مجلة الرسالة/العدد 143/صورة من الحياة العلمية في مصر
→ الحركة الفكرية في السودان | مجلة الرسالة - العدد 143 صورة من الحياة العلمية في مصر [[مؤلف:|]] |
الطالب. . . ← |
بتاريخ: 30 - 03 - 1936 |
2 - تقي الدين السبكي
بقلم محمد طه الحاجري
وفي أثناء هذه الولاية ولد له تقي الدين، وفي هذا البيت الكريم الذي ترفرف عليه روح العلم والورع نشأ نشأة مباركة بين أبيه وعمه الشيخ صدر الدين أحد أفاضل العلماء، يرعيانه ويتوليان أمره. وينشئانه أحسن تنشأة وأكرمها؛ فقد رأيا فيه ملامح النجابة والذكاء والإقبال على العلم والجلد عليه، والانصراف عن اللهو ولذائذ الحياة، ما جعلهما يتنوران من خلاله أنه سيكون إماماً من أئمة العلم ورجلاً من رجال الخلق والفضل. فقد حكى عنه أبنه تاج الدين (أنه كان يخرج من البيت صلاة الصبح فيشتغل على المشايخ إلى أن يعود قريب الظهر، فيجد أهل البيت قد عملوا له فروجا، فيأكل؛ ويعود إلى الاشتغال إلى المغرب؛ فيأكل شيئاً حلوا لطيفاً، ثم يشتغل بالليل؛ وهكذا لا يعرف غير ذلك. . . . . وكأن الله قد أقام والده ووالدته للقيام بأمره، فلا يعرف شيئاً من حال نفسه.)
لقد كانت طفولة عجيبة، تلك الطفولة الجادة العاملة الوقور المنصرفة عن اللهو واللعب ومنازع الصبيان، ولقد عجب أبوه نفسه مرة من هذه الظاهرة، ورأى في انصراف ابنه عن عبث الأطفال، والنيل من لذائذ الطعام أمر لا يتفق مع سنه الصغير فأشار على أمه أن تعطيه درهما أو درهمين عله أن يرى في السوق شيئا يشتهيه فيشتريه، فعقدت له أمه منديلا على نصف درهم، وهو يروح به ويغدو، إلى أن ضاق بحمله، فألقاه إلى أمه، وقال لها ما شأني بهذا، وما أصنع به؟. . .
وإن هذه الأحاديث التي يرويها تاج الدين عن أبيه جديرة بأن تكون صحيحة، وهي ترسم لنا صورة لتقي الدين الطفل، تتسق كل الاتساق مع صورة تقي الدين الرجل الكهل؛ فكأنما كان ثمة روح من عند الله أخذت توجهه منذ مولده إلى غايته المقدورة، وترسم له السبيل إليها، وتحوطه أن ينحرف عنها. ولسنا نشك في أنه ثمرة كريمة مباركة لكل الظروف التي قدمنا ذكرها
وكان الأب ما يفتأ يذهب إلى مصر ليلقي بها قاضي القضاة فكان يستصحب معه ابنه ليزيره معاهد العلم، ويشهده ربوع الفضل، فمرة يزور به مدرسة الحديث الكاملية ويدخ به على شيخ الإسلام تقي الدين ابن دقيق العيد. ومرة يذهب به إلى ابن بنت الأعز، وأخرى إلى غيره من علماء العصر، وهو فرح به مستبشر، والولد يرى هذا السمت وهذه الهيبة وذلك الوقار وتلك المثل العليا لما انطوت عليه نفسه. فيتوثب قلبه، ويمتلئ صدره بهجة وطموحا
ثم عزم الأب أن يقيمه في القاهرة بين أولئك الأعلام، وفي ذلك الجو العلمي؛ وكان قد تفقه وحفظ كتاب التنبيه؛ ولكنه حين عرض الأمر على ابن دقيق العيد عارض فيه وكأنما استصغر سنه، وأشفق عليه من الغربة. فقال لأبيه: عد به إلى (البر) حتى يصير فاضلاً. فعاد به، وفاته ما كان يحرص عليه أبوه، فيما يظهر، من التتلمذ على شيخ الإسلام والأخذ عنه، والتشيع بمبادئه؛ فأنه لم يعد إلى القاهرة إلا بعد وفاة ابن دقيق العيد أي نحو سنة 702هـ (1302م)
- 2 -
جاء تقي الدين إلى القاهرة ولم يكد يبلغ العشرين من عمره، وهو يتوثب رغبة إلى ارواء غليله العلمي في هذه البيئة العلمية الخالصة التي تتجاوب فيها أصداء العلم المختلفة، وتقوم بها المناظرات بين الآراء المتباينة، وكان بها طائفة من الأئمة الأعلام في مختلف الفنون:
كان بها ابن الرفعة شيخ الشافعية، وإمام الفقهاء، وبه تفقه السبكي
