مجلة الرسالة/العدد 145/صورة من المجتمع الجزائري
→ في المباراة الأدبية | مجلة الرسالة - العدد 145 صورة من المجتمع الجزائري [[مؤلف:|]] |
الحياة الأدبية في الحجاز ← |
بتاريخ: 13 - 04 - 1936 |
إني أرى في المنام!
للأستاذ محمد سعيد الزاهري
عضو جمعية العلماء الجزائريين
خرج من السوق خائباً مكتئباً، ملامحه عليها غبرة ترهقها قترة، تدل على ما يأكل نفسه من الهم القاتل، والحزن العميق، يحمل في إحدى يديه (قفة) فارغة لا شيء فيها، وفي الأخرى (سبحة) غليظة جداً، وهو يقول بصوت واضح مسموع: (هذا ما يريد لي فلان، وهذا ما يريد لي فلان. . .) وذكر ناساً بأسمائهم من رجال الإصلاح الإسلامي في الجزائر، ومضى يردد ما يقول إلى مسافة بعيدة من السوق
هو (شيخ) لإحدى الطرق الصوفية في هذه البلاد. قد وهن العظم منه واشتعل الرأس شيبا. تراه فترى وجها كالحا مسنوناً، ولحية قذرة صفراء كان دخاناً كثيفاً لا يزال يتعهدها ويغشاها من حين إلى حين. كان يعتنق طريقة صوفية، فلما لم يجد فيها معاشا تحول عنها إلى طريقة أخرى يعيش فيها حميلة أحبابها ومعتنقيها، فلا يدع وليمة ولا جنازة لأحدهم إلا هرول إليها متعرضا لما قد يكون فيها من صدقات أو نفحات. ولقد مرد على هذا الأسلوب من التكسب فأتقنه وتفنن فيه، فهو يبث العيون والأرصاد يتنسمون له أخبار الأفراح والأتراح، ويُرسل في المدائن حاشرين يأتونه بالزوار والمريدين يرجون مغفرته ويلتمسون منه البركة والخير! ويرتكب هؤلاء الدعاة الذين يدعون الناس إليه ضروباً من الترغيب والترهيب، فينحلونه المناقب والصالحات، والخوارق والمعجزات! فيزعمون (أن من يطيع الشيخ فقد أطاع الله) وأن الرسول (ص) لا يفارق الشيخ طرفة عين، وأن من اتبع الشيخ فجزاؤهم عند ربهم جنات عَدْن يدخلونها، وأن من خالفه مأواهم النار وبئس المصير
وقفوا ذات يوم على فاكِهيّ وقالوا له: إن شيخنا يقرئك السلام ويقول لك يا بني إني أرى في المنام كأنك تتخبط في ضحضاح من النار وأنت تستغيث فلا تغاث حتى استغثت بي، وذكرتني باسمي فأخذت بيدك، وأنقذتك من الهلاك. وتعبير هذه الرؤيا هو أنك رجل قد غرق في ذنوبه وخطاياه، ولا خلاص لك إلا بأيدينا. . . ثم لا يزال هؤلاء ب إليه الشيخ، ويحثون على زيارته، حتى يقع في الفخ، ويزور الشيخ ويأخذ عنه (الوسيلة). وهنا يصير مريداً ممن يرزقون الشيخ، ويؤدون إليه كل ما هو في حاجة إليه من طعام وشراب ومن نقود ومتاع
ولقد مد الشيخ أحبولته مرة أخرى فاصطاد رجلا مخلصاً بسيطاً، طيب القلب. يقال له (علاّل)، وكان هذا عاملا مجداً يدر عليه عمله كسباً وفيراً، وخيراً كثيراً. وكان سمحاً كريماً، فكان يرزق الشيخ ويقوت عيال الشيخ، ويجزل له العطايا والهبات. فلم يكن يشتري لنفسه شيئاً إلا اشترى مثله للشيخ، ولا قضى لنفسه حاجة إلا قضى للشيخ حاجة مثلها، فإن اشترى لنفسه رطلا من البن أو العنب اشترى للشيخ من ذلك رطلا أو رطلين اثنين، أو فصل لنفسه عباءة فصل للشيخ عباءة أحسن منها وأغلى وهلم جرا
