مجلة الرسالة/العدد 146/العقيدة
→ الإسلام والمدنية والعلم | مجلة الرسالة - العدد 146 العقيدة [[مؤلف:|]] |
سمو الإنسانية في قلب الرسول الأعظم ← |
بتاريخ: 20 - 04 - 1936 |
للدكتور إبراهيم بيومي مدكور
غذاء القلب وطمأنينة الروح، ملجأ الضعيف وسلاح القوي. هي حقيقة امتزجت بحلاوة الخيال، أو خيال لبس أحياناً ثوب الحقيقة. وما هذا الخيال وتلك الحقيقة إلا صرح كثيراً ما شدناه بأنفسنا لأنفسنا كي نكمل ما في عالم الواقع من نقص، ونحقق بعض ما نصبو إليه من ميول وآمال. فإن ما فينا من قلب خافق وعواطف متأججة، ينزع إلى أماني ورغبات لا حصر لها. ولذتنا في تصور هذه الأماني وسعادتنا في السير وراءها. فإن لم نجد السبيل إلى تحقيقها حيث نرى ونسمع رسمنا لها مملكة سامية فوق مملكة الحس والمشاهدات، وآمنا بها إيماناً لا يقل عن إيماننا بالمرئيات والملموسات. على أن ما فينا من عقل يحلل ويبرهن ويعلل يدفعنا إلى الاعتقاد والاستمساك بآراء نتعصب لها وندين بها. فالعقيدة حاجة إنسانية وأثر من آثار قوى النفس على اختلافها. وهي فوق هذا ضرورة اجتماعية وركن هام من أركان التعاون والارتباط. ولا يمكن أن تتصور جمعية بشرية لا يخضع أفرادها لمبدأ واحد وعقيدة مشتركة. واتحاد الدين والعقيدة من أول الخصائص التي يتميز بها الشعب والأمة. وليست العقيدة المتحدة مجرد رمز وشارة للأمة فحسب، بل هي مصدر تأثير كبير وقوة لا نهائية. هي مبعث حرارة تدفئ القلوب فتدفعها إلى الأمام وتملؤها بالأمل والرجاء. ومستودع كهربائية عظمى يرسل في الأفراد ما يرسل من موجات سالبة وموجبة فيتجاذبون ويأتلفون، ويلتقون عند غاية واحدة وغرض أسمى. وإنا لنسير في الحياة غالباً بدافع من عقائد مختلفة بين دينية ووطنية وعلمية وفلسفية. والعقيدة كالأمل الحلو إن لم تبلغك الغاية فقد آنستك ونعمت بها زمناً. على أنها في ساعة الفشل خير عزاء، وعند اشتداد الخطب أقوى ركن تطمئن إليه إن وهنت الأركان كلها. وإذن فالعقيدة للفرد عون ونصير، وللجمعية باعث ومثير وهاد ومرشد
ومن حسن حظ الإنسانية أن المرء ميال إلى الاعتقاد بفطرته، ومدفوع إليه بغريزته؛ فالتسليم أصلي والشك عرضي، ولا أدل على هذا من أن حياة الإنسان الأول كانت سلسلة من العقائد يرتبط بعضها ببعض، وقد توارثها الخلف عن السلف وأذعنوا لها دون بحث وتعليل. والطفل وهو صورة مصغرة للإنسانية في أول نشأتها يسلم بكل شيء يلقى إليه، ويعتقد في السحرة والمشعوذين والجن والشياطين. ولا تبدأ حيرة الشك لديه إلا حين يصطدم عالم الفكر بعالم الواقع، ويتعارض أمامه أمران كان يؤمن من قبل بثبوتهما. فترتاب نفسه وتشعر بشيء من الخيبة لم تكن تتوقعه. ويظهر أن الشك كان في أول أمره ظاهرة عاطفية قبل أن يكون مناقشة عقلية وحساباً منطقياً. وليس الشك شراً كله، بل قدر منه مدعاة البحث ومفتاح الحقيقة، وقديما قالوا: الشك مبدأ الحكمة ومدرسة الحقيقة. وقد استطاع سقراط بين الإغريق بشيء من الشك التهكمي أن يستخرج المعارف من نفوس محدثيه ومناقشيه. ثم جاء