مجلة الرسالة/العدد 143/التعليم والحالة الاجتماعية
→ خواطر | مجلة الرسالة - العدد 143 التعليم والحالة الاجتماعية [[مؤلف:|]] |
في تاريخ الفقه الإسلامي ← |
بتاريخ: 30 - 03 - 1936 |
4 - التعليم والحالة الاجتماعية
في مصر
للأستاذ إسماعيل مظهر
أظهرت في مقالي السابق أن لكل أمة من الأمم ثقافة تقليدية ترثها من أسلافها، وأبنت أن هذه الثقافة تصبح بالوراثة قطعة من غريزتها وجزءاً من فطرتها، لا تنفك عنه أمة من الأمم أو تكون قد انفكت عن أخص مميزاتها وأعظم مظاهرها الاجتماعية. وعقبت على ذلك كله بمجمل العلاقات التي تربط كل أمة بثقافتها التقليدية إظهاراً لوجهة نظري في هذه المسألة الحيوية
على أن ما أحطت به في مقالي السابق قد قصر على بيان العلاقة التي تربط الثقافة التقليدية في كل أمة بمظاهرها الاجتماعية من حيث أنها مظاهر اقتصادية لا غير. والآن أريد قبل أن أختم هذه البحوث أن أظهر أن لنظريتي في الثقافة التقليدية أثراً في تكوين العقلية الفردية وتكييف العقلية الجماعية، مُنشَّأةً في كل أمة من الأمم بمقتضى الظروف والحالات التي لابستها منذ أقدم عصورها التاريخية
ومن أجل أن نبين عن حقيقة ما نقصد إليه نقصر الكلام على أخص الظواهر التي ثارت من حولها عجاجة النقد وكثر فيها الجدل حتى أصبحت من عقلية الجمهور المتعلم جزءاً لا يتجزأ
ولا ريبة أن في حياتنا الحاضرة مظاهر، هي بحكم العصر الذي نعيش فيه والحالات التي تكتنفنا، أجلى من غيرها وأبين في تكييف عقليتنا من كل الظواهر الأخرى، وأقصد بذلك الأدب من ناحية، والوطنية من ناحية أخرى
وأول ما يبدر إلى ذهن الباحث في هذا المقام أن يسأل: أمن علاقة بين الثقافة التقليدية والأدب؟ أهنالك من صلة بين هذه الثقافة والوطنية؟ أيكون لماضي الأمم أثر في تكوين أدبها وصبغ وطنيتها بصبغة خاصة، وهل من رابطة تربط بين تصورات ومشاعر وعواطف درجت عليها القرون، وبين أبناء جيل يخيل إليهم أنهم نفضوا أيديهم من الماضي وأنزلوا عن كواهلهم تراب الأزمان الغابرة، فأصبحوا خلقاً جديداً، وأمة مستحدثة من عناصر لا تمت إلى القديم بسبب من الأسباب؟ وما كان لباحث أن يسأل هذا السؤال، وما كان لهذا السؤال أن يدور في مخيلة مفكر، لو أن لنا بثقافتنا التقليدية صلة أو كان لهذه الثقافة علاقة بأدبنا، أو صلة بوطنيتنا. وإنما يدور هذا السؤال في مخيلة كل مفكر يحكم أننا قطعنا صلتنا بالماضي، وفرطنا عقد رابطتنا بمصر القديمة، وبالأحرى حللنا العقدة التي تصل بين حبل حياتنا الحاضرة والخيوط التي تتكون منها شبكة حياتنا الماضية، ولا شك في أن الفرد ثمرة الماضي، قبل أن يكون ابن الحاضر، وصلته بذلك الماضي صلة وراثة. أما صلته بالحاضر فصلة ضرورة
ولا مرية في أن هذا السؤال غير طبيعي في أمة أحكمت صلتها بماضيها، ووثقت روابطها بثقافة آبائها الأولين. فهو بمثابة أن تسأل مثلاً: أمن علاقة بين دمي الذي يجري في عروقي ودم جدي أو جد جدي؟ وهل بين تصوراتي ومشاعري وميولي، وبين طبيعة الأرض التي تغذيني والهواء الذي ينميني والسماء التي تظلني؟ ذلك بأن الأمم متى أحكمت صلتها بماضيها ونشقت دائماً عبير الروح الذي سرى في كيانها منذ أبعد العصور لن تشعر يوماً بأنها في محيط غير محيطها الطبيعي، أو أنها في بيئة غير بيئتها الفطرية، فيظهر أثر ذلك كله معكوساً في جماع مظاهرها وبخاصة في آدابها وفي وطنيتها. أما ونحن نشعر الآن بأن أدبنا أدب مصنوع لا أدب فطري، وأن وطنيتنا وطنية ظاهرية لا وطنية حقيقية، فإنه من الطبيعي أن نسائل أنفسنا عن سبب ذلك، ومن الطبيعي أن نجد الجواب في النظرية التي أدلينا بها من قبل في العلاقة التي تقوم بين المظاهر الاجتماعية والثقافة التقليدية التي تختص بها كل أمة من الأمم، وتختص مصر بصورة منها
قرأت منذ سنوات قصيدة في مجلة (أبولو) عنوانها (قبرة شيلي)، وعكفت كعادتي في كل ما أقرأ من المترجمات على مقابلتها بالأصل، فألفيت أن الشاعر المترجم قد أجاد في المحافظة على المعاني الأصيلة قدر ما تهيئ أوزان الشعر وقوافيه ومفردات اللغة العربية لمترجم أن ينقل شعراً من الإنجليزية إلى العربية، ولقد أحسن الشاعر المترجم سبك المعاني في قالب عربي يلائم روح التجديد مع المحافظة على جرس الأسلوب العربي، فأكبرت القصيدة وأعدت تلاوتها مرات مبالغ في الوقوف على ما فيها من أوجه النقد ووزنها على مقتضى المعايير التي أومن بها في تقييم الشعر، ولم ألبث أن أحللتها بين ما أعتقد أنه من جيد الشعر الحديث، غير أني بعد كل هذا كنت أشعر بأن في القصيدة ماهية أخرى تبعدها عن طبعي، وتقصيها عن تصوراتي وتجاريبي، وتلقي في روعي أبى غريب عن الجو الذي تخلقه من حولي. فلا الجو الذي وضعه (شيلي) وغشاه بالسحاب القاتم الشديد السواد هو الجو الذي أعرفه، ولا الغناء القوي الحنون الذي ترسله قبرته هو نفس الغناء الذي أعهده في قبراتنا، ولا لونها الأصفر الزِّرْيابي الذي يجعلها تحت السحب السوداء كأنها شرارة من لهب، هو لون القبرة المغبرة السفعاء التي آنسها في حقولي. كذلك رأيت في ذكر السيول والأمطار الغامرة التي ترسلها سماء إنجلترا شيئاً جديداً لا علاقة له بمحيطي ولا صلة له ببيئتي، وعلى الجملة شعرت بأني أقرأ خيالاً إنجليزياً في شعر عربي. خيال يجذبني من ناحيته إلى ثقافة غير ثقافتي التقليدية بل يقصيني عن تجاريبي ومشاهداتي، وأن كل ما تهيئ لي القصيدة من قدرة على التصور هو ما تحمل ألفاظها العربية من معانٍ أتخيلها تخيلاً وأصورها تصوير الحدس والوهم، وأن آلة الأداء، وهي اللغة العربية هي الناحية الوَحِدة التي تقربني بعض التقريب من الجو الشعري الذي تكيف به القصيدة مشاعري، ولا شك في أن الشعر شيء، وآلة أدائه شيء آخر، وإنما يكون الشعر متصلاً بطبع الإنسان متى استمد عناصره من ثقافة تقليدية لا يعنت التصور إدراكها، ولا يتعب الخيال تصويرها، فيشتمل على نواحي النفس ويخاطب الروح بديئة قبل أن يخاطب العقل
عقبت على هذا بقراءة قصة مترجمة عن كاتب روسي مشهور، فآنست فيها شططاً في الوصف ومغالاة في التقدير، وتحليلات نفسية معقدة غاية التعقيد، بعيدة كل البعد عن بساطة الروح المصري الذي آنسه في الفلاح الساذج الذي نشأت محوطاً بثقافته التقليدية، ولا أريد أن أبحث شخصيات هذه الرواية لأحكم أنه كان في الدنيا شخصيات حقيقية تقابل الشخصيات التي وضعها الكاتب وحلل نفسياتها، وإنما أريد أن أقول إن تحليل ذلك الكاتب مهما كان فيه من حق وبعد عن المغالاة، وسواء