مجلة الرسالة/العدد 144/صورة من الحياة العلمية في مصر
→ في تاريخ الفقه الإسلامي | مجلة الرسالة - العدد 144 صورة من الحياة العلمية في مصر [[مؤلف:|]] |
عند بحر مويس شتاء ← |
بتاريخ: 06 - 04 - 1936 |
3 - تقي الدين السبكي
بقلم محمد طه الحاجري
- 3 -
وبعد أن قضى من الشام حاجته عاد إلى مصر سنة سبع، فاستوطن القاهرة، وانقطع فيها لتصنيف الرسائل والكتب، وتعليق الشروح، والجلوس للطلاب. وقد ألقيت إليه رياسة الشافعية، فجعلت الأسئلة والاستفتاءات ترد عليه من أنحاء الشرق العربي كثيرة متلاحقة، وهو يجيب عليها ويفتي فيها. وكان من عادته - كما ذكر ابنه تاج الدين - أن يشرك في بحثها ومناقشتها أبناءه وتلاميذه، إلا أن تكون متعلقة بأحوال المتصوفة وأهل الباطن فيكتم أمرها وأسماء أصحابها وما يراه فيها. إذا كان ذلك خارجا عن حدود النظر العقلي والاستدلال المنطقي
وقد لبث على ذلك - منذ عودته من السماع بالشام إلى رجوعه إليها قاضي قضاتها - أثنين وعشرين عاماً، حج في أثنائها ثم ذهب إلى المدينة لزيارة قبر الرسول ﷺ، وكان ذلك سنة 716هـ
ولم يل تقي الدين في هذه الفترة عملاً يتصل بالسلطان، أو أمراً من أمور الدولة، على كفايته ومقدرته، فقد كانت تنقصه المرونة الخليقة التي تقضي بالتزلف والتودد، ثم بالمصانعة والمداهنة والإغماض في الحق أحيانا؛ ولهذا كانت مادة عيشه تافهة ضيقة مهددة بما تقضي به شهوات الأمراء وغايات المزدلفين؛ فكل ما نعرف من هذا أنه تولى مشيخة جامع ابن طولون فترة من الزمن، وكان يأتيه منها رزق زهيد مما وقفه عليه الملك المنصور حسام الدين لاجين (696 - 698هـ 1296 - 1298م) ولكن هذه المشيخة لم تلبث أن طارت من يده وأخذت منه سنة 719 (1319م). وله في هذا المقام شعر نورد شيئا منه، لأنه - مع ركاكته - يدل على روحه العلمية الخالصة التي تضع العلم فوق كل اعتبار:
كمال الفتى بالعلم لا بالمناصب ... ورتبة أهل العلم أسنى المراتب فلا تعدلن بالعلم مالاً ورفعة ... وسمر القنا أو مرهفات القواضب
وهب أدبرت دنياك عنك فلا تبل ... فعنها لقد عوضت صفو المشارب
فما قدر ذي الدنيا؟ وما قدر أهلها؟ ... وما اللهو بالأولاد أو بالكواعب؟
إذا قست ما بين العلوم وبينها ... بعقل صحيح، صادق الفكر، صائب
فما لذة تبقى، ولا عيش يقتنى ... سوى العلم أعلى من جميع المكاسب
وهكذا كانت روحه العلمية الغلابة التي كان يتعزى بها عما فاته من متاع الدنيا. وقد ظلت هذه الوظيفة محتجزة دونه حتى عام 727 (1327) فعادت إليه وبقيت في يده إلى سنة 739هـ حينما اختير لقضاء الشام
وسبب آخر من أسباب الحياة المحدودة كان في يده، ولم يخل كذلك من شهوات العابثين في انتزاعه: ذلك هو وظيفة التدريس بالمدرسة المنصورية، وكانت مسندة أول الأمر إلى قاضي القضاة جمال الدين الزرعي، ثم عين قاضي قضاة الشام 723 (1323م) فحل تقي الدين السبكي محله، وكان جديراً بذلك. ولكن الزرعي لم يطل في قضاء الشام مقامه، فلم يلبث عاماً حتى عزل عنه. وكان صديقاً لأرغون نائب المملكة المصرية في ذلك الحين، فبلغه ذلك وهو بالحجاز، فشق عليه أن يحرم صديقه مكانه في مصر والشام؛ واستشاط غيظاً وحنقا على تقي الدين، وأقسم ليزيلنه عن مكانه، ويعيدن إليه صاحبه، متى عاد إلى مصر؛ وترامت بذلك الأخبار إلى الشيخ، ولم يكن له ما يكفل رزقه غير هذه الوظيفة، وكاد يصبح ضحية شهوة جامحة، لولا أن أرغون ما كاد يصل إلى مصر حتى قبض عليه في بعض ما كان يسود ذلك العهد؛ ففل بذلك من حده، ووقي الشيخ شر نزوته وكيده
هذا كله والعهد عهد الملك الناصر ابن قلاوون، وهو خير عهود ذلك العصر، وأقلها خضوعا للنزوات الطائشة
