مجلة الرسالة/العدد 140/تلخيص كتاب: الحاكمون بأمرهم
→ التاريخ في سير أبطاله | مجلة الرسالة - العدد 140 تلخيص كتاب: الحاكمون بأمرهم [[مؤلف:|]] |
الحياة الأدبية في بغداد ← |
بتاريخ: 09 - 03 - 1936 |
تأليف جاك بانفيل
بمناسبة وفاته في 10 فبراير سنة 1936
للأستاذ عبد الحليم الجندي المحامي
تتمة
طاف بنا بانفيل في النصف الأول من كتابه بطغاة التاريخ ليقدم إلينا طغاة العصر الحاضر؛ فنحن الآن في روسيا القيصرية حيث الشعب يجزي قياصرته الإرهاق الفظيع بالإرهاب الأفظع؛ وإن تعجب فاعجب لهذا القدر الساخر الذي جعل من أكبر القياصر حبّا للشعب أكبر صرعى الإرهاب وهو القيصر (نقولا الثاني). . نشطت الشرطة في أعقاب ذلك المصرع ولكن نشاطها كان متجها نحو (الأنفار) لا نحو القادة، فنجا من طغيانها دعاة جيهنميو (كالفالديمير أوليانوف) أولئك الذين جعلوا شعارهم (كل شيء، أو لا شيء)
نفي الفتى - بل الأستاذ - فالدمير سنتين في سيبريا، وفي سنة 1896 ألف جمعية الكفاح، وفي سنة 1903 افتتح مؤتمر بروكسل للعمال، وعقب ذلك أنشأ في لندرا حزب العمال الروس الديمقراطي
وفي سنة 1905 اندلع لهيب الحرب بين اليابان وروسيا فكانت فرصة نادرة، فمشى إلى قصر الشتاء مائتا ألفٍ من العمال يحدوهم قسيس ليقدموا إلى سدة القصر ملتمساتٍ متواضعة، فقابلتهم المدفعية بالنار على عتباته، وكأن أركان الإمبراطورية الأربعة كانت في الانتظار، إذ شجرت القلاقل في كل ناحية وذُبح الغراندوق سرج، وساد الإضراب في أرمينيا وبولنيا وسبستبول؛ وعبر فالدمير - لينين - الحدود ليختبئ في موسكو، وليؤلف جيش الثورة الذي قاوم الحكومة تسعة أيام ثم انهزم، ففر ليتين وراء الحدود ليكون الحزب البلشفي في سنة 1912 وليرقب الفرصة المتاحة
ومضت سنوات سبع كان على لينين في منفاه أو في مهربه أن يدبِّر فيها للثورة تد الأستاذ الخبير، فلقد كان يقول: (إن الثورة فن)
وفي سنة 1914 عندما ارتفع بخار الدماء في سماء الدنيا هدأت أعصاب لينين! وأخذ يتحرك، فأهاب بالعمال في العالم أجمع أن يُلقوا السلاح ليتخلصوا من الطواغيت إلى الأبد، وليجعلوا من رأس المال أسطورة تُحكى للناس، أُزيلت من عالم الواقع الحاضر، وجاءت الظروف تضع الأحجار في بنيان هذا الطاغية - والمصادفة دائما في خدمة الدكتاتوريات - إذ سرت الرعدة في كيان الإمبراطورية الذي شاخ؛ فالحرب بدت مجزرة فاشلة، والفيالق أخذت تتذمر فقامت قيامة العمال في 8 مارس سنة 1917، وفي 100 ساعة فقط هوى عن العرش آخر أبناء رومانوف
وتطلعت الثورة تريد رأس حكيم يحركها. . وتطلع لينين إلى الألمان فنقلوه إلى روسيا في قطار مسلح في حاشية من ثلاثين هداماً من زملائه، ووصل الركب إلى روسيا، وأخذ لينين يناضل الحكومة المؤقتة لتكف عن مواصلة القتال في الحرب الكبرى، فوجهت إليه تهمة الخيانة العظمى وأوشكت أن تظفر به، ففر من جديد ليعود بعد شهور ومعه (الفنان الأكبر) فنان الثورات (تروتسكي)