أكانت الصفات التي أضفاها على شخصياته تلك صفات يمكن لنفس بشرية أن تنطوي عليها، أم إنها شخصيات خيالية لا تقوم لها حقائق في الخارج، فجل ما أرمي إليه أن أقول إنها شخصيات لا تربطني بها رابطة ولا تصلني بها صلة، وأن محيطي الذي أعيش فيه ينكر وجودها وينفي حقيقتها، بالرغم من أن شخصاً آخر في محيط آخر قد يرى أنها شخصيات طبيعية، بل قد يجسمها خياله على مقتضى تجاريبه التي يشهدها في حياته ولا أقصد بذلك أن مثل هذا الأدب غير مفيد في توسيع مجال الخيال، وتنويع الصور المتخيلة وتوطيد قواعد الأدب المصري من حيث صلته بالآداب الأخرى. وإنما أقول إنه مهما كان فيه من المميزات فهو أدب دخيل لا أدب أصيل. أدب لا علاقة له بثقافتنا التقليدية، فهو من طبع غير طبعنا وفطرة خلاف فطرتنا. إنما هو أدب تصويري لا أدب حقيقي، مقيسة معابيره بمقياس حياتنا الخاصة ومحيطنا الخاص. أدب لا تهضم منه فطرتنا إلا القليل النادر. هذا على اعتبار أن العلم بالأدب شيء وهضمه وتمثيله في الروح شيء آخر، ولن يكون للأدب من أثر في الحياة إلاّ بأن تمثله الروح فيصبح جزءاً منها، فتسترشد بِمُثُله، وتتعظ بِمثُلاته، وتدرك منه الحقائق إدراك استيعاب لا إدراك علم بها دون الإيمان بما فيها من حق وواقع
وما أريد أن أستطرد في ضرب الأمثال فإن فيما أوردت منها غنى عن ذكر غيرها. ذلك بأن كثيراً مما نقرأ في الصحف والمجلات وكثير من المؤلفات يجري هذا المجرى ويسيل هذا السيل، حتى لقد أصبح أدبنا الحديث لكثرة ما فيه من الرقع والرتوق، ولكثرة ما فيه من صور الأمم الأوربية كأنه (عصبة أمم) أخرى، ولكن في صحف سطرت بكلمات عربية
في وسط هذه الصور العجيبة المتنافرة، وفي غمرة تلك الفوضى السائدة في الأدب على مختلف ألوانه، وعلى متضارب وجوهه، ومتباين ضروبه، أتقع على الأدب المصري الصحيح الذي يمثل الروح المصرية؟ بكلمة واحدة أقول (لا)؛ وبودي لو يتسنى لي أن أكتب كلمة (لا) في صحيفة وحدها وبأكبر قطع تعرفه المطابع العربية
يشعر كل المشتغلين بالأدب، أدباء كانوا أو طلاب أدب، نقاداً كانوا أو قارئين، بأن بين الأدب الذي يعكفون على درسه أو قراءته وبين نفوسهم بوناً شاسعاً، وأن بينه وبين أرواحهم الممثلة في أخيلتهم ومشاعرهم وعواطفهم وأمزجتهم صدعاً متنائيا. وقد يأخذهم القلق حيناً، وقد تتملكهم الريبة أحياناً في أحقية ذلك الأدب بالبقاء في بيئة لا تعرفه ولا يعرفها، ولكن قلقهم لا يلبث أن يهدأ، وريبتهم لا تني إلا قليلا حتى تزول، إذ يرون أن ذلك الأدب أدب الساعة لا أدب العمر، مستدلين على ذلك بأن الآثار الأدبية التي ظهرت في العشرين عاماً الماضية لم يفلح جماعها في تكوين مذهب واحد ثابت الدعائم قوي الأركان محدود الغايات بيِّن المثل، فعاش ولم يمت. أما السبب في أن كل إنتاجنا الأدبي إنما هو للفناء فراجع إلى أنه أدب مسروق أو على الأقل أدب مسلوب من آداب الأمم الأخرى وليس فيه من أثر المصرية إلا أنه مكتوب بلغة عربية، ولكن بأساليب أصبحت بدورها أضعف من أن تحسن أداء رسالة الأدب
