الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 143/الإمبراطورية الآسيوية هل تصبح حقيقة تاريخية

مجلة الرسالة/العدد 143/الإمبراطورية الآسيوية هل تصبح حقيقة تاريخية

مجلة الرسالة - العدد 143
الإمبراطورية الآسيوية هل تصبح حقيقة تاريخية
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 30 - 03 - 1936


بقلم جورج حداد

لقد مرت على القارة الآسيوية قرون ازدهرت فيها إمبراطوريات عديدة، ووحدت قسما غير يسير من هذه القطعة من الأرض، ولا نقتصر في ذكر هذه الإمبراطوريات على ما قام منها في العالم القديم. كإمبراطورية البابليين، والآشوريين، والفرس، وإنما هنالك دول إمبراطورية واسعة نشأت في العصور الوسطى بعد سقوط دولة الرومان وأهمها الإمبراطورية العربية التي سيطرت على آسيا الغربية والوسطى، وامتدت إلى حدود الصين، وهكذا كانت القارة الآسيوية إذ ذاك تحكمها إمبراطوريتان كبيرتان إمبراطورية أبناء ماء السماء (الصين) في الشرق، وإمبراطورية أبناء يعرب في معظم القسم الباقي. انقرضت بعد ذلك إمبراطورية العرب وضعفت إمبراطورية الصين وتغيرت حالها وبدأت العصور الحديثة تحدثنا عن قيام إمبراطورية يابانية كانت قليلة الشأن حتى منتصف القرن الماضي، ومن ثم أخذت تزدهر وتنمو حتى ليخال المطلع على شؤونها أنها ستبني إمبراطورية آسيوية لم يعرف التاريخ لها مثيلاً

إن حكاية تقدم اليابان والحق يقال حكاية عجيبة وأعجب ما فيها تلك السرعة التي قضت فيها على نظامها القديم منذ ثورة 1868 الدستورية، وأنشأت لنفسها قوة حربية في البر والبحر حتى أصبحت تضاهي أعظم دول الأرض، وكذلك يدهشك نجاحها في إنشاء قوة صناعية لا تقل عن قوى أهم دول أوربا وأمريكا الصناعية اليوم. ثم نجاحها في مناوأة جارتيها الكبيرتين الصين والروسيا، واكتساحها قسما من ممتلكاتها. فروسيا القيصرية والصين الإمبراطورية قد عجزتا بين أواخر القرن الماضي وأوائل القرن الحاضر عن صد هجوم اليابان فأعطتها الأولى نصف جزيرة سخالين وبور آرثر، وأعطتها الثانية جزيرة فورموزه مع منحها شبه جزيرة كوريا الاستقلال، وكان استقلال كوريا خطوة نحو استيلاء اليابان عليها. فلم تأت سنة 1910 إلا وكانت حكومة الميكادو صاحبة الأمر فيها، ولم تنته الحرب العالمية وتوقع معاهدة فرساي إلا وكانت اليابان قد وضعت يدها على بعض مستعمرات الألمان السابقة في المحيط الهادي وأصبحت من الدول الكبرى التي يحسب لها حساب في السياسة العالمية وخصوصاً في المحيط الهاد لم تقف مطامع اليابان في القارة الآسيوية عند حد الاستيلاء على كوريا وبعض الجزر فهي عدا شعورها الوطني المتين وعزتها القومية تشعر بحاجة إلى التوسع، وحالتها تشبه حالة إنكلترا وجميع الدول الصناعية الكبرى. فمساحة جزرها تبلغ تقريباً مساحة الجزر البريطانية، وعدد سكانها يزيد على عدد سكان بلاد الإنكليز، وما تنتجه اليابان من المواد الغذائية لا يكفيها، كما أنه ليس فيها من المواد الأولية ما يكفي حاجات صناعتها. فكوريا هي مركز تصدير الأرز إلى اليابان، ومنشوريا التي كانت من ملحقات الصين منذ ثلاث سنوات غنية بالمعادن، وهذه حوادث السنوات الأخيرة قد أرتنا كيف اهتمت حكومة الميكادو بمنشوريا، وأرسلت جيوشها إليها وتمكنت من فصلها تماماً عن الصين، وإقامة حكومة مستقلة فيها تحت نفوذها، وهكذا أتيح لها أن تسيطر على خمسين مليوناً من النفوس في منشوريا وكوريا، بينهم قسم من رعاياها اليابانيين، والمواصلات سريعة والعلاقات متينة بين هذه الملحقات البرية وجزر اليابان