وضع الفنان الأكبر خطةً هي آية الفن الثوري الحديث؛ فعمد إلى المصالح الميكانيكية، وهي التلغراف والتلفون والبريد والكهرباء والسكة الحديد؛ وعهد في الاستيلاء عليها إلى فئة قليلة من المحاربين في زي عمال، وأمّر عليهم طائفةً من المهندسين المهرة، فلم يمض يومان حتى كانت هذه السواعد الفتية قد وصلت إلى نتائج باهرة برغم قلة عددها، إذ كان اتحاد الغاية مع تشعب الأهداف الأولية سبباً في عجز الجيش وضعف حيلة الحكومة عن مواجهة المخربين، وهكذا استطاع (تروتسكي) أن يعزل العاصمة عن الإمبراطورية، ثم استطاع أن يصدر الأوامر إلى أنحاء الأرض النائية؛ وبعد مناورات هندسية أخرى سار بفيلق صغير صوب القصر وسلط عليه شواظاً من جهنم ترسله مدافع الطراد (أوردرا) فتفتحت الأبواب للطارق الفظيع ودعا إليه (لينين)!. . واستسلمت روسيا إلى الشيطان، ودان له النواب في مجلس (الدوما)
وابتدأ لينين يحكم باسم الحق والعمال، ففرغ من الألمان بالمعاهدة، وتفرغ إلى روسيا بالحديد والنار ليفرض عليها أفظع طغيان يرتعد من هوله التاريخ، ويتضاءل أمامه (نيرون) وألف نيرون!
ثم عجزت نظمه جميعاً وقامت جورجيا تطلب استقلالها فسار إليها (تروتسكي) في جحفل أغبر ليمسح حركتها من الوجود؛ وبدا لعين الطاغية الأعظم فشل مشاريعه فأخذ يقول: (لقد هدمنا أكثر مما نستطيع بناءه) وأخير أصابه الشلل وشب إلى جانبيه طاغية جديد هو ستالين
ومات لينين وخلفه ستالين، فاستهل حكمه البلشفي أبرع استهلال، إذ طوح بتروتسكي إلى أقصى الأرض ليُنبذ من دولةٍ إلى دولة كأنه الطاعون؛ وليكتب في الصحف كل يوم ليعيش. . (وهكذا - مثل ساتيرن - تأكل الثورات بنيها) واخترع ستالين نظام السنين الخمس، وطنطنت له الإذاعات والإعلانات في مشارق الأرض ومغاربها، ثم خفت الصوت وسكنت العاصفة لما مُني به المشروع من إخفاق
أما الشعب فما يزال جائعاً كما كان قبل الثورة؛ وأما الأمية فما تزال - على الرغم من الإحصاءات الرسمية - متفشية؛ وأما الإنتاج والرغبة فيه، وأما الرواج والحضارة، وأما الشعراء المستقلون والكتاب، فكل أولئك ومعهم خمسة ملايين من الناس نفوا من روسيا في الجزر الروسية أو في سائر أرجاء الكوكب المعمور
ولابد أن يرتفع هذا الكابوس عن روسيا إذا مات طاغيتها الجاثم على صدرها فهو نظام لم يبدأ من الشعب ولن ينتهي إليه
بعد ذلك يبهرك (بانفيل) بوثبة بديعة من وثبات السحر البلاغي تخلبك طلاوتها لأنها تنقلك كسائح في الجنة إلى قطر إسلامي شقيق فإذا بك أمام يراعةٍ منتشيةٍ كلها إعجاب، وإذا بك بين يدي (أتاتورك) العظيم. .