وقبل أن ندع هذا الدور من حياة تقي الدين السبكي، نرى أن لابد من الإشارة إلى مجهود من مجهوداته العلمية الموفقة، قام به في تلك الفترة، وقد رفع كثيراً من شأنه، وكان له أثر غير صغير في حياته، فيما نحسب، ذلك هو رده على أبي العباس ابن تيمية في مسألة الطلاق ومسألة الزيارة. وقد كتب رده على كل من المسألتين في كتابين: أحدهما موجز مجمل، والآخر كبير مفصل؛ ويظهر أنه قد أبدى في رده مقدرة فائقة في النقد والبيان، وأبان عن سعة اطلاع وحضور بديهة، كما بعد عن الشطط والتجريح، والتزم جانب الإنصاف والمعدلة، مما دعا إلى إعجاب الأشاعرة به، وإكبار ابن تيمية نفسه له، وثنائه عليه فيما كتبه دفعا لنقده
واحسبني لا أبعد عن الصواب إذا زعمت أن هذا الرد كان السبب في توجه نظر السلطان إليه، واختياره لقضاء الشام، بعد أن لبث ذلك المنصب لعبة للأهواء منذ مات جلال الدين القزويني سنة 719 (1319) حتى سنة 739هـ. وإصراره على ذلك على إصراراً ذهبت معه كل محاولات الطويلة في التملص من هذا التقليد، ووهن معه كل ما نذرع به لقاء هذا الأمر الذي يقدر عاقبته، ويعرف حق المعرفة خطورته
ذلك أنه وإن كان قد ذهب في رده مذهباً علمياً خالصا فقد تناول به مسألة تعني أولي الأمر كما تعني العلماء، فإن ظهور ابن تيمية في الشام بمذهبه الذي ينقض مذهب الأشاعرة، وانتصاره له بكل ما أوتي من قوة في البيان والمناظرة، فرق أهل الشام فرقتين، واجتذب إليه طائفة غير قليلة من أعيان العلماء أمثال المزي والذهبي والبرزالي: خرجوا على الأشعرية وهي المذهب الرسمي للدولة منذ كان الأيوبيون إلى ذلك العصر، بعضهم في صراحة وجلاء، وبعضهم في تنكر واستخفاء، وسنرى فيما يلي بعض الظواهر في هذا مما يؤيد ما نذهب إليه من أن اختيار السبكي لقضاء الشام كان منظوراً فيه إلى هذه الحالة، مرجواً منه القضاء على هذه الفتنة.
- 4 -
وهكذا تولى السبكي قضاء الشام في 19 جمادى الآخرة سنة 739 (2 يناير سنة 1339)، فغادر مصر إليها، وانتقل بذلك من حياته البسيطة الساذجة، إلى حياة مركبة معقدة، وترك بيئته الهادئة الوادعة التي ترفرف عليها روح العلم، وتسري فيها نفحات الأبوة الكريمة، إلى ذلك المضطرب الواسع الذي يموج بشتى النزعات ومختلف النزوات؛ وتسوده روح خبيثة في مذاهب يزعمون لها صفة الدين تقتتل، وشهوات باسم الحكم تفرض وتنفذ، وأين يذهب السبكي في مثل هذا الجو؟ وهو المطبوع على الصراحة في الحق، والصلابة في الخلق، والاستقامة في الرأي، إلا أن يصبح غرضا للمعاندة والمضاجرة والشهوات الخبيثة الفاجرة؛ ولهذا نجد ابنه تاج الدين يقول في هذا الصدد بلهجة مريرة: (فقبل الولاية يا لها غلطة أف لها، وورطة ليته صمم ولا فعلها) وسنرى فيما يلي صوراً مختلفة لهذه الحالة
وإنما نعرض الآن حياته العلمية في الشام عرضا موجزاً، فنلاحظ أن أغلب مصنفاته كتبها في الفترة التي قضاها بمصر كما نص على ذلك ابنه، ولا ريب أن هذه الحياة الجديدة بما تفرضه من تكاليف ومشاق قد شغلته عن العلم بعض الشيء؛ هذا إلى كبر سنه، فقد تولى قضاء الشام وهو في حدود الستين، فكانت دواعي التأليف قد فترت في نفسه، حتى لنراه في أواخر حياته يميل إلى التأمل، ويجنح إلى (المراقبة)، ويزهد فيما كان مشغوفا به من قبل من المناظرة العلمية على قواعدها المقررة
على أنه قد كتب في الشام أبحاثا جليلة يتجلى فيها عمق التفكير ونفاذ البصيرة والإحاطة، ونجد بعضا منها في ثنايا كتب ابنيه: بهاء الدين أبي حامد أحمد بن علي السبكي، وتاج الدين عبد الوهاب صاحب الطبقات
ثم إنه ما كاد يصل إلى الشام حتى جلس للتحديث في (الكلاسة) وسمع منه أئمة الحديث في عصره كلمزي والذهبي والبرزالي، وقرأ عليه جميع معجمه ابن أبن عمه الحافظ محمد بن عبد اللطيف السبكي. ثم تولى سنة 742 (1341م) مشيخة دار الحديث الأشرفية خلفا للحافظ جمال الدين أبي الحجاج المزي، وفي سنة 745 (1344م) تولى التدريس في (الشامية البرانية) خلفا لأستاذها شمس الدين ابن النقيب، كما تولى خطابة الجامع الأموي وباشرها مدة لطيفة
(يتبع)
محمد طه الحاجري