ولقد سمعت بعض المشتغلين بالأدب يقولون إن نقل الآداب الأوربية إنما هو بمثابة دم جديد يغذي أدبنا بالحياة، ويمده بأسباب البقاء. غير أن هذا الرأي على ما في ظاهره من حق، فإنه أشبه بحق يراد به باطل. ووجه الباطل فيه أنهم يفرضون أن لنا أدباً يغذيه الأدب الأوربي، وذلك ما لم يقم عليه أقل دليل حتى الآن. فأين الشعر المصري الحقيق بأن يدعي شعراً مصرياً؟ وأين القصة المصرية التي تصور حياة مصر تصويراً صحيحاً مقتطعاً من الطبع المصري ومن الثقافة المصرية الصحيحة؟ بل أين الأديب الذي عكف على درس العقلية المصرية وقصر جهده على تفهم الروح التي تنطوي عليها ضلوع ذلك الفلاح الساذج الذي هو لغز الألغاز وسر الأسرار؟ أين الأديب الذي أحاط بتاريخ مصر منذ أبعد عصورها وكون من ذلك التاريخ صوراً تظهر معكوسة في أدبه شعراً أو نثرا، وأين الأدب الذي يصور ما نزل بنا من نوائب الدهر وبلايا الأيام، وما حاق بنا من مظالم يصرخ بها تاريخنا، بل أين الأدب الذي يرينا كيف ابتلع الفلاح الساذج الهادئ الطبع اللين الجانب بما فيه من قوة المقاومة السلبية، الفرس والروم والرومان والعرب والمماليك والأتراك، ولا يزال مستعدا لابتلاع خمسين قيصرية من أمثال هذه القيصريات العظام وهو قابع في عقر حقله الصغير وفي كسر بيته الطيني، تاركا دورات الحظ تدور بالسعد حيناً وبالنحس حينا آخر، وما يهمه في الحياة من شيء إلا أن يضحك ساخراً من الأمم والأقدار
على أن الإطناب في مثل هذه الأشياء تحصيل حاصل، والاستطراد في ذكر الشواهد عبث، لأننا نشعر شعوراً كاملا بأن الأدب المصري اسم على غير مسمى، وإن شئت فقل إنه فرض لا حقيقة له. وإنما أقصد بالأدب المصري الأدب المقتطع من حياتنا ومن أنفسنا ومن أخيلتنا. الأدب الذي إذا قرأته تبينت فيه مصر وأرض مصر وسماء مصر وتاريخ مصر، وعلى الجملة كل ما توحي به مصر من الموحيات الدفينة في نفوسنا، الرسيسة في طبعنا، الحائرة في أرواحنا أما السبب في كل هذا فهو أننا بعدنا عن ثقافتنا التقليدية، بل إننا قطعنا صلتنا بالماضي وهمنا في فلوات لا نعرف فيها طريقا يسلك، لا إلى الأمام لنصير أوربيين صرفاً، ولا إلى الوراء لنعود إلى مصريتنا مرة أخرى. وإذن فنحن في التيه، ولكنه التيه الذي سوف لا نخرج من ظلماته مادمنا غير قادرين على تقييم حقائق وجودنا تقييما صحيحاً، ومادمنا عاجزين عن أن ندرك تلك الحقيقة الأولية، حقيقة أن ثقافتنا التقليدية هي الملجأ الأخير الذي يوقظ فينا (الروح المصرية) التي من طريقها نكوّن الأدب المصري. الأدب المصري الذي ينبغي أن يكون من حيتنا الأدبية بمثابة الجهاز الهضمي في الحيوان، فيه تهضم الآداب الأخرى، ثم تتمثل أدباً جديداً ملائماً لآدابنا ومشاعرنا وأخيلتنا، وفي الوقت ذاته تطرد النفايات. تلك النفايات التي تسمم أدبنا الآن وتفسده، لأن أدبنا الجديد أضعف من أن يفرزها إلى خارج جسمه المتهدم الضئيل
هذا من حيث الأدب. أما الوطنية المصرية ووصفها بأنها وطنية ظاهرية، فلا يرجع إلى حب الأغراب، ولا إلى حب النقد بغير دليل يقام أو حجة مقبولة. لهذا نقسم الوطنية قسمين: قسما يمثله الشباب المتعلم وعلى رأسه الأحزاب، وقسما يمثله الفلاح الساذج