ديكارت في التاريخ الحديث فاتخذ من الشك طريقة فلسفية ومبدأ علمياً. للشك حكمته ومنفعته، فهو ينبه الفلسفة إلى أخطائها ويقف العقل عند حده ويرشده إلى نقصه. غير أن قيمة الشك في طريقة استعماله ووضعه في موضعه. فالشك في كل شيء قضاء على المعرفة من أساسها وهدم للحقائق على اختلافها. وقبول المعلومات من غير بحث وتمحيص انقياد أعمى واستسلام مرذول وضعف في التفكير. وغني عن البيان أن الشك ضرب من الحرية واستقلال الرأي. ولا يستطيع أحد أن ينكر أن الشكاك القدامى والمحدثين لفتوا نظر الإنسانية إلى أخطائها الشائعة وكشفوا الغطاء عن كثير من أباطيلها المسلمة. وكل ما يؤخذ عليهم أنهم أرسلوا للشك العنان، وجالوا به في كل ميدان، فقضوا على ما كان فيهم من عبقرية، وأصبح شكهم داء بدل أن يكون دواء، وهدموا بالشمال ما بنوه باليمين. وليس في الشك المقبول امتهان للحقيقة أو اعتداء عليها، بل هو اعتداد بها وتقدير لها وجد في طلبها. حقاً إن الشك حيرة وحمى قد تخشى على النفس مغبتها؛ بيد أنه قل أن يقدر اليقين قدره من لم يغرق في بحار الشك قليلاً. والضال إذا وجد الطريق كان له بهذا فرحة تملأ العين والقلب
اليقين كلمة عذبة الجرس حلوة الرنين سامية المعنى رفيعة المداول؛ تطرب الأذان لسماعها، وتتوق النفس دائماً إلى أن تحظى بحقيقتها. ينشده العالم في بحثه، ويرمي إليه الفيلسوف في درسه، كلاهما يبغي أن يصل إلى الحقيقة الثابتة التي يذعن لها الجميع في مختلف الظروف والأمكنة. وإذا كان الشك اضطراباً وحيرة فاليقين هدوء وطمأنينة. هدوء لأنه راحة بعد عناء. ووصول بعد مجهود، وطمأنينة لأنه حصن حصين، وركن أمين؛ وكيف لا وهو قوة تستمد سلطانها من نور الحقيقة، وحال يشعر المرء فيها بأنه لا يسمع إلا صوت الحق ولا يصغي إلا لندائه. ولو تأملنا لوجدنا أنا في مرحلة اليقين أقوياء ضعفاء؛ أقوياء لأنا نحس بأنا نفذنا إلى قلب الأشياء ووصلنا إلى قمة العالم وتجردنا من قيود المادة والزمن واتصلنا بكل ما هو باق أزلي، وضعفاء لأن جلال الحقيقة التي نعتنقها أسكت كل صوت فينا، فألغى هواجسنا وخواطرنا، وقضى على ميولنا وأهوائنا، وأضعف شخصيتنا أو محاها بحيث نصبح ولغة العالم والإنسانية جمعاء ديدننا وشعارنا
هذا هو اليقين في ظواهره وأثره وشدته وبأسه. فهو إذن العقيدة في أكمل صورها والإيمان في أسمى أشكاله. وكثيراً ما حاول بعض الباحثين فصل اليقين من العقيدة، والمباعدة بين العلم والدين، ووضع حاجز بين العقل والعاطفة؛ إلا أن اليقين لا يتحقق إلا بعد عقيدة سابقة، والعقيدة إن سمت وكملت أضحت يقيناً. والعلم برهن غير مرة على أن له نطاقاً لا يتعداه وحدوداً لا يستطيع أن يتجاوزها؛ فليدع الدين يتكلم فيما أعد له ويتصرف في دائرته. والإنسان عقل وقلب وتفكير وعاطفة؛ ومن العبث أن يهمل أحد هذين الجانبين أو يلغى، فإن ذلك خروج على الطبيعة وعكس لنظام الأشياء. وليس من عار أن يكون في الأديان قدر كبير يرضى العواطف الإنسانية، بل العار كله أن تخلو من ذلك.
إبراهيم بيومي مدكور