الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 141/صانعة الكراسي

مجلة الرسالة/العدد 141/صانعة الكراسي

مجلة الرسالة - العدد 141 صانعة الكراسي
المؤلف: غي دي موباسان
المترجم: فؤاد نور الدين
صانعة الكراسي La Rempailleuse هي قصة بقلم الكاتب الفرنسي جي دي موباسان نشرت عام 1882. نشرت هذه الترجمة في العدد 141 من مجلة الرسالة الذي صدر بتاريخ 16 مارس 1936



للكاتب الفرنسي (جي دي موباسان)

ترجمة السيد فؤاد نور الدين

أقام المركيز دي برتران حفلة شائقة على نخب صيد العام الجديد. فدعا أصحابه من أهل البلد. فالتف حول المائدة عشرة رجال تصحبهم ثماني نساء من ذوات الحسن والدلال؛ وكان الخوان موقراً بصنوف الزهر الزكي، وضروب الثمر الشهي؛ وقد ألقت مصابيح الكهرباء أنوارها المتلألئة على هذه الأنواع المختلفة من الزهر والثمر والطعام، فماجت تحتها موجاناً يستفز الشهية ويستقطر اللعاب

جلس في صدر المائدة على مقربة من المركيزة طبيب البلدة، وهو رجل متقدم السن، وقور الهيئة، يبدو على وجهه طابع الفطنة والذكاء

كانوا جميعاً يتجاذبون ألواناً ممتعة من الحديث اللذيذ والكلام الرقيق، فلما انتقلوا إلى حوار الحب، وماهية الحب، انبعثت بينهم تلك المناقشة الخالدة التي يراد منها أن يفهم: هل الحب المحض يدرك القلب المرء مرة في حياته أو أكثر؟

فكانت تورد أمثلة لأناس تيم قلوبهم الحب الصحيح مرة فحسب، وكانت تورد أمثلة لأناس آخرين أحبوا بعنف وقوة وهيام أكثر من مرة

كان الرجال بنوع عام يشبهون العشق بالأمراض، فكما أن هذه تعتور جسم الإنسان دوماً، فالعشق أيضاً يصيب فؤاده كثيرا ويكون في كل مرة من العنف والقوة والهياج بحيث يُؤثْر العاشق الموت إذا ما اعترضت سبيله علة من العلل

أما النسوة فكان رأيهن يستند أكثر ما يستند على الخيال والشعر، وينأى عن النظر والفكر. فكن يثبتن في حماس واندفاع أن الحب المحض، الحب العظيم لا يمكن أن ينبعث في القلب إلا مرة فحسب، حتى إذا تمكن منه ألهاه عن كل أمر، فأحرقه وألهبه، وكان فعله فيه فعل الصاعقة في الشجر والنبت، فكما أن هذه تحبس عنهما النمو والنشوء الجديدين، فهذا الحب أيضاً - يجعل القلب قفراً فارغاً لا يمكن أن تنشأ فيه أحلام تشبه أحلامه الأولى ولا أ تنبت فيه مشاعر تشبه مشاعر هيامه الماضي وعهده السالف

كان المركيز يدحض هذا الاعتقاد بكل ما أوتي من ذلاقة لسان، ومن حجة وبيان

كان يقول:

- أؤكد لكم يا سادتي أن الإنسان في مقدوره أن يعشق أكثر من مرة بكل جوارحه وبكل قواه. إنكم تعددون لي أمثلة أناس انتحروا من أجل الحب كأنهم عاجزون عن أن يعيشوا ليعشقوا ثانية. غير أني أجيبكم: إن هؤلاء الناس لو أهملوا الانتحار وتحاشوا هذا الحمق المجنون، لألفوا في الحياة ما يثير الحب جديداً في قلوبهم الجريحة ويحي موات الأمل في نفوسهم اليائسة، لأن من هام عاد إلى الهيام، ومن احتسى أولى الكؤوس عاد إلى سواها. تلك طبيعة المرء لا منصرف عنها ولا محيد

لما أتم المركيز خطابه وأعلن رأيه، انحدرت الأنظار إلى الطبيب تنتظر منه الحكم الأخير. قال:

- أنا لا أخالف المركيز في رأيه، فالهوى تتعدد فصوله وتتابع طوارئه على الفؤاد. غير أني عرفت فيما عرفت هوى دام خمساً وخمسين سنة، وما خمدت ناره ولا انطفأ أواره إلا بالموت

قال المركيز وهو يفرك يديه:

- ترى أهذا الحب محمود؟ وما وراءه من أمان وأحلام؟ وأي سعادة في أن يعيش المرء خمساً وخمسين سنة على غرام واحد؟

