مجلة الرسالة/العدد 142/إلى أخي الزيات
→ ../ | مجلة الرسالة - العدد 142 إلى أخي الزيات [[مؤلف:|]] |
دُعابةُ إبليس ← |
بتاريخ: 23 - 03 - 1936 |
للأستاذ أحمد أمين
سعيت أمس لعزائك، في (رجائي) و (رجائك)، فرأيتك واجماً ساهماً، مولهاً مدلهاً، فانعقد لساني، وتخلف ذهني، وفاض دمعي
وكيف أستطيع عزاءك وما استطعت أن أعزي نفسي؟ أو كيف أستطيع أن أخفف ما بك وما استطعت أن أخفف حزني؟
رأيت بك كمداً باطناً، وحزناً مكتمناً، فعلمت أنك تتجرع غصص الهم، وتختزن برحاء الكرب، فتمنيت أن تخفف عنك بصرخة، وتنفس عن نفسك بدمعة، ولكن عز الصبر، وعز الدمع، فما هي إلا زفرات تذيب لفائف القلوب وتنفطر لها المرائر
واو رحمتاه لك! لقد كان (رجاء) قبلة رجائك، ومعقد آمالك، وحديث أحلامك، وملء سمعك وبصرك، تشوفته حياتك، وترقبته مطلعَ شبابك، حتى جاد به الزمان البخيل، فربطت اسبابك بأسبابه، وتعلقت بأهدابه، فلما شمت مخايله، ورقبت منه النجح، عدا عليه الدهر الذي لا يرعى ميثاقاً، ولا يثبت على عهد، فأخلف ظنك، ونقض أملك، فإذا الدنيا أضغاث أحلام، ووساوس أطماع
ولكن يا أخي - ما الجزع مما لابد منه، وما الهلع مما قدر، ومثلك من يعرف مقدار الحياة وهوانها، أفليست إلا مرسحاً تمثل عليه أدوار مختلفة، مرة مهزلة، ومرة مأساة، ونحن في حين ممثلون، وفي حين ناظرون. وليس لنا أن نبالغ في الألم، ونغلو في الجزع، فقد كان يكون لذلك وجه من الحق لو ذهب من ذهب أبداً، وعشنا بعده أبداً، وإنما الأمر دور يعقب دوراً، ولا حق منا إثر سابق، وإنا لله وإنا إليه راجعون
وأية سعادة نجدها في هذه الحياة حتى نحزن على الراحل، ونبكي على الميت، ونود أن لو بقى ليستمتع بها، ويتذوق طيباتها، إنما هي سلسلة عناء، وضروب شقاء، تنوعت ألوانها، واتحدت حقيقتها، ولو أنصفنا لغبطنا من مات، وأشفقنا على من بقى، ومن مات في صباه فقد اختصر الحياة واختصر همومها وأحزانها، ووفر على نفسه عبئاً ثقيلاً ينتهي مختصره بما ينتهي مطوله، وخير للزهرة أن تذهب وهي ناضرة تعجب الناس، من أن تذهب وهي ذابلة يعافها الناس فخذ الحياة كما هي، ليل ينقضي في أثر ليل، وقوم في أثر قوم، وحادث يستذرف الدمع يعقبه حادث يخفف الهم، وقل كما قالت الخنساء:
فلولا كثرة الباكين حولي ... على إخوانهم لقتلت نفسي
وما يبكون مثل أخي ولكن ... أعزي النفس عنه بالتأسي
وليس الوفاء للميت بالإفراط في الحزن، والإمعان في البكاء، إنما الوفاء بمقابلة دواعي الحزن بدواعي الصبر، وليست الحكمة في إضعاف الحي من أجل الميت، إنما هي في أحياء الحي من أجل الحي والميت
وقد أخطأ الناس فغلوا في استفظاع الموت والاحتفاء به، وهولوا في الاستكثار من مظاهره، ولو عقلوا لقابلوه كما يقابل كل قانون طبعي في هذا العالم، زهرة تنضر وتذبل، وشمس تطلع وتغرب، ونجم يتألق ويأفل، وسماء تصحو وتغيم - ولو عقلوا أيضاً لرددوا هذا المعنى في نفوسهم، واطمأنت له عقولهم؛ فإذا كان فهو ما تخيلوه، وإذا حدث فهو ما توقعوه، وإذن لخف الألم وانقطع الجزع
أي أخي - ليكن ما أراده الله، ولنلوّن حياتنا بلون من ألوان التصوف، رضاء بالقدر، واستخفاف بالعالم وما فيه، وطمأنينة إلى قوانينه، وإيمان بعظمة الله وسلطانه، والتجاء إليه أن يتولاك برحمته ويظلك بإِحسانه
أي أخي - لقد أصبحت منسرق القوة، ضعيف البنية، مرهف الحس، رقيق الصحة - ولئن كان الانتحار جريمة لا تغتفر، ويأساً لا يرضاه الله، فليس هو - فحسب - في إطلاق عيار ناري، أو إلقاء النفس في اليم، أو ما عهدت من ضروب إزهاق الروح، ولكن من ضروبه أيضاً الاستسلام للحزن والتسمم بالغم، والاسترسال في أسباب الكرب، فهو انتحار بطيء ولكنه شر من الانتحار العاجل أعيذك بالله منه، وأربأ بنفسك عنه
فهوّن على نفسك، وإن خاب رجاؤك في (رجاء) فحقق الله أملك في (علاء) وعش له ولنفسك وللناس
أحسن الله عزاءك، وأجمل صبرك، وأجزل أجرك
أحمد أمين