واليوم هل وقفت مطامع اليابان عند هذا الحد؟ إن حوادث هذه الأيام تجيبنا بالنفي، وماذا يريد اليابانيون إذاً؟ أنهم يريدون انفصال المقاطعات الخمس في شمال الصين عن حكومة نانكين فتقيم حكومة مستقلة كما حصل في منشوريا وتقبل مراقبتهم ونفوذهم، وأخيراً قد تطلب هذه المقاطعات الحكومة الملكية فتقبل حكم إمبراطور منشوريا الحالي الذي كان إمبراطور الصين كلها في عام 1911. عندئذ يتم تشكيل إمبراطورية كبرى من منشوريا والمقاطعات الخمس يبلغ عدد سكانها 120 مليوناً من النفوس، وتحميها الدولة اليابانية، وبعد مدة قد يذكر إمبراطور منشوريا حكومة نانكين الجمهورية بأن الصين كانت موحدة في العصور السابقة فيزحف بجيوش منظمة تعضدها حكومة اليابان على نانكين، فيتم وضع أيدي اليابان على بلاد الصين كلها، ولا يغربن عن الذهن أن الصين كانت قديماً تحكم تركستان الصينية والتيبت وتحمي عدا منشوريا وكوريا ومنغوليا الهند الصينية أيضاً، فهل تفكر اليابان في ضم هذه كلها إلى إمبراطوريتها الواسعة؟ إنها بدون أن تضم هذه المقاطعات تكون بعد أن يتم استيلاؤها على ما يعرف بالصين الأصلية قد حكمت إمبراطورية يزيد عدد سكانها عن ربع سكان العالم، وتكون إمبراطوريتها في قارة واحدة غير مجزأة منتشرة أقسامها في جميع القارات كالإمبراطورية البريطانية إن سياسة اليابان سوف لا تتغير. فقد أرادت منذ 1915 أن تفرض حمايتها الاقتصادية والسياسية على الصين، ولكنها فشلت. إلا أنها واصلت جهودها فتوصلت في السنوات الثلاث الأخيرة إلى نتيجة باهرة، وقد تتوصل إلى أكثر من ذلك بعد بضعة شهور. إن ما طلبه زعماء المقاطعات الخمس في شمالي الصين هو تشكيل هيئة تسمى المجلس السياسي الشمالي للجمهورية الصينية له استقلاله الإداري ويشبه مجلس منغوليا المستقل، ويكاد يتم انفصال هذه المقاطعات عن الصين وعلى هذا المبدأ، ولكن تحت سيطرة حكومة طوكيو اليابانية. ومهما يكن فإن اليابان مستعدة أن تبذل جهوداً جبارة لتحقيق برنامجها في الصين. غير أن الولايات المتحدة ذات قوات كبرى في المحيط الهادي وجيوش روسيا السوفيتية بالمرصاد على نهر الآمور وأسطولها رابض شرقي فلاديفستك

