مجلة الرسالة/العدد 143/أوربا على المنحدر
→ فلسفة قصة | مجلة الرسالة - العدد 143 أوربا على المنحدر [[مؤلف:|]] |
خواطر ← |
بتاريخ: 30 - 03 - 1936 |
2 - من فرساي إلى لوكارنو
مسألة الرين وسلام أوربا
بقلم باحث دبلوماسي كبير
لماذا أقدمت ألمانيا على تصرفها الجريء فأعلنت إلغاء ميثاق لوكارنو واحتلت منطقة الرين المجردة في هذا الظرف العصيب الذي تجوزه أوربا؟ لقد شرحت ألمانيا وجهة نظرها وبسطت البواعث التي أملت بتصرفها في مذكرتها التي قدمتها إلى الدول الموقعة على ميثاق لوكارنو في السابع من مارس؛ وكذلك على لسان زعيمها الهر هتلر في الخطاب الذي ألقاه في نفس اليوم في مجلس الريخستاج؛ وتؤكد ألمانيا في الوثيقتين أن السبب المباشر لتصرفها هو عقد الميثاق الفرنسي الروسي الذي أبرم أخيراً، فألمانيا ترى في عقد هذا الميثاق خطراً يهدد سلامتها، ونقضاً من جانب فرنسا لميثاق لوكارنو يبرر تصرفها، وهي تشرح وجهة نظرها في مذكرتها فيما يلي:
(إن ألمانيا منذ عقد الميثاق الفرنسي الروسي في 2 مايو سنة 1935، قد لفتت نظر الدول الموقعة على ميثاق لوكارنو أكثر من مرة. إلى أن العهود التي قطعتها فرنسا على نفسها في الميثاق الجديد لا تتفق مع العهود التي قطعتها على نفسها في لوكارنو؛ وإنه لا ريب في أن الميثاق الفرنسي الروسي موجه إلى ألمانيا وحدها وبالذات، وأن فرنسا ارتبطت فيه إزاء روسيا بعهود خاصة في حالة وقوع حرب بين ألمانيا وروسيا، وهذه العهود تنافي عهد عصبة الأمم والتزامات ميثاق الرين (ميثاق لوكارنو) المؤسسة عليه؛ وتحالف فرنسا على هذا النحو مع دولة مدججة بالسلاح ضد ألمانيا يخلق حالة جديدة، ويقضي على نظام السلام في الرين بأكمله، ويجعل ألمانيا في حل من تعهداتها السابقة الخ. . . . .)
والى جانب هذا السبب المادي المباشر الذي تتقدم به ألمانيا لتبرير تصرفها، يقدم إلينا هير هتلر في خطابه عدة أسباب قومية معنوية تتعلق بشرف ألمانيا وكرامتها وحقها في الحياة سيدة حرة، فألمانيا تريد أن تعيش في سلام، ولا تفكر مطلقاً في الاعتداء على أحد، ولكنها تريد أن تعيش مع باقي الدول على قدم المساواة، وأن تتمتع بنفس الحقوق والمزايا التي تتمتع بها جميع الدول الأخرى، وأن تحتل المكان اللائق بعظمتها؛ وهي لا تستطيع أن تحقق هذه الآمال المشروعة إذا لبثت مصفدة بأغلال معاهدة الصلح ونصوص ميثاق لوكارنو الذي يحرمها من السيادة على منطقة الرين، وهي نحو خمس ألمانيا
الميثاق الفرنسي السوفيتي
ويكرر الهير هتلر في خطابه أن السبب المباشر الذي يملي بهذا الموقف على ألمانيا هو عقد الميثاق الفرنسي السوفيتي؛ ذلك أن فرنسا تتعهد بمقتضى هذا الميثاق عند وقوع حرب بين روسيا وألمانيا بالتزامات عسكرية تنافي عهد عصبية الأمم وميثاق لوكارنو، وأنها تغدو عندئذ مضطرة إلى مهاجمة ألمانيا؛ وإذاً فعقد فرنسا لمثل هذا الميثاق مع دولة مسلحة من الرأس إلى القدم كروسيا موجه بلا ريب إلى ألمانيا، والى ألمانيا وحدها، وهي بذلك تخلق موقعاً جديداً يتنافى مع تعهدات ميثاق لوكارنو