فابتسم الطبيب ابتسامة خفيفة وهو ينظر إلى المركيزة:

- إن الشخص الذي أتاح له القدر أن يكون معشوقاً طول هذه المدة كان رجلا وأنتم تعرفونه جميعاً، هو السيد شوكه صيدلي الناحية. أما المرأة العاشقة فلستم تجهلونها أيضاً، هي صانعة الكراسي العجوز التي كانت تفد أحياناً إلى القصر هاهنا:

بدت على وجوه النسوة ملامح الدهش ودلائل الاشمئزاز، كأنما الحب لا ينبغي أن يصيب فيما يصيب إلا المخلوقات المترفة المتميزة التي تستحق وحدها أن يبدي الناس لها عطفا واهتماماً

قال الطبيب: - منذ ثلاثة شهور دعيت إلى جانب هذه العجوز وهي على فراش الموت، وكانت قدمت في عربتها التي اتخذتها مسكناً لها وآلة ركوب تطوف البلدان عليها. يجر هذه العربة فرس مهزول ناحل لا شك أنكم رأيتموه. ويصحب العجوز كلبان أسودان هما صديقاها وحارساها. كانت دعت القسيس أيضاً لتكشف لنا عن رغباتها الأخيرة فنكون منفذين لوصيتها. فقصت علينا جميع أطوار حياتها. الحق إنني لم أسمع قصة أشد تأثيراً في النفس وأكثر غرابة في الأذن من قصتها. كانت حرفة والديها صنع الكراسي. ولم يكن لها سكن خاص في أرض معينة، فإنها طفلة كانت تطوف البلدان ممزقة الثياب معتلة الجسم يثير منظرها نفوراً واشمئزازاً. وكان أبواها كلما بلغا إحدى القرى وقفا عند مدخلها وأنشأ يصلحان الكراسي العتيقة والمقاعد القديمة تحت ظل الأشجار وهي تتدحرج لاعبة ضاحكة خلال أعواد العشب المشرئبة. فإذا ابتعدت قليلا عنهما أو أخذت في الحوار مع الصبية، فإنها لا تلبث أن تسمع صوت أبيها المغضب يقول لها: (ارجعي يا وقحة). فكانت هذه الجملة، الجملة الوحيدة التي تسمعها من أبيها

ولما ترعرعت بعض الشيء أرسلاها تلتقط أو تبتاع ما فسد من المقاعد. فكانت في تنقلها من مكان إلى مكان تتعرف إلى الصبيان وتأنس إلى الحديث إليهم. على أن ذويهم كثيراً ما صدوهم عنها وهم ينتهرونهم أشد الانتهار، ومنهم من كان يقول لولده: (ألا اقطعن الكلام مع هذه الشريدة الحافية الأقدام)

أما الفتية الصغار فما أكثر ما قذفوها بالحجارة من غير أن ينبس فوهها بكلام! وكان بعض النسوة أعطينها قليلا من دراهم، فاحتفظت بها وحرصت عليها

وبينما كانت تجوز هذا البلد في أحد الأيام وقد بلغت الخامسة عشر ربيعاً من عمرها، إذ صادفت خلف المقبرة شوكه الصغير وهو يبكي أحر البكاء، لأن رفيقاً له سرقه درهمين. فآلمها وهي البنت المسكينة، أن ترى طفلاً حضرياً يذرف دموعاً سخينة من حيث لا مواسي له ولا صديق. فدنت منه وما كادت تقف على سر بكائه حتى وضعت في يديه تلك الدراهم القليلة التي احتفظت بها. وكان طبيعياً أن يبتهج الطفل بالدراهم فأخذها ومسح دموعه. وكان منها أن جنَّت فرحاً بعمله، فأنشأت تعانقه وتضمه إلى صدرها وتقبله تقبيلاً حاراً دون أن يمانع الولد أو يصدها عنه لأنه كان لاهياً بفحص النقود ثم انصرفت عنه وقد فاض قلبها محبة لهذا الطفل

ولم يكن أحد يعلم ماذا جال في رأس هذه التاعسة من خواطر وأحلام، أتعلقت به لأنها ضحت في سبيله بثروتها المتجمعة من التشرد والانتقال، أم لأنها منحته أول قبلة وثب قلبها لها؟