واتفق أن صاحباً لعلاّل قدم من الحج فأهدى إليه عمامة حجازية من الحرير الغالي، فأهداها بدوره إلى شيخه، وأن صاحباً له أخر قدم من فاس فأهدى إليه (جلاّبة) من القماش الرفيع الذي يلائم مرح الشباب، ولا يصلح للشيخ الفاني، وأراد الرجل أن يرتديها فتذكر الشيخ فاشترى له (جلاَّبة) تناسب الشيخوخة ووقارها بقيمة تفوق قيمة (جلابته) الأولى، وارتداها في يوم جمعة، وما هي إلا أن رآها الشيخ عليه حتى أرسل إليه من يحثونه على أن يهديها إليه، فانتزعها لفوره من على ظهره ووهبه إياها، فأرسل الشيخ بالعمامة و (الجلابة) إلى السوق فباعهما ببعض ثمنهما؛ وشهد (علال) صفقة البيع، وظن أنهما سرقتا من الشيخ فسأل الدلال عنهما فأخبره بالواقع، فكبر عليه أن تباع (هديته) وهو يسمع ويرى، فاشتراهما للمرة الثانية، وجعل يحدث نفسه ويقول:
ترى أبلغ من هواني على الشيخ أن يبيع ما أهديه إليه؟ وما هو مصير هدياتي) الأخرى؟ أم بلغ من هوان الشيخ علي نفسه أن يتاجر بما يهدي إليه الناس؟ وعلى أية حال فأنا لا أرضى لنفسي هذا المصير. وأحس الشيخ أن الرجل قد بدا يتنكر له ويجفوه، فخشي أن يفلت من يديه، ويولي عنه مدبراً. فعزم في نفسه أمراً، وعزم أن يلعب آخر دور في الرواية، وكان يعلم أن عقيلة علال تملك حلياً ومصوغا ومبلغاً من المال، فدبر للاستيلاء على ذلك حيلة من عمل الشيطان، فبلغ بها ما أراد. وذلك بأن أرسل إليها نساء ماكرات من اللائى قد أعدهن لمثل هذا الأمر، فقلن لها: إن سيدنا يقرئك السلام، ويقول لك يا بنيتي إني أرى في المنام أنك كنت مضطجعة نائمة، فجاءت امرأة أخرى فاختطفت منك غطاءك الذي يغطيك وكان من الحرير الأبيض بياض الثلج، فوثبت أنت من سريرك فزعة مذعورة تستغيثين وتملئين الدنيا ولولة وصياحاً:) غطائي! ستري! غطائي! ستري!) فاجتمع عليك خلق كثير، فكان اجتماعهم هذا ضغثاً على إبالة، وزاد في مصابك ولوعتك أن أحداً منهم لم يتقدم لإغاثتك، حتى جئت أنا وانتزعت من الغاصبة غطاءك ورددته عليك. ثم قلن لها إن تعبير هذه الرؤيا هو أن امرأة أخرى ستأخذ منك زوجك ولا يرده عليك سوى سيدنا، وهو يستطيع أن يدفع عنك هذا البلاء سلفاً من الآن، بشرط أن تدفعي إليه ثلاثة آلاف فرنك مقدماً. فرجعت السيدة إلى نفسها تبحث حياتها الزوجية فلم تعثر على أدنى شيء ينبئ بصدق هذه الرؤيا فلم تطاوعها نفسها أن تتهم زوجها ظلماً بغير حق أو أن تظن به الظنون، وهي ما علمت عليه من سوء. فلم تكترث لهذه الرؤيا، وقالت إنها أضغاث أحلام. ولكن الشيخ كان جاداً غير هازل، فدس إلى فتاة من الفتيات اللائى ينتمين إليه من أوهمتها أن الشيخ قد دعا الله