وقد عقد الميثاق الفرنسي السوفيتي في الثاني من مايو الماضي بعد مفاوضات طويلة بين فرنسا وروسيا، واحتجت ألمانيا على عقده يومئذ لدى الدول الموقعة على ميثاق لوكارنو؛ ثم أبرم هذا الميثاق أخيراً وأصبح بذلك وثيقة نهائية لها خطرها في سير السلام الأوربي
ويتألف الميثاق المذكور من خمس مواد وبروتوكول تفسيري. وتنص المادة الأولى منه على وجوب التشاور السريع بين الدولتين تطبيقاً للمادة 10 من ميثاق العصبة إذا وقع على إحداهما اعتداء لا مبرر له (والمادة العاشرة من الميثاق هي الخاصة بمقاومة كل اعتداء على استقلال أي عضو من أعضائها) وتنص المادة الثانية على وجوب تقديم المساعدة السريعة للفريق المعتدي عليه طبقاً للمادة 15 فقرة 7 من ميثاق العصبة إذا لم يتخذ مجلس العصبة في الأمر قراراً سريعاً. والمادة الثالثة تقرر التعهد بالمساعدة والمعاونة في حالة الاعتداء الذي لا مبرر له طبقاً لنص المادتين 17 و16 فقرة 3 من ميثاق العصبة. وتنص المادة الرابعة على أن هذه التعهدات لا تمنع الطرفين بأي حال من القيام بالتعهدات التي يفرضها الميثاق. وتنص المادة الخامسة على مدة الميثاق، وعلى أن المعاونة المشار إليها فيه قاصرة على أوربا؛ ولا يطلب تنفيذ التعهد الخاص بالمعاونة إذا لم يكن الاعتداء واقعاً على أرض الطرفين المتعاقدين ذاتها. ويتضمن الميثاق أيضاً تحفظات خاصة باحترام المواثيق والعهود السابقة ولا سيما ميثاق لوكارنو، وينص أيضاً على إمكان عقد ميثاق محلي شرقي، وعلى أنه يتسنى لأي دولة يهمها أمر السلامة العامة أن تشترك فيه
هذه هي خلاصة الميثاق الفرنسي السوفيتي الذي اتخذت ألمانيا من عقده ثم إبرامه ذريعة لموقفها الأخير، وقد بدأت ألمانيا بالفعل على أثر عقد الميثاق بنحو ثلاثة أسابيع (في 25 مايو سنة 1935) بتقديم احتجاجها على عقده إلى فرنسا والى باقي الدول الموقعة على ميثاق لوكارنو
بيد أنه يلاحظ أن تذرع السياسة الألمانية بالميثاق الفرنسي السوفيتي ليس إلا وسيلة ظاهرة أو مباشرة لتبرير تصرفها في استعادة سيادتها على الرين؛ ويلوح لنا أن هذه الخطوة الجديدة التي اتخذتها ألمانيا الهتلرية لتحطيم البقية الباقية من الأغلال العسكرية التي فرضتها معاهدة الصلح إنما هي حلقة جديدة في برنامج مقرر ترى ألمانيا تنفيذه ضرورياً لاستعادة مركزها العسكري القديم، وهيبتها القديمة كدولة عظمى؛ وقد رأيناها تتخذ في العام الماضي من تقرير فرنسا إطالة الخدمة العسكرية ذريعة سريعة لإلغاء نصوص معاهدة الصلح الخاصة بتحديد تسليحات ألمانيا، وتقرير الخدمة العسكرية الإجبارية، وإبلاغ الجيش الألماني إلى ستمائة ألف؛ وليس إلغاء ألمانيا لنصوص معاهدة الصلح الخاصة بتحريم منطقة الرين ونصوص ميثاق لوكارنو إلا تتمة لهذه السياسة التي ترمي إلى تحرير ألمانيا تحريرأً شاملاً من كل الأغلال التي صفدت بها معاهدة فرساي سيادتها السياسية أو العسكرية؛ وقد رأينا أن ميثاق لوكارنو لم يكن إلا تأييداً لنصوص معاهدة الصلح الخاصة بمنطقة الرين
ماذا ترتب على موقف ألمانيا