هذا وقد لوحظ مؤخراً شيء من التطور في العلاقات بين بريطانيا العظمى وروسيا نظراً لمصالحهما المشتركة في الشرق الأقصى، وهذا التقارب بين الدولتين الكبيرتين يعد من أشد الحوادث بروزاً في السياسة الدولية. فاليوم قد تبدلت الحال بين الدولتين وزال ذلك التنافر في مصالحهما إن كان في جهات بحر البلطيق أو في جنوب شرقي أوربا، وفي الشرق الأدنى والهند والشرق الأقصى. فقد كادت مطامح روسيا القيصرية في الماضي تؤدي إلى الحرب مع إنكلترا نظراً لاحتكاك مصالحهما أكثر من مرة في تركيا وفارس وأفغانستان وعلى حدود الهند، ولكن الخطر الألماني الذي يهدد الدولتين هو الذي أجبرهما على تناسي العداوة وحملهما قبل الحرب الكبرى على الاتفاق سوياً ضد حكومة برلين. وعادت العلاقات بعد الحرب الكبرى فساءت بين الدولتين لأن خطر الشيوعية الآتي من موسكو هال بريطانيا العظمى، ولأنه كان من رأي روسيا إعادة النظر في معاهدات 1919، غير أن روسيا تحققت بأن قلب تلك المعاهدات لا يأتي إلا بعد حرب لا تعلم إذا كانت تسفر عن نتائج أحسن من نتائج الحرب الماضية. فهي اليوم تريد السلم وهذا ما تريده إنكلترا أيضا. وقد أصبحت مدفوعة بسياسة اليابان الهجومية إلى التفتيش عن صداقة دول ذات مصالح في الشرق الأقصى. والتعاون بين بريطانيا العظمى وروسيا يفي بمصالح الدولتين خصوصاً لأن تلك المصالح لا تصطدم اليوم على طول الخط الممتد من البلطيق إلى الشرق الأقصى. فقد انقضى عهد مطامح القياصرة في القسطنطينية وأجزاء الدولة العثمانية وزال النزاع بين إنكلترا وروسيا في خليج فارس وأفغانستان. وليس لروسيا مطامح في الهند اليوم لأنه ليس لها أسواق تجارية فيها إن كان في الصادر أو في الوارد، وكذلك ليس لها رؤوس أموال تثمرها هناك. والروسيا تهتم بإنهاض قواها في الداخل قبل كل شيء ولذلك تحتاج إلى السلم. وأما في الشرق الأقصى فإنها تريد ضمان وحدة الصين، وسياستها هناك تشبه سياسة إنكلترا في الدولة العثمانية في القرن الماضي. فهي تنظر بعين الحسد - كما تنظر إنكلترا أيضاً - إلى توسع اليابان على حساب الصين

إن وزارة الخارجية الإنكليزية اليوم تريد أن تعوض عن خطيئتها قي سياستها نحو الروسيا منذ عشر سنوات. فالخطر الياباني الذي لم تشأ حكومات إنكلترا السابقة أن تراه والخوف الذي يهدد مستعمرات إنكلترا لم يعد مجرد خرافة. إن اليابان اليوم تتسلط على ثلث الإمبراطورية الصينية السابقة وعما قريب ستبدأ الحرب الحقيقية بين إنكلترا واليابان في آسيا الوسطى حيث تدافع اليابان عن استقلال الأمة الصينية وتطالب إنكلترا بإعطاء الصين ما أخذته منها. وسوف لا تقف عند هذا الحد، بل ربما وضعت أساساً لسياستها هذه العبارة التي بدأ رجال السياسة في اليابان يرددونها وهي (آسيا للأسيويين) كما وضع الرئيس منرو منذ أكثر من قرن خلا مبدأ لسياسة حكومة الولايات المتحدة (أمريكا للأمريكيين) واليابانيون ماضون في تنفيذ برنامجهم وعندما يصبحون على أبواب (كاشغار) في تركستان الصينية، لا يصعب عليهم الهجوم على الهند

ومن المحقق أن إنكلترا لا تقف مكتوفة اليدين أمام هذه الأخطار، فهي تقوم بتحصين سنغافورة، وستدفع ثمن ذلك باهظاً - نحو 30 مليون جنيه. غير أن هذه القاعدة الحربية ليست كافية أمام أمة تستعد لفتح آسيا كلها. وإنكلترا وحدها لا يمكنها الوقوف في وجه هذا الخطر الأصفر، وهي لذلك تسعى للحصول على مساعدة الدول الأخرى، ويظهر أنه لابد للوقوف في وجه الخطر الياباني من اتفاق بين الدول الأربع: الروسيا وإنكلترا وفرنسا والولايات المتحدة. ويقول أحد الصحفيين الروس بهذه المناسبة إن نظام الضمانات المشتركة لأجل السلام لا يجب أن يكون كمظلة يمكن وضعها في مخزن الحبوب لكي تأكلها الفيران ثم إخراجها لاستعمالها ضد حرارة الشمس، لأن هذه المظلة متى ما أكلت قماشها الفيران لا يمكن استعمالها للوقاية من حرارة الشمس. والصحفي يؤكد أن روسيا مستعدة للتضحية في سبيل توطيد السلم ولتأييد الدول في نزاعها ضد الذين وضعوا مبدأ لهم سياسة الهجوم. وهكذا فإن أساس الاتفاق موجود بين إنكلترا وروسيا. وسيظهر التاريخ إلى أين تؤدي سياسة التوسع الياباني وفي أي مرحلة من سيرها نحو بناء إمبراطوريتها الآسيوية ستقفها دول أوربا وأمريكا

(حلب)

جورج حداد