يقدم المؤلف تركيا الجديدة بكلمة لأحد مندوبيها في مؤتمر لوزان موجهة إلى أعضاء المؤتمر: (لماذا تريدون معاملتنا كالمتوحشين؟ إننا جميعاً في هذا الوفد نحمل شهادة الدكتوراه في الحقوق من جامعة باريس!) وأنت تكاد تلمس من العبارة أية جماعة تأخذ بيد مصطفى كمال وتعاونه، وأية أفكار جديدة تنشرها هذه القوى الناهضة، دون قعقعة أو جلبة على طرائق موسوليني وهتلر وستالين، ففي مصطفى كمال كثير جداً من (واشنطن) وفيه أيضاً من (جنكيز خان) ولد في سنة 1880 وتعلم بالمدارس الحديثة وتلقى العلوم الحربية وصار (كابتن) في سنة 1904، وفي سنة 1912 اتهم في مؤامرة على السلطان، ثم عمل في جيش القوقاز وفي الجزيرة أيام الحرب الكبرى
وعندما هادنت تركيا الحلفاء وأراد الباب العالي أن يبيع الأتراك لإنجلترا رفض كمال تسريح قواته، ووقف في وجه الحكومة ونازل اليونان فقذف بهم وبالإنجليز من ورائهم إلى أعماق البحر الأبيض المتوسط؛ ثم سحق الثورة الكردية وعقد معاهدة لوزان، وأنشأ المجلس الوطني الكبير، وألغى الخلافة، وصار الغازي رئيساً للجمهورية
ونفح في الصور ليبعث الأتراك من جديد!
وألغى الطربوش لتُلبس القبعة؛ وطاف مصطفى كمال في البلاد يهيب بها أن تستجيب لندائه؛ ورُفع الحجاب ووضع القانون المدني، وصار الزواج مدنياً بعد أن كان دينياً، وأدخلت الحروف اللاتينية في الأبجدية التركية
وهكذا جعل الغازي من أمته التي كانت مضرب المثل في الجمود، شعباً يستسيغ الإصلاحات الطافرة، ولو جاءته في سرعِة الأفْلام. .!!
وبعد أن قضى على الحاضر المضارع التفت إلى الماضي ليستخدم العلم والتاريخ في مجد أمته؛ وليس فخرها في (عثمانيتها) بل فخرها في أنها (تركية)، ولم يعدم البحاث والمنقبون عن الآثار في الأناضول معالم ومشاهد وآثاراً تثبت قدم الأتراك وآبائهم (الحيتين)؛ ثم اتجه الرجل العظيم إلى تطهير اللغة التركية من الغريب، وعمل رجاله في ذلك أعمالا جبارة، لكأنهم يخلقون الناس معهم من تاريخ نهضتهم فحسب! فمنذ عامين فقط شيعت الجموع شاعراً قومياً، ومشى الشباب وراء جثمانه وهم لا يفهمون شعره كما كان يجب، لأن لغته أصبحت لغةً قديمة. . .!! ولذلك فقد نفذت المعاجم من الجديدة أول ما عرضت في الأسواق
يُعطيك هذا العمل الأخير خير فكرة عن قوة اتجاه هذا الدكتاتور نحو الإنشاء؛ حقاً إن التركي يلقي هذه الهزات التي يهتز لها كل كيانه بعلامات استفهام وعلامات تعجب، لكنها ستجره معها يوماً على كل حال
يقولون إنه يعيش كأبطال الأساطير بين اللهو والقصف، ولربما بدا وجهه للناس بعد عشرين عاماً كوجه سلطان من السلاطين، لكن الذي لا مراه فيه أن قدم الدليل الناهض على مقدار ما يحقق الرجل القادر للشعب القادر من رغبات الانتصار وفي التقدم
ثم يقول المؤلف - فهذه غايته من مؤلفه - (وإنا لا نحسب أن الشعب الفرنسي يُسيغ هذه الطرائق فالثورة الكبرى نفسها لم تستطع أن تقسره على أن يقبل حتى الأسماء الجديدة لشهور السنة! مع ما في هذه الأسماء من الملاءمة والاتساق!!)