ماذا ترتب على الخطوة الجريئة المزدوجة التي اتخذتها ألمانيا في السابع من مارس؟ إن دوائر السياسة العليا في أوربا كلها ما زالت تشغل منه ثلاثة أسابيع بما قد يفضي إليه تصرف ألمانيا من العواقب الخطيرة؛ وقد كانت الدول الموقعة على ميثاق لوكارنو وفي مقدمتها فرنسا أشد الدول اهتماماً بالموقف الجديد الذي خلقته ألمانيا بتصرفها؛ ففرنسا ترى أن ألمانيا قد انتهكت عهودها مرة أخرى وأن هذا الانتهاك الجديد خطر على سلامتها، وتؤيدها بلجيكا في رأيها واعتقادها
وقد رأينا أن ميثاق لوكارنو ينص على الإجراءات التي تتبع في حالة مخالفة نصوصه أو نصوص معاهدة الصلح الخاصة بمنطقة الرين ضد الدولة التي ترتكب المخالفة؛ وهذه الإجراءات هي التي اتبعت في الحال عقب تصرف ألمانيا؛ فقد اجتمعت دول لوكارنو وهي فرنسا وبريطانيا العظمى وبلجيكا وإيطاليا في مؤتمر عقد أولا في باريس ثم نقل إلى لندن، واستدعى في الحال مجلس عصبة الأمم إلى دورة خاصة تعقد في لندن أيضاً لبحث الموضوع طبقاً لنصوص ميثاق العصبة التي يحيل إليها ميثاق لوكارنو؛ وكان المفروض أولا أن مؤتمر لوكارنو لم يجتمع إلا ليسجل انتهاك ألمانيا لمعاهدة الصلح وللميثاق وأن مجلس عصبة الأمم لم يجتمع إلا ليسجل مثل هذا الانتهاك وليتخذ ما يقضي به ميثاق العصبة من إنصاف الدولة المعتدى عليها وتقرير العقوبات الاقتصادية على الدولة المعتدية، إذا هي لم تذعن للتسوية الودية؛ وكانت هذه هي أول وجهة للسياسة الفرنسية، وكانت فرنسا أشد دول لوكارنو غضباً وتشدداً باعتبارها هدف (الاعتداء) الألماني، وكانت ترجو أن تحمل باقي الدول الموقعة معها، ولا سيما بريطانيا على اتخاذ سياسة الشدة والإرغام وحمل ألمانيا على سحب جنودها من الرين قبل التفاهم معها على أية تسوية جديدة؛ ولكن ظهر منذ المقابلات والمباحثات الأولى أن الاتفاق لم يكن تاما بين دول لوكارنو، وأن فرنسا تكاد تقف وحيدة في تشددها لا يؤيدها سوى بلجيكا إلى حد ما. ذلك أن إنكلترا لا تنظر إلى تصرف ألمانيا بنفس العين، وترى أنه قد حان الوقت منذ بعيد لأن تفوز ألمانيا بحقها في المساواة في التسليح والضمانات السلمية، وأنه ليس من العدالة ولا من الممكن أن ترغم أبد الدهر على قبول هذا الإرغام والإجحاف، وأنه خير للسلام الأوربي أن يسمح لألمانيا بالتعاون مع باقي الدول العظمى على قدم المساواة والتفاهم؛ هذا ومن جهة أخرى فقد رأت إنكلترا الفرصة سانحة لأن تلقي على فرنسا درساً في قيمة التعاون البريطاني، وأن تؤاخذها بطريقة عملية فعالة على موقفها في المسألة الحبشية وعلى ما أبدته من التلون والمخادعة والمماذقة في مؤازرة إيطاليا وتفويت غرض السياسة البريطانية من الضغط على إيطاليا وفرض العقوبات الاقتصادية عليها عن طريق عصبة الأمم؛ أما إيطاليا فقد رأت أيضاً فرصة سانحة للمساومة والمطالبة بإلغاء العقوبات المفروضة عليها إذا أريد أن تقوم بنصيبها من العهود المفروضة في لوكارنو