لها أن يرزقها زوجاً كريماً، وأن الله قد استجاب له فيها، وقال: (إني أرى في المنام أن فلانة قد زُفت إلى علال في احتفال رائع مهيب. وكانت هذه من الآنسات العانسات، ففرحت وأعطت الشيخ من العطاء الجزيل ما أرضاه، وجعلت منذ ذلك اليوم تعرض لعلال، وتبدي له من زينتها تفتنه وتغريه حتى وقعت من نفسه، ومال إليها، وشرع الشيخ يمهد لها الطريق، فدس إلى علال من يهدمون عليه أسرته الهانئة السعيدة، ويملؤون سمعه بما يفرقون به بين المرء وزوجه. وما هي إلا أن وقع بين الزوجين خلاف بسيط حتى أخرج علال أم ولده من دارها وأطلق سراحها. وسرعان ما التف به أعوان الشيخ وأحكموا الصلة بينه وبين الفتاة العانسة، وعقدوا له عليها من ليلته عقدة النكاح
وأتى على المطلقة حين من الدهر تجرعت فيه طعاماً ذا غصة وعذاباً أليماً، وذاقت من مصائب الدهر وأرزائه ما لا يعلمه إلا الله، فلقد خسرت زوجها على حين غفلة، وهي أشدّ ما تكون حباً له واطمئنانا إليه، وإخلاصاً له وحدبا عليه. وهي تخشى أن ينتزع وحيدها من بين أحضانها، وهي لا تُطيق أن تتحطم سعادتها وهناءتها ليتم هناء عدوتها؛ ولقد فكرت في الانتحار، وهمت به مراراً لولا إبقاؤها على وحيدها، ولكنها التجأت أخيراً إلى الشيخ مذعنة طائعة، قد أسلمت له وجهها، وفوضت إليه أمرها، ترجوه أن يعيد إليها زوجها، وله بعد ذلك ما يشاء ويختار، فرفع القيمة هذه المرة، وجعلها عشرة آلاف فرنك تدفعها إليه نقداً. وبعد توسلات ومساومات رضي فتسلم منها خمسة آلاف نقدته إياها، وباعت فيها بعض ما تملك من حلي ومصوغ. وقعدت في دارها تنتظر النتيجة على أحر من الجمر
وطفق الشيخ يتودد إلى (علال) ويلاطفه حتى نسى الماضي القديم، وأحله من نفسه محل الثقة والرضى. وما استيقن الشيخ من الرجل حتى قال له ذات يوم - وهما على انفراد -: يا بني إني أرى في المنام أنك لست بخير في أهلك هذه التي لم تتعظ بكونها قضت زهرة أيامها عانسة بائرة، فقد حادت عن طريق الشرف والاستقامة من غير أن تحفظ لك غيباً أو تعترف لك بجميل. وأنا كما تعلم إذا رأيت الرؤيا جاءت كفلق الصبح. وكان الشيخ قد أوعز إلى بعض أعوانه فأخبروا علالا بأن عرضه أصبح مضغة في الأفواه، تلوكه ألسنة السوء، وأن النساء في الحمامات وفي الولائم والمناحات يسلقن أهله بألسنة حِداد. فما كذب الرجل فيما سمع، وأسرع إلى (خيْرةَ) ففك عصمتها وأعلنها بطلاقها، وهي ما تزال بعدُ عروساً في خدرها، ولم ينصل خضابها. وغدا عليه الشيخ في وجوه من أعوانه وشركائه 0يتوسل إليه) أن يراجع زوجته الأولى، ويقول له: يا يني إني أرى في المنام أن جبريل عليه السلام قد زوجكها من فوق السموات العلى، فأذعن الرجل، ولم يكد ينقضي يومه ذاك حتى كانت قد جليت عليه مرة أخرى