وكان بها في الأصول والمعقولات الإمام النظار علاء الدين الباجي، وكان رجلا واسع الباع في المناظرة، مستقل الرأي في الاستنباط، (لا يفتي في مسألة حتى يقوم عنده الدليل عليها، فإن لم ينهض عنده قال: مذهب الشافعي كذا، والأصح عند الأصحاب كذا، ولا يجزم) كما يقول عنه صاحب طبقات الشافعية؛ وما نشك في أنه كان قوي الأثر في تقي الدين، عظيم اليد على قوته في الجدل، مشجعاً على الاستقلال في الرأي، حتى ليعدون له مسائل كثيرة من فروع الفقه انفرد بالرأي فيها دون إمامه الشافعي وأصحابه وخلفائه؛ وإذا كان مرجع هذا في أول الأمر إلى فطرته السليمة، وبصيرته السديدة، وإدراكه القوي؛ فإن لمثل ذلك الإمام فضل التسديد وتقوية تلك النزعة الفطرية، وحمايتها من عوامل الضعف
وكان بها في فن الحديث العلامة الكبير الحافظ شرف الدين الدمياطي إمام أهل الحديث، وأستاذ الأستاذين في معرفة الأنساب، وكان صديقاً لأبي تقي الدين مكبراً له، فاختص الابن بأكبر الرعاية، وأقبل تقي الدين على درسه بالمدرسة المنصورية وأكثر من صحبته والملازمة له والأخذ عنه بتلك الحافظة المدهشة التي يقولون عنها: إنه كان ما يكاد يسمع شيئاً حتى يحفظه، ولا يحفظ شيئاً فينساه وإن طال عليه الأمد وبعد به العهد، حتى صار آية في فن الحديث ومعرفة الرجال والجرح والتعديل، ولكنه لم يدرك شرف الدين إلا وهو شيخ هم كبير في عشرة التسعين فكان شديد الحرص على صحبته وملازمته حتى لا يكاد يتركه، ثم لم يلبث شرف الدين أن مات فجأة عقب مفارقته له في 15 ذي القعدة سنة 705، ولم يكن قد أشبع رغبته من فن الحديث بعد، فلازم بعده كبير أهل الفن في عصره، الحافظ سعد الدين الحارثي
وكان بها في علوم العربية أبو حيان الأندلسي وكان عليه طابع المدرسة الأندلسية من الحفظ والتوسع في رواية الشعر واللغة والقراءات، والتبحر في معرفة قواعد النحو ومذاهبه، وأثر من المدرسة المصرية من النظر والمقابلة والمراجعة وروح النقد والتحليل، فتتلمذ تقي الدين له، وقرأ عليه كثيراً من كتب النحو مثل كتاب سيبويه وكتاب ابن عصفور وغيرهما، وكان أبو حيان يمرن تلاميذه على صناعة النظم، فيقترح عليهم عروضاً خاصاً وبحراً معيناً ينظمون عليه، ولتقي الدين قصيدة على حرف الزاي جاءت من هذا السبيل، ولعلها خير ما صنع من الشعر، فلم يكن له في هذا الباب سليقة، وقد غلب عليه المذهب الفكري النقدي، فجاء شعره نازلا ركيكا، وسنعرض شيئاً منه في هذا البحث متى عرضت المناسبة
ثم لا ننسى من شيوخه الذين تركوا فيه أثرا بليغاً، وإن لم يكن من الناحية العلمية المحضة، تاج الدين بن عطاء الله السكندري، وكان من حسن حظه أنه ترك الإسكندرية؛ واستوطن القاهرة، وبقي بها يعظ الناس ويرشدهم، ويحدث تلاميذه ويبصرهم إلى أن مات سنة 709 وكان إمام أهل التصوف، جميل السياق، صافي الأسلوب، ساحر العبارة، فنال في الناس مكانة عالية، ومال إليه تقي الدين وصحبه، وانعقد بينهما حب قوي وعلاقة مؤكدة. وظل أثر الروح الصوفية التي كانت على أخلص ما يكون في ابن عطاء الله ظاهرا قوياً في تلميذه تقي الدين في شتى أدوار حياته، وكثير من أقواله وتصرفاته
وكان من شيوخه كذلك الشيخ تقي الدين ابن الصائغ في القراءات، والشيخ شرف الدين البغدادي في المنطق والخلاف، والشيخ علم الدين العراقي في التفسير، والشيخ عبد الله الغماري المالكي في الفرائض
وقد رحل إلى الإسكندرية وسمع من رجال الحديث فيها، وكان بها طائفة منهم يرحل إليهم طلاب الحديث مثل أبي الحسن الصواف
وإلى ذلك الحين كان قد نضج وامتلأ وصلب عوده، ورأى فيه شيوخه رجلاً يناظرهم كلا في فنه، فجعلوا يملؤن المجالس بذكره والثناء عليه والإعجاب به، حتى استطار أمره، وامتلأت أندية القاهرة بالحديث عنه. ولم يبق إلا أن يرحل إلى الشام ليسمع من محدثيها فتتم له الغاية في فن الحديث
وكذلك رحل إلى الشام رحلته الأولى في سنة 706 (1306م) وسمع من رجالها أمثال الذهبي والمزي والبرزالي وابن الموازيني وابن مشرف، وعقد بها المجالس للمناظرة، فتجلت هناك عبقريته، وسمت في نظر القوم منزلته، وامتلأ علماؤها إعجاباً به، ومكث بها عاماً يسمع ويناظر، حتى أصبح حديث الناس في الشام كما كان حديثهم في مصر؛ وبذلك أشرف على الغاية في بعد الشهرة وذيوع الصيت
يتبع
محمد طه الجري