خفي ذلك على الصغار والكبار

وظلت أشهراً تتمثل في خاطرها زاوية المقبرة التي شهدت فيها هذا الغلام وشرعت تسرق أبويها ما تصل إليه يدها من دراهم أملاً في لقائه ومصدافته. وكان في يدها آخر الأمر فرنكان. على أنها هذه المرة بدلاً من أن تلمح فتاها في محل منعزل، رأته خلف قضبان حانوت أبيه: بهي الطلعة نظيف الثياب، والقناني الحمراء والخضراء والصفراء تحيط به من كل جانب. فازدادت له حباً وبه كلماً، وبهرها ما ألفت لديه من مجد بادٍ في هذه المياه المصبوغة، ومن جلال ظاهر في هذه الزجاجات البراقة

فاحتفظ خاطرها بذكراه مدة، حتى صادفته في السنة التالية خلف المدرسة يلعب مع رفاقه، فهجمت عليه وقبلته تقبيلاً عنيفاً ريع له الولد وأخذ في الصراخ. لكنها سرعان ما وضعت في يده ثلاثة فرنكات هش لها الغلام وطرب، وحملق في وجهها في دهش وتعجب تاركا نفسه لها تداعبه ما رغبت في المداعبة، تعانقه ما اشتهت من عناق

وظلت أربع سنوات تقدم إليه ما تجمعه فيأخذه منها مقدماً إليها القبلات عن رضى وسرور. أعطته مرة فرنكين ومرة خمسة فرنكات، وهي قطعة كبيرة جعلته يضحك لها ويرقص طربا

لم تكن تفكر إلا فيه؛ أما هو فكان ينتظر عودتها ويرقب شخوصها إليه بصبر فارغ وشوق لجوج، حتى إذا أبصرها، جرى إليها مسلماً خده لقبلاتها، ويده لدرهمها. وما أشد خفقان قلبها عند ذاك!

وتوارى الغلام حقبة من الزمن عن عيانها لأنه انتقل إلى مدرسة أخرى. وعرفت هي انتقاله بمهارة وحذق، فأبلت في السياسة بلاء حسناً حتى حملت أبويها على المرور من هنا في الصيف. وكان مضى عليها سنتان دون أن تراه. فلما أبصرته كادت لا تعرفه. لأنها رأت أمامها بدلا من طفل الأمس فتى تفتحت ورود الصبا في وجهه، وابتسمت زهور اليفاعة في قده

نظرت إليه نظرة شوق ولهف. وكان منه أن تظاهر بعدم رؤيتها، ثم خطا أمامها ببزته الأنيقة ذات الأزرار الذهبية يملأ صدره زهو وافتخار، ويعلو برأسه أنفة واستكبار

وانصرفت عنه والدموع تسح من عينيها والزفرات تتصاعد من قلبها. وأصبحت بعد ذاك العهد أليفة أحزان، وصديقة آلام

وانطوت الأعوام متوارية خلف حجاب الفناء، وفتاتنا لا تنقطع عن الشخوص كل عام إلى بلده لتراه دون أن تجرؤ هي على تحيته، ودون أن يتنازل هو بإلقاء نظرة عليها

كانت تهواه بكل جوارحها، وهاكم ما أسرته لي (إن هذا الرجل يا سيدي الطبيب، الرجل الوحيد التي رأته عيناي، وما علمت بعد ذاك إذا كان يعيش في العالم سواه)

ومات أبواها واستمرت في حرفتهما، وقد صحبت من بعدهما بدلا من كلب واحد، كلبين هائلين يخشى الدنو منهما

وكان يوم دخلت في هذا البلد، فرأت امرأة في نضارة الصبا وربيع الحياة تصحب شوكه حبيبها، وقد تأبطت ذراعه وهما يخرجان من الحانوت معا

لقد تزوج إذن شوكه!

وفي مساء اليوم ألقت نفسها في الغدير القائم خلف المحكمة. واتفق أن رجلا كان يمر هناك، فأنقذها وقادها إلى منزل شوكه، فنزل هذا لعلاجها، ودلك بيديه مكان الألم من جسمها دون أن يتظاهر بعرفانها. ثم ما لبث أن قال لها بصوت جاف: (أأنت مجنونة؟ لا ينبغي أن تكوني هكذا حيواناً)

هذه الجملة وحدها بعثت فيها البرء والشفاء. ألم يتكلم إليها؟ حسبها ذلك! وظلت هائمة مغتبطة أمداً طويلا

قضت كل حياتها تذكر شوكه ولا تفكر في غيره. وكانت تلمحه في سنيها خلف الزجاج، وما أكثر ما ابتاعت عقاقيره وأدويته لا تبغي من شرائها إلا رؤيته والحديث إليه

