مجلة الرسالة/العدد 145/صورة من الحياة العلمية في مصر
→ الحياة الأدبية في الحجاز | مجلة الرسالة - العدد 145 صورة من الحياة العلمية في مصر [[مؤلف:|]] |
قرب الموتى ← |
بتاريخ: 13 - 04 - 1936 |
4 - تقي الدين السبكي
بقلم محمد طه الحاجري
تتمة
ولقد خلفت له هذه الولايات متاعب غير قليلة، وأثارت عليه دفائن من الحقد وسخائم القلوب، فقد نقم عليه ولايته قضاء الشام قوم من أهلها كانوا يطمعون فيها؛ وأخص هؤلاء أسرة جلال الدين القزويني قاضي قضاة الشام من قبل، وطبيعي أن يأخذ ذلك الحقد سبيله من السعاية والوشاية والتحريض عليه والتنفير منه؛ ثم كانت ولايته لخطابة الجامع الأموي مما زاد الأمر ضغثاً على إبّالة؛ فقد كانت الخطابة في بيت القزويني كذلك، ويقول زين الدين عمر بن الوردي في تاريخه: (لما توفي الخطيب بدر الدين محمد بن القاضي جلال الدين القزويني خطيب دمشق تولى السبكي الخطابة، وجرى بينه وبين تاج الدين عبد الرحيم أخي الخطيب المتوفى وقائع، وفي آخر الأمر تعصبت الدمشقة مع تاج الدين، فاستمر خطيبا). وكذلك أغضبت ولايته مشيخة دار الحديث الأشرفية قوما من أهل الشام كانوا يرشحون شمس الدين بن النقيب، ولقد سيقت إليه هذه الولاية وهو كاره، إذ كان قد رأى أن الذهبي هو الأحق بها وقد عينه لها، لولا سلطان الشهوات كما سنرى ذلك
هذا وجه من وجوه الحالة في الشام، وقبيل مما كان يسبب له المتاعب والآلام؛ وهناك وجه آخر يتعلق بما أشرنا إليه من قبل عما أوجده مذهب ابن تيمية من تفريق وخروج على المذهب الرسمي السائد
وقد رأينا أن اختياره كان منظورا فيه إلى تلك الحالة من السلطان، ونقول الآن إن القوم في دمشق كانوا يرون فيه ذلك أيضا، وكانوا يأملون أن يخلصهم من آثار (الحنابلة) وما أثاره زعيمهم القوي الجديد؛ ولعل المطامع الشخصية حسبت في ذلك سلما يمكن أن ترتقيه وتصل إلى أغراضها في مظهر ديني سابغ؛ ولكن تقي الدين كان أحكم من أن ينخدع بمثل هذا، كما كان أكبر من أن يخلط في تقدير الأمور؛ فأغضب الطامعين ولم يرض جماعة المتشددين المتك وهنا يحسن بنا أن ننقل نص ما حكاه التاج السبكي عن أبيه في أثناء ترجمته للحافظ أبي الحجاج المزي، ففيه صورة دقيقة حية لما حن بصدده، قال:
(. . . . وحكى لي، فيما يحكيه من تسكين فتن أهل الشام، أنه عقب دخول دمشق بليلة واحدة حضر إليه الشيخ صدر الدين سليمان بن عبد الحكم المالكي - وكان الشيخ الإمام يحبه - قال دخل إلي وقت العشاء الآخرة، وقال أمورا يريد بها تعريفي بأهل دمشق، قال: فذكر لي البرزالي وملازمته لي، ثم انتهى إلى المزي فقال: وينبغي لك عزله عن مدرسة دار الحديث الأشرفية، قال الشيخ الإمام: فاقشعر جلدي، وغاب فكري، وقلت في نفسي: هذا إمام المحدثين! والله لو عاش الدارقطني لاستحيا أن يدرس مكانه! قال: وسكت، ثم منعت الناس من الدخول على ليلا، فقلت هذه بلدة كثيرة الفتن؛ فقلت أنا للشيخ الإمام: إن صدر الدين المالكي لا ينكر رتبة المزي في الحديث، ولكن كأنه لاحظ ما هو شرط واقفها من أن شيخها لابد أن يكون أشعري العقيدة، والمزي وإن كان حين ولي كتب بخطه أنه أشعري، إلا أن الناس لا يصدقونه في ذلك فقال: أعرف أن هذا هو الذي لاحظه صدر الدين، ولكن من ذا الذي يتجاسر أن يقول: المزي لا يصلح لدار الحديث؟ والله ركني! ما يحتمل هذا الكلام!