على أنه ينبغي لنا قبل الاستطراد في شرح مزايا القسمين أن نتعرف كيف نشأت الوطنية، ومن أي نبع تستمد تصوراتها. وما من شك في أن الوطنية المصرية إنما استمدت أولى خطواتها من آداب الثورة الفرنسية الكبرى فلبت نظام الحياة في أوربا في أواخر القرن الثامن عشر. والدليل القاطع على هذا أنه منذ عصر عرابي إلى اليوم ترى أثر القسمين واضحاً جلياً في كل ما أدت الوطنية المصرية من الخدم الجسام لمستقبل مصر الحديثة. فالقسم الأول يأتم بالنظريات التي ذاعت في فرنسا في عصر ثورتها، وظل مؤتماً بها حتى بدء الحرب العظمى، والقسم الثاني ظل مستمسكا بتصوراته القديمة التي عكف عليها طوال العصور التي ظلت فيها مصر ميداناً لتطاحن الأمم والقيصريات
أما الفئة الأولى، وهي الفئة التي عكفت على النظريات الأوربية تستمد منها تصورات الوطنية، فكانت في كل الأدوار التاريخية منذ ستة عقود من الأزمان ذات الأثر الواضح في تكييف الظروف التي لابست كياننا السياسي. فهي التي بثت الروح الجديدة، وساقتها في طريق أجبر مقاوميها على أن يعدلوا من موقفهم إزاءها تدريجيا على مقتضى قوتها أو ضعفها حتى أصبحنا اليوم وفي حياتنا السياسية عنصر جديد لم تعرفه مصر منذ عشرين قرناً من الأزمان. غير أنه مهما قيل في هذه الوطنية مظاهرها قاصرة على تصورات فئة قليلة العدد مقيسة بتبعية الذين يؤمنون بالوطنية مسبوكة في القالب الذي صوره الفلاح المصري ليكون حداً لوطنيته. وأن كلامنا إنما ينصب على وطنية هذا الفلاح دون غيرها
قد تعجب ويشتد بك العجب إذا أنا قررت هنا أن الفلاح المصري شديد الوطنية مغال فيها، بل متطرف في وطنيته أشد تطرف، ولكنك بجانب هذا تسأل أين الآثار التي تتجلى فيها هذه الوطنية، فأجيبك بأنها تظهر كل يوم على صفحات جرائدنا الأخبارية، وتشغل بها الحكومة في أكثر أيام السنة، ألا تقرأ كل يوم أن فلاحاً حز رقبة أخيه لأنه اعتدى على حقله فهد جزءا من حدوده؟ ألا تسمع أن أسرة شهرت السلاح في وجه أخرى لأن أحد أفرادهما أراد أن يأخذ نصيب آخر من الماء، وأن الموقعة انجلت عن قتيل وجرحى وأسرى هم رهن التحقيق؟ إذن فاعرف أن هذه هي الآثار التي تترتب على وطنية الفلاح المصري. أما الوطنية نفسها فتنطوي على حب الحقل والدفاع عنه بالمال وبالولد وبالروح،، ذلك بأن الفلاح الذي فقد حقوقه المدنية والسياسية طوال عصور قلما تعيها الذكريات، ونزل به من الفادحات ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، لم يصبح عنده في الدنيا من شيء ذي قيمة إلاَّ ذلك الحقل بحدوده الأربعة، وإلاَّ ذلك النزر من الماء الذي يجود عليه بالرزق الحلال
أما السبب في أن تنضمر الوطنية المصرية حتى تصبح في نظر الفلاح الذي هو أهم عناصر مصر الحيوية، محوية في داخل هذه الحدود الضيقة، فراجع إلى أسباب تاريخية. فأنه منذ غزو الاسكندر المقدوني، ومن قبله بعشر سنين، أي منذ أن طرد الفرس آخر ملوك الفراعنة واسمه (نقطانيبو) لم يسد المصريون في بلادهم يوماً واحداً، وظل المصريون بين الحقول يزرعونها ليعولوا أنفسهم ويعولوا أسيادهم الذين يتسلطون عليهم من أية أمة كانوا وبأي دين دانوا، فلقد استطاع المصريون قبل الغزو الفارسي الأخير أن يستردوا حريتهم المرة بعد المرة، عقيب كل غزو دهمتهم به أمة أجنبية كالهكسوس وغيرهم، وأن يقيموا على عرش بلادهم أسراً من الفراعنة تحي تقاليد الحكم والثقافة واللغة، تلك التقاليد التي نشأت