وكما ذكرت لكم بديا، ماتت هذا الربيع وقد رجتني بعد أن قصت عليّ قصتها أن أحمل إلى هذا الذي أحبته حب العابد لمعبوده، جميع ما ادخرته من مال. لأنها كما اعترفت لم تشتغل إلا لأجله، تجوع أحياناً لتدخر له بعض المال. فإن ذكرها بعد وفاتها مرة واحدة فستشعر في قبرها بالسعادة والهناء

أعطتني عشرين وثلثمائة وألفين من الفرنكات. فقدمت العشرين فرنكا إلى القسيس لأجل دفنها، وأخذت الباقي لما فاضت روحها، وقصدت منزل شوكه، فلما دخلت كان وزوجه يتناولان طعام الغداء وقد جلس الواحد أمام رفيقه، والاحمرار يكسو وجهيهما، والسعادة تسبل عليهما ظلها الوارف وبشرها الطافح. طلبا إلي الجلوس فجلست، وقدما لي كوبا من مشروب (الكيرسك) فتناولته شاكراً وبدأت أنقل لهما القصة بصوت مضطرب حزين، لأني زعمت أنهما سيبكيان ويحزنان على أن شوكه ما كاد يفهم أن هذه الأفاقة الشريدة تضمر له حباً وولاء حتى جن جنونه وثارت ثائرته وشرع يثب من السخط والغضب كأنما سلبته المسكينة من المجد والشهرة، ومن العزة والشرف شيئاً كثيرا. أما الزوجة فكانت تصيح والغيظ يملؤها (يالها من نذلة! يالها من نذلة!)

ثم نهض شوكه وألقى بقبعته على الوسادة وأخذ يذرع أرض الغرفة جيئة وذهاباً كأنه أحد المجاذيب وكان يتمتم: (أو يمكن هذا يا دكتور؟ إن ذا لشيء فضيع! ما العمل؟ يا ليتني عرفت الأمر في حياتها! فلكنت أسوقها سوقاً إلى السجن بقوة الدرك)

فلبثت أنا كالمشدوه مما سمعته أذناي ورأته عيناي لا أدري ما ينبغي لي من قول ومن عمل. على أنني عقبت كلماتي: (سيدي إنها أوعزت إليّ أن أحمل إليك ما تركته من نقود، وقدرها ثلثمائة وألفان من الفرنكات. ولما كان ما نقلته لك من حديثها قد أثار فيك سخطاً وسوءاً، فلعل من الخير أن نهب النقود بعض الفقراء والمساكين)

نظرا وقد أفقدتهما الحيرة كل حركة!

فأخرجت المال من محفظتي، هذا المال المتجمع من بلدان عديدة والمدَّخًر من جميع النقود من ذهب وفضة وغيرهما. وسألته قائلا: (ماذا عزمت؟)

قالت السيدة شوكه: (مادامت ربة المحتضرة الأخيرة تقضي بذلك. فأرى من الصعوبة رفض إرادتها)

وقال الزوج واحمرار الخجل باد عليه: (إن هذا المال ينفعنا في اقتناء بعض الحاجيات لأطفالنا)

قلت عند ذلك بصوت جاف: (كما تشاء) قال: (هاته مادامت أوعزت إليك ذلك. فلن تعوزنا الوسيلة في إنفاقه إنفاقاً جميلا)

فقدمت إليهما الدراهم وصافحتهما وانصرفت

وجاءني شوكه في غد اليوم، وابتدرني قائلا: (هذه المرأة تركت عربتها، ماذا فعلت بها؟). قلت:

- لاشيء، خذها إذا أردت. قال:

- إنها تنفعني؛ سأجعل منها كوخاً لحديقتي

وهم بالانصراف فناديته قائلا: (إنها تركت أيضاً فرسها وكلبيها، ألا تريدها؟ فوقف مندهشاً وقال: (آه! كلا، لا حاجة بي إليها، ما أصنع بها؟ خذها أنت.) وأخذ يضحك ومد يده إليّ فصافحته بمودة، إذ لا ينبغي للطبيب والصيدلي أن يكونا عدوين

احتفظت بالكلبين، أما الفرس فقدمته إلى القسيس، وأفاد شوكه من العربة كوخاً لحديقته، وابتاع بالنقود خمسة أسهم في الخط الحديدي

هذا هو يا سادتي الحب العميق المحض الذي صادفته في حياتي

وصمت الطبيب

فأخرجت المركيزة من صدرها آهة حبيسة، وقالت والدموع تلألأ في عينيها:

(الحق أن النساء وحدهن يعرفن الحب!)

(حلب)

فؤاد نور الدين