لهذا كان تصدع جبهة ميثاق لوكارنو ظاهرا؛ وكانت ألمانيا من جهة أخرى قد وضعت الدول أمام الأمر الواقع بمقترحاتها السلمية التي سجلها هتلر في خطابه، وخلاصتها أن ألمانيا على أهبة لأن تعقد ميثاقا بعدم الاعتداء مع فرنسا وبلجيكا لمدة خمس وعشرين سنة لكي تضمن سلامة الحدود بين ألمانيا وبينهما وأن تعفي إنجلترا وإيطاليا من ضمان هذا الميثاق، وأن تعقد ألمانيا بينهما وبين الدول الغربية ميثاقا جويا بعدم الاعتداء؛ وأنها أي ألمانيا على أهبة للعودة إلى عصبة الأمم بعد أن تقرر حقها كاملا في المساواة وأعيدت سيادتها كاملة وزال بذلك سبب خروجها من العصبة؛ وأنها تؤمل أن توضع تسوية معقولة لمسألة المستعمرات، وأن يفصل عهد عصبة الأمم من معاهدة فرساي؛ فهذه الاقتراحات الإيجابية كانت أيضاً عاملا آخر في شل سياسة العنف والمقاومة وتمهيد الطريق إلى محاولة أوربية جديدة في سبيل التفاهم وعقد المواثيق الجديدة
ولا حاجة بنا لأن نتبع هنا تلك المباحثات والمفاوضات المشعبة التي تدور في لندن منذ أكثر من أسبوعين؛ ويكفي أن نقرر أن السياسة الإنكليزية فازت بتحقيق الشطر الأول من برنامجها فحالت دون الصدام الخطر الذي كانت تثيره سياسة العنف حتما، وحملت فرنسا على التزام جانب الاعتدال والتروي، واتخذت لنفسها مرة أخرى دور الوساطة والتوفيق؛ ومهدت لاشتراك ألمانيا في المفاوضات الدائرة لتصفية الموقف وعقد تسوية جديدة على الأسس التي تقترحها إنكلترا بالاتفاق مع دول لوكارنو. وقد تمت المرحلة الأولى من هذه المفاوضات بعقد اتفاق تمهيدي بين دول لوكارنو وهي إنكلترا وفرنسا وبلجيكا وإيطاليا خلاصته أن تتعاون هيئات أركان حرب هذه الدول في وضع الخطط اللازمة لرد الاعتداء المدبر، وأن يرفع الميثاق الفرنسي السوفيتي إلى محكمة لاهاي لتقرير ما إذا كان مخالفاً لميثاق لوكارنو أم لا؛ وفي أثناء ذلك يجب أن تسحب ألمانيا جنودها من منطقة الرين، إلى مسافة عشرين كيلومتراً داخل حدودها الغربية وتحتل هذه المنطقة قوة رمزية من الجنود الدولية حتى تتم التسوية النهائية، ولا تزيد ألمانيا جنودها في منطقة الرين عما هي عليه، ولا ترسل إليها مواد حربية، ولا تنشئ فيها مطارات أو تحصينات، وتتولى الإشراف على تنفيذ هذه الشروط لجنة دولية محايدة؛ وتتعهد فرنسا وبلجيكا من جانبهما بالمحافظة على الحالة الراهنة عند الحدود، وهذا مع تعهد دول لوكارنو بالمحافظة على تعهداتها تأميناً لسلامة فرنسا، فإذا وافقت ألمانيا على هذه التسوية التمهيدية فإنها تدعى للاشتراك في مفاوضات عامة تجري على أسس مقترحات هتلر، وحل مسألة الرين، وعقد ميثاق جديد بالضمان المتبادل يحل مكان ميثاق لوكارنو. وإذا رفضت ألمانيا هذه التسوية فإن دول لوكارنو تعيد النظر في الموقف كله؛ وإلى كتابة هذه السطور لم تكن ألمانيا قد قالت كلمتها. على أنه يلاحظ أن الاتفاق التمهيدي مع ميله نحو الوفاق ينافي مبدأ المساواة الذي تصر ألمانيا على تطبيقه، ولهذا يرجح أن ترفضه ألمانيا أو أن تدخل عليه من التعديلات ما يحقق في نظرها مبدأ المساواة الحقة، وعلى أي حال فإنه لابد من مفاوضات ومراجعات طويلة أخرى قبل أن تحظى مسألة الرين بحل يستقر معه سلام أوربا مدى حين
وليس من ريب من أن ألمانيا قد قطعت بتصرفها الجريء خطوة حاسمة في سبيل استكمال سيادتها وهيبتها كدولة عظمى وفي أنها ستخرج ظافرة من هذا النضال السياسي، ذلك أن الدول الغربية، وأوربا كلها، ترتعد كلما لاح لها شبح الحرب؛ بيد أن تصرف ألمانيا في مسألة الرين سيغدو أيضاً نذيراً جديداً لفرنسا يحملها على مضاعفة حذرها واهبتها للمعركة القادمة الكبرى
(* * *)