مجلة الرسالة/العدد 146/الفتوح الإسلامية وأثرها في تقدم المدنية
→ الأزهر والحياة الفكرية في العصر الفاطمي | مجلة الرسالة - العدد 146 الفتوح الإسلامية وأثرها في تقدم المدنية [[مؤلف:|]] |
من مناظر الهجرة ← |
بتاريخ: 20 - 04 - 1936 |
للدكتور حسن إبراهيم حسن
إذا حاولنا أن نذكر في هذه الكلمة ما كان للحكومات الإسلامية من أثر في تقدم المدنية، ولم يكن ذلك إلا تكراراً لأمر قد فرغ منه منصفو المؤرخين شرقيين وغربيين
اتسعت رقعة الإسلام حتى زادت في السعة على الإمبراطورية الرومانية. وكان الرسول عليه الصلاة والسلام أول من وضع أساس السياسة الخارجية للعرب، فأرسل الكتب والبعوث إلى الملوك والأمراء يدعوهم إلى توحيد الله والإيمان برسالته، وغزا بلاد الروم وحارب الغساسنة على حدود الشام لما سخروا من دعوته واعتدوا على رسله وقتلوا أصحابه. وقد جهز قبل وفاته حملة لغزو أطراف الشام. غير أن وفاته قد حالت دون إنفاذها. ولما ولي أبو بكر الخلافة شرع في إتمام هذا الفتح؛ وجاء بعده عمر فعمل على توسيع رقعة الدولة الإسلامية. وإذا ما تتبعنا ما قام به الرسول من الغزوات والسرايا، وما قام به الخلفاء من بعده من الفتوح، وجدنا أنه كان لهذه الغزوات والفتوح أثر كبير في نهضة بلاد العرب من النواحي الاجتماعية والسياسية والأدبية وغيرها، كما كان لها الفضل الأكبر في نشر الإسلام في أرجاء الجزيرة العربية، ووضع الأسس والمبادئ العامة في تنظيم المعاملات بين أفراد الجماعة الإسلامية. ذلك أن الإسلام قد حرص على أواصر القرابة من أن تعبث بها الغيرة، كما سوى بين المرأة والرجل في جميع الحقوق تقريباً، وأحل الوحدة الدينية محل الوحدة القومية، وحث على التمسك بالفضائل، وعني بأسرى الحروب أيما عناية، وحاطهم بسياج من عدله ورحمته. ولم يذكر لنا التاريخ أن إماما من أئمة المسلمين أمر بقتل الأسرى، اللهم إلا من كان يخشى خطره على المسلمين. ولا غرو فإن الإسلام قد سوى بين الناس على اختلاف أجناسهم؛ فسوى بين الأبيض والأسود، والبدوي والمتحضر، والحاكم والمحكوم، وبين الرجال والنساء. انظر إلى المسلمين وهم في مسجد يؤدون فريضة الصلاة، أو في مكة يحجون البيت الحرام، أو في المحاكم الشرعية في صدر الإسلام، أفتجد فيهم من فاضل ومفضول؟ وقد ساعد الرسول على توحيد كلمة العرب تلك الديمقراطية التي جاء بها الإسلام، والتي تلاشت أمامها هذه الفوارق الجنسية التي طالما مزقت شمل العرب، وليس أدل على تلك الديمقراطية من قوله تعالى: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا. أن أكرمكم عند الله أتقاكم)، وقوله عليه الصلاة والسلام: (ليس للعربي على عجمي فضل إلا بالتقوى)
ولقد وضع الإسلام من الأصول والنواميس ما هو كفيل بالقضاء على الاسترقاق، لولا أن الأمم العربية وغيرها كانت إذ ذاك - على ما نعلم - من شدة التمسك بهذا النظام. وبدهي أنه لا يستطيع الرسول عليه الصلاة والسلام أن يزيل أمرا ألفته النفوس واستولى عليها ذلك الاستيلاء، على أن هذا الاستيلاء لم يغفل تعبيد الطريق لإلغاء الاسترقاق، فما فتئ الرسول يرغب الناس في العتق. وقد أبقى عليه الصلاة والسلام الرق لسببين:
أولهما: حفظ التوازن بين الدولة الإسلامية وغيرها من الدول كالفرس والروم، حتى يستفيد العرب من أسرى الأمم، كما استفادت هذه الأمم من أسرى العرب
وثانيهما: لحماية الضعفاء من نساء أكلت الحرب رجالهم، ولو تركن وشأنهن لكن عالة على المجتمع ومصدرا للشرور