والآن إلى قيصر!
لا قيصر الكرنفال، ولكن عبقرية أمةٍ زاخرة بالكفايات حافلةٍ بالمواهب ما أسرعها في الاستجابة إلى حاجات الساعة وضرورات السياسة تستعرض الماضي من مفاخرها لترفع على القوى منها عمد المستقبل المجيد
وليفهم القارئ الفاشستية يجب أن يرتد ببصره إلى سنة 1915 عندما ساقت إيطاليا جيوشها إلى الساحة إثر نزاع بين المحايدين من أتباع (جبوليتي) والمتدخلين من أشياع (دانونزيو)، فلما انعقد لواء الظفر للحلفاء حسب الساسة من رجال المدرسة القديمة أن الأمور ستجري رتيبة، وستعود سيرتها الأولى دون أن يحسبوا للتيارات الجديدة حسابا
نشأ موسوليني لأبٍ يطرق الحديد، علمه شديد القوى؛ ثم صار معلماً، ولكن ثوريا، فطردته ثوريته من وظيفته وهاجر إلى سويسرا فلم تطب لها ضيافته، ثم عاد إلى إيطاليا ليؤدي الخدمة العسكرية، ثم ارتد يضرب في الآفاق من جديد ليتتلمذ على (سيزار باتستي) في النمسا، وهنالك عثر على الكنز المفقود؛ فلقد كان (باتستي) فيلسوفا وداعيةً وطنيا من أكبر الغلاة حتى امتلأ ذهن تلميذه بجمهرة من أفكاره الوطنية امتزجت باشتراكيته فصيرته رجلاً من طراز خاص. ولما ولاه أستاذه تحرير جريدة (بوبولو) لم يكن يكتب، ولكنه كان يحارب، ولم تكن جمله عبارات وإنما كلماتٍ من لحم ودمٍ؛ لذلك الزمه البوليس بترك النمسا فتركها إلى سويسرا لينشئ الجمعيات ويدبر ثورةً للعمال الطليان
وفي سنة 1914 حسب الفرصة أتيحت له عندما قتل ثلاثة من العمال، وانتشر الإضراب وأعقبته القلاقل، ولكن الفشل كان من نصيبه، حتى إذا أعلنت الحرب الكبرى وانقسم الرأي العام جرد موسوليني قلمه ليحارب، ودخلت إيطاليا الحرب. وفي 22 مايو سنة 1915 يوم تجريد الحملة عبر موسوليني عن رسالته في كلمة بليغة قال: (. . لقد تحملنا من الخسائر ما تحملنا في السنوات الفارطة. وها قد دنت ساعة الخلاص: فلتفتتح إيطاليا لنفسها عهداً جديداً في العالم، ولتنل قسطها من السيادة في الأرض)
واشترك موسوليني في الحرب ورجع بأربع وعشرين رصاصة في جسده؛ وفي سنة 1917 ألقى الطليان سلاحهم وعادت الجيوش مهزومة ساخطة، وضربت الأزمة الاقتصادية بجرانها على كل الطبقات، ولاحت في الأفق معالم الشيوعية الحمراء، وشرعت موسكو تبعث رسلها وأموالها إلى إيطاليا، وابتدأت القلاقل والمجازر في كل المدن الإيطالية على مسمع من الحكومة
ولما وجد موسوليني أن رجال الحكومة خروا صما وعمياناً أمام الطوفان، هب ليلقاه بجسمه وبصحيفته، وبحزب جديد؛ فلم تمض شهور ستة حتى كان له من الأتباع خمسة وعشرون ألفا
وفي 3 ديسمبر سنة 1919 أعلن الشيوعيون الإضراب العام وفرض القوم سلطانهم في كل مكان بمذابح مروعة، يقشعر من هولها الإنسان، والحكومة لا تتحرك، وكأن الأقاليم لا تُسمع روما صرخاتها الموجعة! ثم أخذ العمال المهندسين رهائن في 29 أغسطس سنة 1920، واحتلوا المعامل، وأطلقوا الرصاص على الجيش ونهبوا مخازن السلاح. . . وهوت العملة، ولم يبق للنقد سعر، وتساءل الناس: (إلى أي طريق نحن مسوقون؟)
كل ذلك والحكومة كأنها ليست في روما ولا في أي مكان.