فأنت ترى أن أول ما ووجه به السبكي في الشام هو الإنكار على البرزالي والمزي وإضرابهما، ممن يتهمون بالميل مع ابن تيمية وأن أول ما تقدم به إليه فقهاؤها هو (إعلان الحرب) على هؤلاء، وموقف السبكي من هذا موقف نبيل مجيد، فقد رأى الأمر فتنة لا ينبغي أن يفتتن فيها مع المفتونين، فركن إلى دينه وضميره، وترك بنيات السبل، ولم يعبأ بهذه الصغائر وما تنطوي عليه من إنذار وتهديد، ولبث مصاحبا للبرزالي ملازما له، إلى أن خرج إلى الحج وقضى نحبه، ثم ما فتئ يذكره ويثني عليه أطيب الثناء، وأقر المزي في مكانه بدار الحديث إلى أن مات سنة 742هـ، وكان يكبره غاية الإكبار، ويحث ابنه على ملازمته والانتفاع به، لا يصرفه عن ذلك تقولات المتقولين ولا ازورار المزورين
ولما مات المزي كان ثمت مظهر آخر من مظاهر هذه الفتنة في تعيين خلف له، فقد كان الذهبي هو وحده البقية الباقية من رجال الحديث الجديرين بتولي مشيخة (دار الحديث) ولكنه كان متهماً بمشايعة الحنابلة شيعة ابن تيمية، فمال عنه القوم لذلك، ورشحوا شمس الدين بن النقيب، ودعوا له ولجوا في الدعوة. أما السبكي - وإليه حق التعيين - فلم يغلبه الهوى على الحق، ولم تأخذه في سبيل العلم عصبية، ولم يبال بصياح الصائحين، فعين الذهبي في ذلك المنصب. وهنا اشتدت ثورة القوم وعلا صخبهم، وهو مصر على رأيه حتى لم يبق بد من حضور نائب الشام وكان في ذلك الحين (الطنيغا)، فلم يستطع التوفيق. وأخيراً رأى شيخ الحنفية أن تحل الأزمة بأن يتولى المشيخة السبكي نفسه، ووافق الأمير على هذا الرأي وهو يقول: (أعلم الناس بهذا العلم الذهبي وقاضي القضاة، وقاضي القضاة أشعري قطعا، وقطع الشك باليقين أولى.) وانتهى الأمر على ذلك بعد أن كاد يفضي إلى فتنة لا يعرف مداها
فموقف السبكي هذا من شيعة ابن تيمية وإغضائه عن العصبية المذهبية هذا الإغضاء وعدم مسايرته الأشاعرة في كل ما يشتهون أفسح المجال أمام المنخرصين، ومكن الحقد من أن يجد سبيله معبدا بين جمهور الناس وفي مجالس الخاصة، ولاسيما في مجلس الأمير نائب دمشق، ففسدت الصلات بين الشيخ وبين أغلب الذين تولوا نيابة الشام، وكثيراً ما قامت الحرب بينه وبينهم، وما كان يطفئها إلا ما كان ولاة ذلك العهد معرضين له من العزل الوشيك أو القتل المفاجئ
على أن السبب الأول في توتر العلائق بينه وبين النواب يرجع - في حقيقة الأمر - إلى صلابته في الحق، وصراحته في تقريره، وتقديره لقدر منصبه، واعتباره إياه حرماً لا ينبغي لأحد أن يتطاول إليه أو ينال منه؛ فهو الحفيظ على الحق الذي جاء الشرع ببيانه؛ فكل تفريط فيه، أو تعريض له، أو ملاينة في تنفيذه فإنما مردها إلى هذا الشرع الذي يقدسه، وحاشاه! وكان الولاة من ناحية أخرى، قوماً عجما، أدعياء في الدين، لا يتعدى إيمانهم مظهرهم، ولا يعرفون الحق إلا أمراً ينفذ، وشهوة تقضى، وعتواً واستكباراً في الأرض، إلا قليلاً منهم. ثم كان يزيد اضطراماً ما كان يلقيه فيها من السعايات والنمائم من كانوا يداخلونهم من أهل الشام، ومنهم بعض العلماء مثل شهاب الدين العمري الذي كان يقع فيه في مجلس الأمير ايدغمش ومما يدل على دسائس القوم عند الولاة أن أحد هؤلاء الأمراء، واسمه فيما يورده صاحب الطبقات (طغره تمر) كان فيما يقول من أصحب الناس له في مصر، فلما جاء إلى الشام غيّره عليه الشاميون، وأعانهم عليه امتناعه من امتثال أوامره