على أن الإسلام، وإن لم يجد بداً من إباحة الرق، فأنه لم يترك الأرقاء هملا، فقد نظم شؤونهم، وأخذ بأيديهم في طريق الحرية. وقد وصف أحد الفرنجة معاملة الإسلام للرقيق بقوله: (لقد وضع للرقيق في الإسلام قواعد كثيرة تدل على ما كان ينطوي عليه محمد وأتباعه نحوهم من الشعور الإنساني النبيل، ففيها تجد من محامد الإسلام ما يناقض كل المناقضة الأساليب التي كانت تتخذها إلى عهد قريب شعوب تدعي أنها تمشي في طليعة الحضارة. نعم! أن الإسلام لم يلغ الرق الذي كان شائعاً في العالم، ولكنه عمل كثيرا على تحسين حال الرقيق، وأبقى الأسر، ولكنه أمر بالرفق بالأسير. ومما يدل على صحة هذا القول أنه لما جيء بالأسرى بعد غزوة بدر الكبرى فرقهم الرسول على أصحابه وقال لهم استوصوا بهم خيرا)
وعندما بسط الإسلام ظلاله خارج الجزيرة وجدنا أهل هذه البلاد المفتوحة يرحبون به بل ويحثون على اعتناقه لما فيه من الحرية والمساواة؛ فكان العرب أثناء حكمهم بلاد فارس والشام ومصر وغيرها من البلاد يقومون بحماية أهلها مقابل مبلغ معين، يدفع عن كل فرد قادر على القتال يسمى الجزية، وهي ضريبة شخصية يدفعها أهل الذمة مقابل إعفائهم من خدمة الجيش؛ وكانوا يعفون من تلك الجزية إذا اعتنقوا الإسلام؛ وكانت الأرض ملكا للفاتحين، غير أن العرب كانوا يتركونها للأهالي يزروعنها على أن يؤدوا جزءا من غلتها ضريبة عقارية تسمى خراجا
ولما استولى العرب على بلاد فارس والشام ومصر اتخذوا لأنفسهم طرازا للعمارة خاصاً بهم، يتناسب وطبيعتهم وحالة معيشتهم؛ وقد فاق هذا الطراز طراز الفن البيزنطي والفارسي من حيث الرقي وجمال التنسيق والإتقان. والعرب - كما لا يخفي - مولعون بالتقليد، كما أنهم معروفون بالابتكار المبني على هذا التقليد؛ وهم في ذلك أشبه بالأمة الإنجليزية. كذلك عني العرب بتخطيط المدن وشق المجاري لتوصيل الماء الصالح للشرب إليها. فشرعوا على أثر انتصارهم في موقعة القادسية (15هـ) في تخطيط مدينتي البصرة والكوفة، كما أسسوا على أثر فتحهم مصر مدينة الفسطاط
وكان لاختلاط العرب بالأمم التي تغلبوا عليها أثر كبير في تقدم المدنية. فقد بلغت النهضة العلمية أوجها في صدر الدولة العباسية بفضل تشجيع المنصور والرشيد والمأمون. فكانوا يبعثون البعوث للتنقيب عن الكتب القديمة في الكنائس والأديرة، وأرسل المأمون بعثات علمية إلى الهند والقسطنطينية لنقل الكتب النفيسة، ونشطت حركة الترجمة في ذلك العصر نشاطاً عظيما. فنقلت الكتب الفارسية والهندية والإغريقية إلى العربية، من بينها فلسفة أرسطو وهندسة أقليدس وجغرافية بطليموس، وغير ذلك من الكتب في الطب والفلك، وكان من أشهر المترجمين حنين بن اسحق، ويعقوب بن اسحق الكندي. وقد نهج الفاطميون والأيوبيون في مصر، وأمراء بلاد الأندلس في الغرب نهج العباسيين. كذلك اهتم العرب اهتماماً كبيراً بدور الكتب العامة حتى بلغ عدد المجلدات في مكتبة القاهرة في عهد الفاطميين خمسمائة ألف مجلد، وفي مكتبة قرطبة أكثر من أربعمائة ألف مجلد
ولم تقتصر علوم العرب على ما نقلوه من غيرهم. فقد فاقوا أساتذتهم من الفرس والإغريق، ولا غرو فقد شجع اتساع رقعة الدولة الإسلامية وانتشار التجارة فيها على رقي علم الجغرافية. ولا عجب فالعرب بدو رحل بطبيعتهم. ومن أشهر الرحالة من العرب المسعودي وابن جيير وابن بطوطة الذين طافوا الأقطار ووصفوا الجهات المختلفة وصفاً دقيقاً مبنياً على المشاهدات ومهدوا بذلك سبيل الكشف الجغرافي. كذلك اهتم العرب بعلم التاريخ فوضعوا فيه المؤلفات القيمة، كما نبغوا في الشعر والأدب. ولا غرو فقد أثرت فيهم بلاغة القرآن، وساعدت مظاهر الحضارة المادية وجمال المناظر الطبيعية، وبخاصة في بلاد الأندلس على رقي الخيال ورقة الشعر، كما برع العرب في فن الغناء والعزف على الآلات الموسيقية، وممن نبغ منهم في الموسيقى والغناء اسحق الموصلي ببغداد، وتلميذه زرياب بقرطبة، حيث أسس مدرسة للموسيقى تخرج فيها كثير من مشاهير الموسيقيين