لقد اطمأنت (خيرةُ) إلى الأيام، وحسبت أن زواجها هذا قد جعل حداً لوحدتها وشقائها، وظنت أنها بهذا الزواج مقبلة على حياة منزلية هانئة سعيدة لا حزن فيها ولا عناء فإذا بها تتلقى هذه الصدمة العنيفة القاسية الأليمة التي لا رحمة فيها، فتملأ نفسها حيرة واضطراباً، وتملؤها ظلمة ويأساً، فلم تطق الصبر ولا الاحتمال، فتحنق وتثور انتقاماً لنفسها، فإذا هي تنقم من نفسها، وقد ضلت السبيل، واندفعت في الغي وسقطت في الهوة التي لا قرار لها
وأراد الشيخ أن يحج إلى بيت الله الحرام لا إيماناً واحتساباً لأنه ممن يزعمون أن زيارة الضريح الفلاني تعدل عند الله ثواب حجة وعمرة معاً؛ ولكنه يريد التكسب والارتزاق، فطاف على الناس يستعينهم على الحج، فيزعم لهذا أنه سيدعو له الله تعالى عند البيت المحرم، ويزعم للآخر أنه سيستغفر له عند مقام إبراهيم، ويتناول على ذلك أجره سلفاً. أما الذين يستلمُ منهم سلفاً أثمان (الأردية) و (العمائم) و (السبحات) وما إلى ذلك مما سيحمله لهم معه من الحجاز فهم كثيرون جداً، لا يكاد يأخذهم إحصاء. وانتهى به المطاف إلى ضحيته (خيرة) فدخل عليها وهي في منزلها، وقد أثرت من حياتها الجديدة الماجنة وأصبحت ذات مال فخجلت لمرآه وأدركها الحياء، غير أنه أخذ يزين لها ما هي فيه، ويزعم لها أن الله قد غفر لها جميع ما اكتسبت من الخطيئة والإثم. وقال لها: يا بنيتي إني أرى في المنام أن سيد الوجود (ص) يقول لك: طوفي بالبيت العتيق وزوري قبري تخرجي من ذنوبك كيوم ولدتك أمك، فإن لم تستطيعي إلى الحج سبيلا، فليحج عنك هذا الرجل الصالح (يعني الشيخ نفسه). ولم يزل بها حتى آمنت له، ودفعت إليه سائر النفقات ليحج عنها. فلما آب جاءها ببعض الهدايا مكتوباً عليها: (إلى الحاجة خيْرة)!
كان الناس في بحبوحة من اليسر والرخاء تملأ أيديهم الدراهم والدنانير فكان الشيخ في نعيم وعيش رخيم، يأتيه رزقه رغداً من كل مكان: هذا يعطيه رطلاً من اللحم ويحمله له راتباً يومياً، وذاك يعطيه شيئاً من الخضر والفواكه، ويجعله له عطاء غير مجذوذ، وذلك يهدي إليه قنطاراً من السميد، ويجعلها له جراية شهرية وهكذا الخ الخ، فكان إذا دخل السوق خرج منها و (قفته) ملآى - مجاناً - بكل ما هو في حاجة إليه. فلما أعسر الناس، وضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وضاقت عليهم أنفسهم من شدة ما يعانون من ضنك وضيق نضبت موارد الشيخ، وانقطعت عنه الرواتب والعطايا، ولم يعد يملأ (قفته) بالمجان، ولم يعد يلتمس لنفسه صدقة جارية عند أحد الباعة إلا وجدها قد بطلت. وقطعت الأزمة دابرها، فالأزمة إذن هي السبب الأول في مصاب هذا الشيخ، وزملائه من الأشياخ، فإن كان لابد لهم أن يلوموا هذه الأزمة الخانقة، وليلوموا بعدها هذه اليقظة الشاملة التي شملت الدنيا كلها، ثم يأتي بعد ذلك دور هؤلاء المصلحين
(وهران)
محمد السعيد الزاهري