وربت في مدى عصور لا تعيها الذكريات. ولكن تلك الغزوة كانت آخر عهد ملوك الفراعنة الذين تجري في عروقهم الدماء الوطنية بالحكم على ضفاف النيل والى آخر الدهور. فمنذ فتح الاسكندر خضعت مصر إلى ألف سنة لحكم هِلِّيني الحضارة من مقدونيين ورومان، وفي نهايتها صارت مصر جزءاً من جسم الإسلام، فبدلت تبديلاً، وأصبحت لها لغة أخرى، ونظام اجتماعي لا عهد لها به، ودين جديد، ونبذ الإلهة الذين عبدوا في مصر على أنهم آلهتها الخواص الآلاف من السنين نبذاً أبدياً، ثم دفنوا في ثراها
ومنذ ذلك التاريخ لم يفز مصري أصيل بالحكم على شطآن النيل، بل لقد مرت عصور طويلة كعصر البطالسة مثلا، لم يكن في الحكومة كلها من مصري شغل مركزاً أكبر من مركز صَرَّاف يجبي الأموال. بل رأى المصريون معابدهم المقدسة تستباح فيتخذها المقدونيون موضعاً للهوهم وعبثهم وسكرهم وعربدتهم ورأوا الفرس يذبحون عجلهم المقدس من قبل ذلك
ولقد كان لهذه الملابسات التاريخية آثار كيَّفتْ الوطنية المصرية فحدتها بحدود الحقل المقدس، وإنما صار الحقل مقدساً في عين المصري لأنه كان الملجأ الوحيد الذي لجأ إليه فحماه من الانقراض التام. ولولا ذلك الحقل إذن لأصبحت مصر اليوم إما رومية وإما لاتينية. ولكن الحقل قام سداَ بين الغزاة وبين المصريين أين منه سد يأجوج ومأجوج. ذلك بأن ثرى مصر لا يزرعه إلا المصري ولن يقوى عليه غير المصري. لهذا عبده المصريون بعد (أبيس)، وقدسوه في الأعصر الحديثة تقديسا ليس فوقه عندهم من شيء إلا خشية الله. ففي الحقل وقوته وفي طرف منه قطعة سويت لا تزيد مساحتها عن بضعة أقدام مربعة فرشت بنبات الحلفاء هي مُصًلاَّه. فالحقل للفلاح عالم صغير مقدس يذود عنه بالروح ويبذل في سبيله الدم، لأنه ملجؤه الأخير وملاذه ومبتغاه
فلا عجب إذن في أن تنحصر الوطنية المصرية، وإنما نعني به وطنية السواد من أهل مصر، في حدود ذلك الحقل ولا تتعداه. وكيف تتعداه وقد آنست فيه الحياة آلاف السنين واستقرت في تربته الأجيال ثم الأجيال؟
وكما أننا عجزنا عن أن نكون أدباً مصرياً صحيحاً قوي الروح والأخيلة، بأن بعدنا عن ثقافتنا التقليدية، فكذلك عجزنا عن أن نخرج، لهذا السبب عينه، وطنيتنا من حدود الحقل إلى حدود مصر، وليس هذا وحده السبب في أن وطنيتنا ظاهرية، بل إن هنالك سبباً آخر يتجلى في أن الفريق الأول من وطنيينا، وهم الذين يستمدون تصوراتهم الوطنية منقولة من أوربا، لم يتغلغلوا في صميم مصر ليفهموا حقيقة السبب في ضعف الوطنية المصرية، وإنما يجب علينا أن نعكف على ثقافة تقليدية ننتزعها من صميم مصر لتكون عوننا في بناء صرح المجد كاملا اقتصادا وأدباً ووطنية
أما فشلنا في هذا حتى الآن فإلى أي شيء نعزوه؟ إلى السياسة التي جرى عليها التعليم في بلادنا بغير جدال. وسنظهر في البحث التالي، جهد مستطاعنا، كيف ننجو بثقافة تقليدية مستحدثة تنقذنا من البوار المحتوم
(الرسالة) تخالف الأستاذ الكاتب في بعض ما جاء في مقاله
وخاصة في وطنية الفلاح واقتصارها على الحقل، وقد نشرناه
عملا بحرية الرأي
إسماعيل مظهر
(الرسالة) تخالف الأستاذ الكاتب في بعض ما جاء في مقاله وخاصة في وطنية الفلاح واقتصارها على الحقل، وقد نشرناه عملا مجرية الرأي