريرهم، باذلاً في ذلك ما ادخر وأثل؛ فإذا عتقاءه منهم سبعة نفر. . . ولقد أدركت ولا مراء، أنه لن يكون إلا الأعز. . . أبا بكر
- 5 -
هذان هما، قد نبا بهما المقر، وأجمع الناس كيدهم، فهو الموت والدم بدد، والثأر ضائع؛ ولكن الصديق أبداً مخلص، هو ظله حيث سار وردؤه فيما يرى لنفسه؛ وعفاء على الأهل والمال والولد والوطن، يخليها جميعاً ويخرج من الدنيا بصديقه. . . إلى التيه إلى الشرود، إلى المغامرات، إلى الكهوف والغيران، إلى الجوع والعذاب، إلى الدرك واللحاق، إلى الموت، إلى كل كريهة، ما هي إلا المحببة حين يريدها الصديق. وما أجله وأنبله حين أنزله الغار فلم يخفف، وحسبك أنه إنما يقول له: (لا تحزن أن الله معنا)؛ وما ظنك باثنين الله ثالثهما. . أجل لقد كانا كذلك انفراداً في الغار، كما كاناه انفراداً في صداقة وولاء ووفاء
- 6 -
رافقه إلى مأمنه؛ ولازمه في مهاجره، وتنفست الدنيا، وانبلج صبح الفوز، فظل له كما كان يوم عرفه قبل مبعثه، يبذل له قواه وروحه، كما يبذل له إخلاصه وبره؛ يحمل إليه فلذة كبده، يضعها في حجره، فتكون رسالة من قلب إلى قلب. وتمسي في النساء قرة عينه كما كان في الرجال أبوها له؛ يبذل له ماله، وما المال في ذلك كله؟ وأي شيء أربعون ألف درهم خرج من دنياه لا يعرف منها مكان درهم؟ يلازمه في حربه وسلمه، وصحته ومرضه، حتى تأذن الله له بالنصر، وأتم الرسول عليه السلام ما ندب له من حادث في مسير الدنيا، ومستقبل الكون، فإذا ذلك كله في التاريخ يعرف يد تلك الصداقة
- 7 -
وخرج الرسول عليه السلام من دنياه، فتصدع الأساس، وانشعب الأمر؛ ارتدت الجزيرة، واضطرب الباقون في قمع الخارجين. . . لكن الصديق النبيل الجليل قائم، يصل من وراء القبر روح صديقه، ويحسه قائماً إلى جانبه، فإذا هو جيش وحده، وإذا هو أمة وحده، وإذا هو الإسلام كله حين يقول لهم جميعاً: أيها الناس! لو أفردت من جمعكم لجاهدتهم في الله حق جهاده، حتى أبلغ من نفسي عذرا أو مقتلاً. . . فسارع الكل وظفر الإسلام
قرت الدولة، وانبسط السلطان، وأينعت الحضارة، وسعدت الإنسانية، وشهد التاريخ، فإذا ذلك كله يعرف ولا غرو دين تلك الصداقة
- 8 -
بني الشرق! إن السيوف قد استحالت في أيدينا خشبا، والمدافع قد أمست مواقيت للطعام وتلاهي للأعياد، والجو من فوقنا، والأرض من تحتنا، والبحر من حولنا، ليس من ذلك شيء لنا، لكنا ولا غرو نحتاز نفوسا، ونملك قلوباً موصولة السبب بتلك القلوب، فلو عرفت الإيمان لعشقت المجد، ولو أحست الوفاء لنالت أسباب السماء، ولو وجدت مس تلك الصداقة لنصرت دينا، وبنت دولة، ودانت التاريخ. . .
فهل تذكرون؟
أمين الخولي