ولقد هم السبكي مرة أن يستقيل من منصبه، وكان ذلك في ولاية ايدغمش سنة 742، وكان قد بلغ في معاندته وإيذائه مبلغا كبيرا. ولكنه يظهر أنه رأى في هذه الاستقالة تحقيقا لشهوته، وتخليا عن واجبه، فعدل عنها واستمر في مجاهدته. وأراد ايدغمش أن يتخلص منه، وأن يلتجئ إلى دعوى الدين في محاربته، فجعل يجمع الفقهاء للفتوى عليه - وما كانت تعوزهم مقدمات الإفتاء - وكاد الأمر يتم للنائب لولا أن جاء (البريدي) إلى الشيخ يطلبه إلى باب السلطان في أمر من الأمور، فذهب إلى مصر، وهناك أوجد أزمة غير هينة الحل؛ فقد أصرّ على ألا يعود إلى الشام وفيها ايدغمش، وليس من اليسير عزل نائب من أجل قاض مهما علت منزلته. ولكن القدر كان أسرع إلى حل هذا الأزمة وأقضى فيها من كل تدبير وقضاء، فقد جاء الخبر بموت ايدغمش موت الفجاءة، وعاد الشيخ إلى دمشق يعيد سيرة الحق المجاهد الظافر
وممن آذاه وأضجره نائب اسمه (أرغون شاه)، تولى نيابة الشام سنة 748، ويروى أن الشيخ كان يمسك بطرزه ويقول له: (يا أمير! أنا أموت وأنت تموت!) وتأمل أنت في هذا قوة الإيمان والجرأة في الحق. وقد ظل ذلك الرجل في نيابة الشام سنتين ثم قتل
كان آخر هؤلاء النواب أرغون الكاملي، وكان رجلا فظا غليظ القلب. وقد حكى تاج الدين أن أباه (حكم مرة في واقعة جرت وصمم فيها، وعانده أرغون الكاملي نائب الشام وكاد الأمر يطلخّم شاما ومصر، فقد ذكر القاضي صلاح الدين الصفدي أنه عبر إليه وقال: يا مولانا! لقد أعذرت، ووفيت ما عليك؛ وهؤلاء ما يعملون الحق؛ فلم تلق بنفسك إلى التهلكة وتعاديهم؟ فتأمل ملياً ثم قال:
فليت الذي بيني وبينك عامر ... وبيني وبين العالمين خراب
ويا عجبا لتلك الشيخوخة التي لا تزيدها الأيام إلا صلابة وقوة، وذلك الإيمان الذي لا تزيده مظاهر القوة إلا غلبة واستعلاء
وهكذا كانت حياة تقي الدين السبكي في الشام: ملجأ للحق يلوذ به ويعتصم، ومثالا للخلق القوي الذي لا يتثلم، وآية من آيات الله على قوة الروح الإنسانية متى خلصت من الرعونات والترهات فلا يغلبها غالب ولقد كان الحنين إلى الوطن يهز الشيخ هزا، فذهب إلى مصر، وخلع عليه سلطانها، ثم عاد منها إلى دمشق سنة 754 (1353م)
وفي ذي القعدة سنة 755هـ (1354) نال منه الضعف وأدركه المرض؛ ولما اشتد عليه استخلف على قضاء الشام ابنه تاج الدين، فتقلده. وكان في أثناء مرضه شديد اللهف على العودة إلى وطنه عظيم الحرص على أن يدركه فيها أجله؛ فسافر إلى مصر ولبث فيها أياماً يكابد العلة، حتى أدركته الوفاة ليلة الاثنين 3 جمادى الآخرة سنة 756 (10 سبتمبر سنة 1354م) وخلف ميراثا جليلا ضخما مما صنفه في كثير من الفنون، وميراثا آخر أجل وأضخم في ابنيه العلامتين: بهاء الدين وتاج الدين. ولعل الله يوفقنا لدراسة حياتيهما، ورسم صورة لهما
كلية الآداب
محمد طه الحاجري