عندئذ نظم موسوليني رجاله ليحاربوا الثوار حرب عصابات حيثما ثقفوهم، فأعادوا الأمن، وطمأنوا الناس، وخفق باسمهم كل فؤاد مروع؛ وأخذ ينضوي تحت لوائه الأب الهلوع، والأم المثكال. وفي سنة 1921 دخل الانتخابات وخرج منها ظافراً بخمسة وثلاثين نائباً، كان يتزعمهم في البرلمان كأمهر ما يتزعم السياسي العتيد؛ ثم عقد مع الاشتراكيين (هدنة!) ليدبر لهم مقتلاً. . . وفي أكتوبر عقد المؤتمر الفاشستي من 2200 شعبة تمثل 310 آلاف، وتلا الرجل برنامجه: (السلام في الداخل والقوة في الخارج) فصفقت له الأمة بجموعها
وفي سنة 1922 كانت الحكومة تتساقط كقصور الورق، وعجز الملك عن تأليف وزارات استقرار، وكان الرعب الشيوعي يتفاقم، فلم يتردد الفاشزم عن احتلال مدائن بأسرها لتطهيرها من الطاعون الأحمر؛ وأعلن الشيوعيون الإضراب؛ وأعلن موسوليني تجنيد رجاله ليعملوا بدلاً من المضربين، وأنظر الحكومة ثمانية أيام على البغي الشيوعي، وإلا فهو حال محلها؛ وختم نداءه بصيحة داوية: (يا رجال الفاشست. . . إن إيطاليا لنا)
وفي ثمانية أيام عاد دولاب الأعمال إلى الانتظام، فكتب موسوليني إلى رئيس الحكومة يقول: (إن الأمة تعبت من هؤلاء الحكام الذين يترددون بين الدناءة والإهمال) فأجابه بدعوته إلى الاضطلاع معه بأعباء الحكم، فرفض إلا أن يعطى هو الوزارات الهامة؛ وختم رفضه قائلاً: (إن لديه من القوة ما يكفي لينال دست الأحكام) وأعلن الزحف على روما. . . وزحف الفتيان على روما فعلاً؛ وطلب الوزير من الملك أن يعلن حالة الحصار، فرفض جلالته، لأنه كان يعلم ما هي الفاشزم، ولأنه عهد بالوزارة في الغد إلى موسوليني
كان بعد ذلك ما كان مما يعلمه الكافة من بعث إيطاليا كرةً أخرى لتضارع أكبر دولات التاريخ. وبعد ثلاثة عشر عاما من جهود فرق البشر في كل مرافق الدولة، غدت إيطاليا أمة تعرف الدنيا كلها مقدارها
ويختتم المؤلف بتحية الدكتاتور البارع داعياً له الله أن يقيه رد الفعل الذي يصيب الكثيرين من رجال الثورات. ثم يقول ناصحاً أمته على عادته في ختام حديث كل جبار - (فليحذر المقلدون من الفرنسيين، ولا يحسبوا أن هذه الأساليب مأمونة عواقبها في فرنسا؛ والإنتاج الطائفي الذي يقوم عليه نظام موسوليني لا يمكن أن يطيقه فرنسي واحد؛ وقبل أن ننسخ صورة طبق الأصل يجب أن نفهم ماذا ننسخ)