كانت الدول الإسلامية في المشرق ومصر وبلاد الأندلس مركز الفنون والصناعات، ومنار العلوم والآداب، في الوقت الذي كانت فيه أوروبا غارقة في بحار الجهل. وقد اتصل الأوربيون بالعرب واقتبسوا من علومهم واستفادوا من حضارتهم عن طريق مصر والشام أثناء الحروب الصليبية التي قامت في القرن الحادي عشر الميلادي
فقد نزح إلى بلاد الأندلس طلاب العلم من أنحاء أوربا، فالتحقوا بمدارسها وجامعاتها، وانتفعوا بدور الكتب الكثيرة بها. فلما عادوا إلى بلادهم نشروا فيها علوم العرب. وبلغ من اهتمام الغربيين بالعلوم العربية أن أنشئوا في باريس في القرن الثاني عشر الميلادي مدرسة لتعليم اللغات الشرقية، وقد ظهر من الأوربيين علماء تشبعوا بعلوم العرب وطرق أبحاثهم. نخص بالذكر منهم العالم الإنجليزي رودجر بيكون الذي دعا الناس إلى دراسة العلوم الرياضة والطبيعية والاعتماد على التجارب للوصول إلى الحقائق العلمية، فبدأ الأوربيون يبحثون العلوم بحثاً علمياً كان له أثر عظيم في قيام النهضة العلمية. في أوربا ورقي الحضارة العربية. وقد نقل الأوربيون العلوم الطبية عن ابن زهر وابن البيطار، وعرفوا بصفة خاصة طرق معالجة الجدري والحصبة. وطالما كان يستدعي ملوك أوربا وأمراؤها الأطباء من العرب لمعالجتهم. وأسس الفرنسيون مدرسة للطب في مدينة مونبلييه قام بالتدريس فيها أساتذة من بلاد الأندلس؛ وكذلك استفاد الأوربيون من نبوغ العرب في الكيمياء. ولا تزال بعض المركبات الكيميائية، كالكحول والكافور والقلويات والأشربة تدل على أصلها العربي
وقد أخذ الأوربيون عن المسلمين كثيراً من أنواع النبات، كالأرز، وقصب السكر، والخرشوف، والمشمش، والبرتقال والزعفران، وأنواع الورد والياسمين؛ كما أخذوا عنهم الطواحين الهوائية لطحن الغلال، ورفع الماء، وأقاموا أول طاحونة منها في مقاطعة نرمندية سنة 1105م، كما أقاموا غيرها في هولنده. ولا تزال سهول بلنسية في أسبانيا تروى إلى الآن بطرق الري الفنية التي ابتكرها العرب. وقد نقل الأوربيون عن العرب كثيراً من الصناعات كصناعة السكر والحرير والورق كما عرفوا عنهم البوصلة التي كان لاستعمالها فضل كبير في توسيع نطاق الملاحة وتشجيع الكشف الجغرافي. وقد نبغ العرب في الفنون الحربية وصناعة السفن حتى أصبحوا أساتذة أوربا في ذلك المضمار. فكانت أساطيل الدول الإسلامية في حوض البحر الأبيض المتوسط نماذج تحتذيها البلاد المسيحية في صنع أساطيلها. ولا يزال كثير من الاصطلاحات العربية البحرية شائعاً على ألسنة البحارة في جنوه حتى اليوم. من ذلك كلمة المحرفة عن لفظ حبل، وكلمة الإيطالية المحرفة عن لفظ دار الصناعة
ولم تقتصر استفادة الأوربيين من العرب على العلوم والصناعات، فقد تأثر طلاب العلم من الأوربيين بالأدب في أسبانيا، وبخاصة الشعر والموسيقى، فنقلوا إلى بلادهم أشعار العرب وأناشيدهم وأغانيهم مما كان له أثر كبير في الآداب الأوربية. ولا عجب فقد كان للعرب حلقة اتصال بين المدنية القديمة والمدنية الأوربية الحديثة
حسن إبراهيم حسن
أستاذ التاريخ الإسلامي بكلية الآداب بالجامعة المصرية وكلية
اللغة العربية بالجامعة الأزهرية