وهذه شبه جزيرة الأندلس: نشأت فيها دكتاتورية مخفقة على يد بريمو ديريفرا في أسبانيا، لأنها لم تخلق غذاء للرأي العام، ولأن رجلها لم تكن له فكرة محدودة يتبعها، كما نشأت فيها دكتاتورية من أبدع الدكتاتوريات في البرتغال على يد الأستاذ سالازار. . . ترك الأستاذ سالازار كرسيه في الجامعة بعد أن هتف به الرأي العام لإنقاذ الجمهورية إثر رفض شروط القرض التي شرطتها عليها عصبة الأمم، فوضع الأستاذ شروطه قال: (. . . وليمنحني الشعب ثقة ليس لها حدود، وله ألا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، ولكن عليه الطاعة عندما آمر. . .) وهنا يُعنى المؤلف بإظهار مدى تأثير ثقافة المؤلفين الفرنسيين في الساسة المعاصرين، فينوه بآثار صديقه (شارل موراس) الذي اتهم بتدبير الاعتداء على (ليون بلوم) في جنازة المؤلف!! ثم يشرح المؤلف طريقة سالازار وهي: الدولة أولاً والديموقراطية ثانيا، ويختتم كلامه بقوله: (يقولون عن جمهوريتنا إنها جمهورية الأساتذة. . . والحق إن البرتغال هي بلا مراء جمهورية الأساتذة) فأن نظام سالازار ما يزال يؤتي ثمراته البديعة منذ عشر سنوات
وهذا آخر رجال الحكم المطلق (أدولف هتلر) يتصدى له المؤلف في ريبة الخصم، ولكن في نزاهة الباحث، فهو خطيب خارق للعادة، وداعية في الهواء الطلق، نشأ بناء، ثم حارب في الحرب الكبرى، ولما حاول الانقلاب مع لودندورف سجن شهوراً كتب فيها كتابه (كفاحي) فغدا الكتاب إنجيلا للألمان، ولو أنه كأثر من آثار الفكر لا يساوي حبة من خردلة، ففيه كلام فارغ عن اليهودية والآرية، وفيه كلام عن استرداد النمسا - من النمسا! والأزاس واللورين من الخصم الخالد. . . فرنسا، والتيرول من إيطاليا؛ وفيه كلام عن الحركة الاشتراكية
وفي سنة 932 كانت هذه الأمة التي تخلبها التشكيلات العسكرية قد انخرطت أغلبيتها في سلك (فرق الهجوم) و (أصحاب القمص السمراء) فكان هتلر يسيطر على مصائر ألمانيا، وفي 30 يناير سنة 933 دعاه هندنبورج للوزارة فلبث غير قليل ليعمد إلى (شليشر وزوجته) فيقتلهما، وليطهر الحزب من (روهم) على طريقة (الجانجستر) في شيكاغو؛ وأخذ هتلر وجيبلز يغنيان الأناشيد للشعب الألماني. وكلما خطبوا صدحت الموسيقى فانتشى الشعب من الموسيقى ومن الأغاريد وسار وراء فرسانه
وبدأت محاولة التعقيم، وحرب الكنيسة، وتشريد اليهود في ألوان قاتمة من التعذيب، وبدأت وسائل الجهاد الداخلي والنشاط القومي توجهها كفايات ممتازة. . . أما عن الخطة الاجتماعية فأن الشك يساور الأنفس، فهناك ملايين من العاطلين محشودة في (معسكرات العمل) لن تُوَجه في الغد إلا إلى الميدان. .!
أما هتلر فما يزال في طريقه
فلتصح فرنسا
وبعد (فالدكتاتورية نظام ككل النظم) ولقد تكون خير شرعة شرعت للناس، إذا دعت إليها ظروف الساعة؛ وقد لا تكون إذا لم تدع إليها الظروف. . . وإذا كانت العمليات الجراحية بغيضة إلى نفوسنا، فلنعمل على ألا تكون فينا جراح، لأننا لن نستطيع عند وجودها أن نتفادى مشرط الجراح
ولابد مما ليس منه بد
عبد الحليم الجندي